الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفهوم الاجتماعي للمدنية

محمد لفته محل

2015 / 12 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قبل كم سنة سُئلت عن معنى (المدنية) من إنسان بسيط سمعني ارددها في حديثي، وتفاجئت بالسؤال كوني لم أفكر بمعناها ولم استطيع أن أعطي جواباً شافياً واكتشفت عندها إني أجهل معنى هذه الكلمة الاصطلاحي التي كنت اسمعها كثيراً بالتلفزيون، حاولت معرفة معناها من اشتقاقها اللغوي (مدن) كنقيض للحياة البدوية (بادية) والحياة الريفية (قرية) وهنا تصورت أنها القوانين الحكومية والعلاقات الإنسانية غير القرابية والعمران، وهذا أقصى ما توصلت إليه في تصوري لها ثم نسيت الكلمة حتى عادت وترددت في مظاهرات التحرير حيث كان الكل يهتف بها كعنوان دولة (دولة مدنية) وليست علامة مكان ومجتمع؟ وبصراحة فإني لم افهم هذه الكلمة إلا كونها نقيض للدولة العسكرية، أما بذاتها فإني اجهلها، فما هي المدنية؟.
قبل الدخول في تعريفات أكاديمية يجب أن اعرض تصور الناس لها في حياتهم العملية، تستعمل كلمة مدنية في حياتنا اليومية للتمييز عن الحياة العسكرية فكلمة (مدني) تفرقنا عن كلمة (عسكري) فهي تعني غير مسلح وغير منتسب لوزارة عسكرية، وفي الحروب فانه يتم التمييز بين العسكريين والمدنيين بالزي والسلاح، والجندي حين يلتحق بالخدمة العسكرية يقال له (أنسى الحياة المدنية) لان المجند سيعيش وفق ضوابط والتزامات صارمة تحد من حريته وهنا يقترب مفهوم المدنية من الحرية والحقوق، فالمدنية/الحرية هي النقيض بامتياز للحياة العسكرية/الانضباط، ويمكن استخدامها كنقيض للدولة العسكرية، فهل يمكن استخدامها كرفض للدولة الدينية في المظاهرات وهي نقيض للدولة عسكرية؟ هل بسبب اقترابها من مفهوم الحرية واقتراب الدولة الدينية من الدولة العسكرية من حيث الضوابط الصارمة؟. لكننا لا نستخدم المدنية في حياتنا كنقيض للتدين بل نستخدم كلمة (فاسد أو شراّب أو سرسري أو ﮔ-;-ﺤ-;-ﺑ-;-ﭼ-;-ﻲ-;- أو هتلي) الخ فكيف رفع المتظاهرون المدنية كنقيض للدولة الدينية؟. الاستعمال الآخر لها هو تسميتنا للهوية الشخصية (جنسية الأحوال المدنية) وهنا تستعمل هنا كوثيقة تقرر صفات وانتماء الفرد داخل الدولة، فالفهم الاجتماعي لها هو كنقيض للحياة العسكرية وتلمح للحرية والحقوق. وإذا كانت المدنية تشير للمدن والعمران والتكنولوجيا فلا علاقة لها بالدين إذن؟.
التعريفات الأكاديمية مختلفة بشأنها أيضاً إذ لطالما قدمت في الكتب على إنها رديف الحضارة والثقافة، يقول عالم الاجتماع (إحسان محمد الحسن) (في علم الاجتماع ليس هناك اتفاق بين العلماء حول مفهوم حضارة (Culture) وحول مفهوم مدنية (Civilization) فبعضهم يدعي بان مفهوم الحضارة هو مفهوم الثقافة ومفهوم المدنية هو مفهوم الحضارة. وبعضهم الآخر يقول بان الحضارة لا يمكن أن تكون الثقافة، فالحضارة (Culture) هي ذلك الكل المكون من الأفعال والتراث البشري الذي ينتقل اجتماعيا من جيل لآخر. وهذا الكل هو الذي يميز الإنسان عن نظيره الحيوان ويجعله الكائن الوحيد الذي يستطيع السيطرة على موارد الأرض سيطرة فعالة بفضل ما يتصف به من صفات فيزيولوجية غريبة وما يعتقد به من قيم وأخلاق ومقاييس قوية ومؤثرة. أما مفهوم الثقافة (Education) فيعني المعلومات والمؤهلات والخبر العلمية والفنية والتراثية التي يحملها أبناء المجتمع بعد دراستهم وتدريبهم واحتكاكهم بالواقع الاجتماعي. أما اصطلاح مدنية (Civilization) فيعني جميع المنجزات التي تميز طابع الحياة في المدينة المنظمة أو الدولة المنظمة. أو جميع المنجزات التي تميز الإنسان عن الحيوان، أي جميع المبتكرات التي اهتدى إليها الإنسان منذ مئات الألوف من السنين هي المدينة)(1) فإذا كانت المنجزات العمرانية والتكنولوجية هي المميزة للمدنية فإن الشعار المستخدم (الدولة المدنية) خطأ علمي واضح، لان بغداد تتصف بهذه الأوصاف؟. التعريف الآخر لها (مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني وتتمثل في إحراز التقدم في ميادين الحياة والعلاقات الاجتماعية وفي مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي التي تنتقل في المجتمع من جيل إلى جيل)(2) وهذا التعريف يقترب من تعريف الثقافة، ويعيدنا من حيث بدأنا، وعندما بحثت عن تعريفها في معاجم العلوم الإنسانية لم أجد أن المعاجم قد اهتمت بها، إما لكونها مصطلح حديث أو مازلت تعرّف مع مصطلح الحضارة والثقافة. و (محمد عابد الجابري) خاض في هذه الإشكالية إذ قال: إن الاستعمال المعاصر للمدنية في اللغة الفرنسية (ville=مدينة) (تجمع سكني جغرافي واجتماعي قوامه بنايات تخترقها طرقات وسكان يعملون في التجارة والمهن والصناعة..)(3) ولها استعمال آخر في اللغات الأوربية، أنها لفظة "السيتي" (citẻ-;-،city) وهي بلا مقابل بالعربي سوى كلمة تقريبية "الحاضرة" التي تشير إلى حضور القوم والى الحضارة، مع ذلك فا"السيتي" لا تعني الحضور فقط، إنها باللاتينية "سيفيتاس" (civitas) ومعناها:"الشخصية المعنوية والقانونية التي قوامها مجموعة من "المواطنين"(=سيتوايان بالفرنسية (citoyen) سيتيزن بالانكليزية (citizehs):سكان سيتي) ويعيشون بصورة مستقلة تسري عليهم نفس القوانين. وأفضل تمييز بين المدنية بمعنى "فيل" و"سيتي" هو قول (روسو):(المنازل تشكل المدينة(=فيل) أما المواطنون فيكونون السيتي)(4) فهي "اجتماع سياسي يدير اعضاؤه شؤونهم بأنفسهم"(5) وهذا التعريف هو أفضل معنى يقارب جوهر الاستعمال لكلمة (مدنية) لأنه ينقلنا من التعريف المادي إلى المعنوي والحقوقي لها. فهي في استعمالها الحديث تتعلق بالإنسان أكثر من العمران. فتقترب من الديمقراطية أو هي احد ركائزها إذ لا ديمقراطية بدون مدنية، إن المدنية تقريباً هي الضد النوعي لكل سلطة تسلب حق البشر في اختيار حكمه وإدارة وشؤونه الجماعية والخاصة، والعمران وحده ليس شرط المدنية إذ يجب أن يلازمها حرية الإنسان وحقوقه، فدول الخليج رغم عمرانها فهي مجتمعات قبلية وحكم وراثي وحقوق المواطن ليست بيده بل بيد ملك الحكومة، فليس له حق الاعتراض والتجمع على سياسات بلده، ولا يجوز وصفها بالمدنية.
فتسمية المدنية التي تدل على المدن في لغتنا العربية ليست مناسبة وهي من تثير اللغط المفاهيمي كما أوضح الجابري وليس لدينا مقابل لمعناها الغربي سوى (الحاضرة=سيتي) وهذه الكلمة غير مستخدمة إلا حين تلفظ (حضارة) وهنا تعود إشكالية التمييز بين المدنية والحضارة مجدداً؟ وهذا حال كلمة "مواطن" التي يراد لها أن تؤدي معنى "سيتيزن" بالإنكليزية و"سيتويان" بالفرنسية لا تعبر بدقة عن المعنى المطلوب، فهي تحيل إلى "الوطن" كما يقول الجابري، بالتالي فالمواطن هو من يشارك غيره في الانتماء إلى وطن، والوطن (patrie) (باتري) أرض قبل كل شيء وهو غير السيتي. إن عضو السيتي الذي يراد لكلمة مواطن، هو الشخص "الذي يتمتع بالحقوق الخاصة بأعضاء ال سيتي (مدينة أو دولة)، وذلك بعكس من كلمة "سوجي"(=أحد أفراد الرعية). ومن هنا شعار: "مواطنون لا رعايا".(6) إن المواطن بالمعنى اليوناني الروماني يتحدد معناه لا بانتمائه للوطن، بل بكونه يتمتع بحق المشاركة السياسية، حق المساهمة في تدبير المدينة وتسيير شؤونها. وبعبارة أخرى: هو الذي يتكلم ويناقش الشؤون العامة التي تخص المدينة.(7) فهل هناك من يبتدع مفردات عربية جديدة تواكب المفاهيم الحديثة مضموناً واصطلاحاً؟ أم نستخدم الكلمة بمعناها الغربي فنقول (دولة سيتية) نظير استخدامنا كلمة (ليبرالية) دون ترجمة؟ وشخصياً أفضل المقابل العربي لكلمة سيتي هو (عضوية) فهي تشير للحياة والوظيفة والتخصص بنفس الوقت، كقولنا (المثقف العضوي) أي الفاعل، وحين نقول (عضو) في حزب أو منظمة فإنها تعني الانتماء لمجموعة ومشاركتها أهدافها، فاستعمالها (كانتماء فاعل) لم يكن جزافاً، ليصبح شعار (دولة عضوية) أي أن أفرادها أعضاء فيها فاعلون متشاركون مستقلون كالأعضاء الجسدية التي يكمل بعضها بعضاً مع حفاظ كل عضو على وظيفته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1_أ.د إحسان محمد الحسن، مناهج البحث الإجتماعي، دار وائل للنشر الطبعة الأولى 2005، ص44.
2_أحمد خورشيد النوره جي، مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى لسنة 1990_بغداد، ص223.
3_محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة:بيروت آب/أغسطس2011، ص11.
4_نفس المصدر، ص12.
5_نفس المصدر، ص13.
6_نفس المصدر، ص 12.
7_ نفس المصدر، ص13.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون