الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعاً عن آمال العقلانية والعلمانية والتقدم

بدر الدين شنن

2016 / 1 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقول الرواية التاريخية الموجزة ، أنه في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي ، بعد فشل الشيخ " أبو حامد الغزالي " في دحض طروحات علماء الكلام في بغداد ، عاد إلى سيده الخليفة العباسي " المتوكل " وأخبره بفشله وقال له " لم يبق إلاّ السيف " . فكلف " المتوكل " السلفيين المتعصبين بحمل هذا السف . والسيف السلفي التعصبي الذي فتك بعلماء الكلام ، وأحرق كتبهم ، أغلق باب الاجتهاد ، وصادر العقل ، وأدخل المسلمين في نفق الظلام . ونتيجة لذلك ألغي حق محاكمة الظواهر ، والوقائع ، والضرورات ، والرهان ، وساد التعصب والجهل والتخلف العلمي والحضاري في كل المجتمعات العربية والإسلامية . ومنذ ذلك الحين بدأ ت المذهبية بالظهور ، دفاعاً عن الذات ، ولتخفيف تأثير القيود التي فرضت على حركة وحرية العقل . وطوال تسعمئة عام ونيف الماضية ، والمجتمعات العربية والإسلامية تتخبط في المتاهات والعدوات المذهبية التي أوصلتنا إلى ما نحن عيه الآن من ترد وانحطاط وإحباط ، وستوصلنا إلى ما هو أكثر تردياً وانحطاطاً وإحباطاً ، إذا استمرت قوى الإرهاب الدولي ، تجتاح مجتمعاتنا ، بشراستها وتدميرها ، وفرض عقليتها المتعصبة المتوحشة علينا .

وفي الظروف الراهنة ، حيث يكتسح هجوم التعصب " التكفيري " وأشباهه ، بالنار والدم ، معظم مجتمعاتنا ، وانحدر العقل إلى أحط درجاته . والعلماء على اختلاف اختصاصاتهم وعددهم ، قتلوا ، أو شردوا ، أو اختفوا ريثما يحصلون على ملاذ آمن في مكان ما في الخارج . والجامعات ، والمعاهد ، والمدارس ، ومراكز البحوث ، المنتجة لمقومات العقل والفكر تدمر بالصواريخ ، أو احتلت لتتحول إلى مراكز حربية ، وسجون ، ومراكز إعدامات للأبرياء . والقائمون على الحرب التكفيرية التجهيلية الجديدة ، يمعنون في إرهابهم ، وسحقهم ، لقيم ومؤسسات الفكر والتقدم ورموزها التاريخية والحديثة ، كما حدث في الموصل وتدمر وكافة المدن الأخرى ، وذلك بالتوازي مع سحقهم العمران ، وارتكاب المذابح الهمجية المتوحشة ،في سوريا ، واليمن ، والعراق ، ولبنان ، وليبيا .. فإن كل المثقفين ، والسياسيين ، الملتزمين بشرف الحقيقة والثقافة ، والفكر ، والإبداع ، وبحب الوطن ، والدفاع عن حقوق الإنسان ، والبحث ، والتفكير ، والاعتقاد ، والتقدم ، والاختيار ، مدعوون .. للتصدي لجريمة قتل العقل المتجددة باسم الدين .. أي كف سيف الإرهاب ضد العقل .. عن الفعل .

إن جريمة قتل حرية العقل والتفكير ، هي الأسوأ ، والأكثر توحشاً ، من جريمة قتل النفس . لأن جريمة قتل العقل والفكر تقتل المكون الرئيس للحرية ولإنسانية الإنسان بكل تعاريفها ، ومضامينها ، ومحدداتها . وبدون العقل والحرية بكل مجالات الحياة ، والفكر ، والمعتقد ، يقتل أسمى وأهم ما يعبر عن حضور الإنسانية والحضارة ، ويحول الإنسان المصادر عقله وحريته ، إلى حيوان مطبع .. إلى شيء يتحرك بآليات التعصب والجهل .

لقد اضطهد المتعصبون السلفيون في المغرب ، الفيلسوف ، والقاضي ، والطبيب ، والفقيه ، والفلكي ، والفيزيائي ( ابن رشد 1126 - 1198 ) الذي أعاد الاعتبار للعقل والبرهان . وأحرقوا كتبه أمام عينيه . ولما توفي رفضوا أن يدفن في المغرب . فحملوه وبعض كتبه على دابة ، ونقلوه إلى الأندلس ليدفن فيها . وفي الأندلس شق ما تبقى من صفحات كتبه سليماً الظلام الأوربي ، وكانت المشعل الرئيس ، الذي أضاء الطريق للنهوض الحضاري في أوربا .. وبقينا نحن في نفق ظلام التعصب والتجهيل .
وقتل المتعصبون في مصر ، المفكر ( فرج فودة ( 1945 - 1992 ) . وحاربوا فكره ودعوته للعلمانية ، وفصل الدين عن الدولة واحترام حرية الفكر والإبداع .
كما حاصر المتعصبون المصريون المفكر المصري ( نصر حامد أبو زيد - 1943 - 2010 ) . ورفعوا دعوة قضائية تتهمه " بالردة " .. أي هدر دمه .. ولتفريقه عن زوجه . فاضطر للهجرة قسراً وعاش غريباً يدرس في جامعة لايدن في هولندا ، وقبل أسبوعين من وفاته عاد مريضاً إلى مصر ، لكنه توفي نتيجة إصابته بفيروس قاتل مجهول .. أضيف إلى فيروس التعصب الذي قتل قسماً كبيراً من عمره في المنفى .

الآن تتكرر نفس الجريمة في تونس ، التي أبى المتعصبون السلفيون فيها ، إلاّ أن ينتهكوا قيم الثورة التونسية الرائدة ، فأرسلوا آلاف الشباب التونسيين ، المجهلين ، للجهاد في سوريا ، وليس للجهاد في فلسطين التي يحتلها الصهاينة ويفتكون بالشعب الفلسطيني طوال نحو سبعين عاماً ، ويتعرض المنتفضون الفلسطينيون يومياً للقتل في الشوارع أمام سمع العالم وبصره ، لصالح الدول الاستعمارية والعربية الرجعية وإسرائيل ، متجاهلين القيم الإسلامية ، التي تدعو إلى الدخول في السلم كافة ، وإلى طلب العلم ولو في الصين ، والتي تقضي أن لا جهاد لمسلم في بلد مسلم ، ولا حرب إلاّ على من اعتدى . وهم يعرفون أن البلاد التي يرسلون الشباب التونسي للقتال فيها باسم الجهاد هي بلاد إسلامية ، ولم تعتد سوريا مثلاً على تونس لا في الماضي ولا في الحاضر . وتفصل بينهما آلاف الكيلو مترات ، وتفصل أيضاً روابط الأخوة القومية ، التي تتمسك بها سوريا عبر تاريخها كله .

وقام المتعصبون السلفيون في تونس أيضاً بممارسة الاغتيال السياسي لعدد من الرموز السياسية الوطنية التونسية . كان أولها " لطفي نفض " ثم " محمد البراهمي " وبعده " شكري بلعيد " . ثم شرعوا بنشر الإرهاب على نطاق واسع ، وهاجموا الجيش التونسي الوطني ، وهاجموا المنشآت السياحية والخدمية ، لضرب الأمن والاستقرار والسياحة والاقتصاد عموماً في تونس ، وذلك لإضعاف الدولة التونسية ، ثم الانقضاض على السلطة ، والتسلط على الدولة والمجتمع ، والقضاء على إنجازات الشعب التونسي الديمقراطية ، وإعادته إلى أحضان التعصب والتخلف .

في هذا المناخ السياسي التونسي المضطرب ، وقع الهجوم ، البعيد عن مفاهيم السياسة الحضارية ، والفكر ، والعقل ، الذي شنه الصحافي " مقداد الماجري " مدعوماً من الجهلة المتعصبين ، على الأستاذة الجامعية المناضلة " آمال قرابي " واتهمها " بالردة .. أي هدر دمها .. تماماً كما يتهم " داعش " خصومه بالتكفير والردة ، ويستبيح ذبحهم ، الذي يوثقه على أشرطة فيديو ويعممه على الملأ . ومن الخطورة بمكان ، أن يتجاوب المتعصبون في أجهزة الدولة المصرية، وينسقون ، مع المتعصبين التونسيون ، بمنع الأستاذة " قرابي " من دخول مصر بجواز سفر نظامي يحمل فيزا صالحة للاستعمال لأكثر من شهر آخر . وأصبحت المناضلة " قرابي " ضحية ، محاصرة من قبل المتعصبين في مصر وتونس .

إن المتعصبين البسطاء ، الجهلة لمضمون معتقدهم الديني ، والمخدوعين بإرشادات التكفيريين المتخلفين ، علمياً ، وإنسانياً ، وحضارياً ، الذين يهاجمون الأستاذة " قرابي " ومن يدافع عنها ، إنما يهاجمون أنفسهم ، ويساهمون باستمرار الحجر على عقولهم ، ومصادرة طاقة التفكير والإبداع فيها ، ويشاركون ، دون تعقل أو تفكير ، في حرب الإرهاب الدولية ضد أهلهم وشعبهم في تونس ، الرائدة في التمرد على النظام العربي الديكتاتوري القبلي والشمولي ، كما يشاركون دون احترام لمعايير الأخوة والانتماء القومي ، في حرب الإرهاب الدولي ضد أشقائهم في البلدان العربية .

إن المقارنة الموضوعية ، بين " آمال قرابي " المتماهية بقناعة مشرفة بآمال ، العقلانية ، والعلمانية ، والتقدمية ، المتمثلة بفصل الدين عن الدولة ، وتطبيق مبادئ ومقتضيات العلمانية ، في أنشطة ومستويات الحياة الاجتماعية عامة ولاسيما في مؤسسات ومفاعيل الدولة ، والعدالة الاجتماعية ، وبين خصومها المتعصبين " الدواعشيين " ، المدعين زوراً ، الدفاع عن الدين وعن الرسول الكريم ، تظهر كم هي كبيرة " آمال قرابي " التي تتحدى كل هؤلاء المتعصبين ، في ذروة هجومهم الإرهابي الجنوني على مستوى تونس والوطن العربي .. وكم هي الآمال العقلانية والعلمانية والتقدمية ، التي طرحتها " آمال " كآمال توثق وتطبق في الوقت الراهن كضرورة مصيرية وحضارية .. من أجل أن يعم نور الحرية والإبداع والجمال ، والعدالة الاجتماعية .. كم هي عظيمة ومحقة .. ومؤهلة لتكون راية كل المناضلين ، من أجل مجتمعات عربية متحررة من الإرهاب الفكري والجسدي .. ومن طغيان وظلم كل أشكال التجهيل والتعصب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah