الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البوسة الآرامية في الشرق : هل هي الأقدم لغويًا ؟

سيلوس العراقي

2016 / 1 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كان للبوسة دائمًا مكانة في الحياة الإجتماعية للأنسان، وللشعوب، منذ أزمنة قديمة ولازالت، مع أن مفهوم البوسة يتغير بتغير المجتمعات. فالبوسة في الشرق لها معانٍ ومقاصد ورموز تختلف عمّا لها في الغرب أو لدى شعوب مختلفة أخرى في العالم.
إن كتب (التنخ) بكلِّ تأكيدٍ لا تقدّم لنا شرحًا أو مفهومًا مجردًا أو تعريفًا محدّدًا خاصًا بالبوسة.
إن كتب التنخ تعطينا صورة وأمثلة لِما كانَ عليهِ حالُ البوسة والأغراض منها ومناسبات إعطاءها وأخذها لدى الشعب العبراني ولدى شعوب أخرى محيطة بالعبرانيين.
وما يدعونا الى هذا القول، أنّ كتب التنخ تعتبر كتبًا شرقية، وكتبت من قبل كتّاب شرقيين، لتخبِرَ تاريخ شعب عاش ويعيش بين العديد من شعوب الشرق العديدة وفي حقب كثيرة ومختلفة من تاريخ الشرق القديم.
فتضمّ هذه الكتب في صفحاتها الكثيرَ من المعلوماتِ وتسجّلُ بصدقٍ ووضوحٍ الكثيرَ من العادات والتقاليد والأفاهيم في المجتمعات الشرقية، ويعود الفضلُ إليها في حصولِنا على معلوماتٍ نادرة لا يمكن أن تنوجدَ في غيرها، ولولاها لجهلنا الكثيرَ ممّا نعرفه اليوم بفضل أسفار التنخ.
فالأم (عمومًا وليس فقط الأم الآرامية القديمة !) بطبيعتها تداعب وتلاطف طفلها وتُربت على رأسه وشعره وتحضنه وتعانقه، وفي الملاطفة هذه تستخدم الأم حضنها ويديها وخدّيها وزنديها وشفاهها في مداعبة الطفل.
وبرأي الشخصي حين التأمّل في أصلِ البوسة، وإذا أردتم في أصلِ القبلة، كفعلٍ عمليّ قام به الأنسان، لا أعتقد بأنه في بداياته قد توصّل إلى عملية البوس والتقبيل بشكل مباشر، لأن الانسان قد اختبرَ كلّ شيءٍ في الأول عن طريق الحواس وأعضاءها، العين والكفّ والأنف، أي النظر واللمس والشمّ، وبما يخصّ القبلة، فالانسان قد اختبر أولاً الشمّ، شمّ الأشياء قبل تذوق طعمها ثم أكلها، وشمّ الأشياء ينسحب على خبرة شمّ الانسان الآخر أيضًا، وعملية الشمّ تتطلب قيامه بخبرة "تنشّق" الأشياء، ومن ثمّ تنشّق الأشخاص "نَشَقَهُمْ" الذين يعيشون معه. فيمكن أنْ نتصوّرَ الأمهات الأُوَل وهنّ "يتنشّقنَ" وجهَ وخدود أو رأسَ وشَعرِ أطفالهنّ حين كنّ يحتضنوهم ويلاطفوهم، وكنّ يشعرنَ بسكينة الطفل الباكي أو الخائف حين كان يشعر بأنفاس الأم التي كانت "تتنشقّ" وتلامس وجه وبشرة الطفل. وكان يرافق فعل "تنشّقِ" أنف الأم (هنا) وتماسّ الأنف بوجه أو خدّ الطفل، تماسًّا آخر هو تماسّ شفتيها على خدّه أو وجهه. لذا أرى (أتصوّر) أن الفعلَ الأول للقبلة أو البوسة كان عملية "تنشّق"، ومن هذه العملية ولد الفعل "ن ش ق" الآرامي الذي أخذ مع تطوّر الانسان (في لغته ومفرداته اللغوية) مكانة فعلٍ لغويّ للتنفس والنَفَسْ، ومن ثم أصبحَ فعلا لغويًا ليعني البوسة أو القبلة، ومن هنا ولد الفعل "ن ش ق" الشرقي القديم ليعني باسَ وقبّلَ.
بالتالي يصبح الـ "ن ش ق" فعلاً في اللغات الآرامية والسريانية والعبرية، يعني فعلاً حميمًا intimate، يقابل ما أصبح اليوم "باس" أو "قبّل" الذي لا يعني في أصله الا الترحاب الحار بقدوم واقبال (من قَبِلَ وقبول وقَبَلَ) واذا أردتم استقبال الآخر".
بينما يبدو الفعل العبري والآرامي السرياني وهو الأقدم : "ن ش ق "، الأكثر رمزيًا وحسيًّا للحميمية والعاطفية والحبّ من فعل "باس" الفارسي الأكثر استخدامًا أو من الفعل "قبّل" العربي . ويبقى هذا الأمر تأملاً لغويًا شخصيًا وقابلاً (!) للنقاش والمراجعة إن اقتضى الأمر.
وبخصوص البوسات موضوع بحثنا، يمكننا أنْ نرى أنواعًا مختلفة منها موثقة ووصلتنا مكتوبة:
والبوسة، بكل تأكيد لا تشمل الطفل فقط، بل تشمل بشكلٍ طبيعيّ أفرادًا آخرين من العائلة والأهل والأقارب.
ويمكن تمييز أنواع ثلاث رئيسية من البوسات في كتب التنخ العبرية:
سأستخدم الفعل" باس" الفارسي مترافقًا ذهنيًا مع "نشقَ" العبري والسرياني في ترجمتي هذه لنشعر بشمّ رائحة الآخر كتعبيرٍ حسيّ حميم للحبِّ.

بوسة "نشق" الوالدين لأبنائهم وبناتهم وأحفادهم :
ففي تكوين 31: 26ـ 28 يعاتبُ لابانُ يعقوبَ لأنه حرَمَهُ من شمِّ "نشق" נ-;-ָ-;-ש-;-ַ-;-ׁ-;-ק-;- ابنتيه وأحفاده قبل أن يهاجروا
"وقال لابان ليعقوب:
ماذا فعلت ؟
أقلقتَ بالي وسُقت بِنتيّ
كما تُساقُ سبايا الحرب..
ولماذا هربت .. ولم تدعني أبوس נ-;-ָ-;-ש-;-ַ-;-ׁ-;-ק-;- حفيدتي وبناتي.."
وفي تك 48 : 10 يمكن أن نتخيّل يعقوب الشيخ الطاعن في السنّ وهو يحتضن حفيديه ويشمّ (ينشق) وجهيهما وخدهما ـ يبوسهما ـ فيحتضنهما،
"وكانت عينا يعقوب كليلتين من الشيخوخة.. فقرّبهما إليه (يقصد حفيديه افرايم ومنسى ولدي يوسف)
فباسَهُما נ-;-ָ-;-ש-;-ַ-;-ׁ-;-ק-;- (ו-;-ַ-;-י-;-ִ-;-ּ-;-ש-;-ַ-;-ּ-;-ׁ-;-֥-;-ק-;- ) واحتضنهما" .
راعوث1: 9 نعمة في حديثها مع كنتيْها "يسهّل الربُّ لكما أن تجدا راحة، كلّ واحدةٍ في بيتِ زوجٍ لها، ثم باسَتهُما ו-;-ַ-;-ת-;-ִ-;-ּ-;-ש-;-ַ-;-ּ-;-ׁ-;-֣-;-ק-;- (נ-;-ָ-;-ש-;-ַ-;-ׁ-;-ק-;-)، فرفعتا أصواتهما بالبكاء".
ويبدو أن البكاء هو ردّ فعلٍ ونتيجة لنشق (شمّ) من تحبّ وأنت عارفٌ بأنك سوف لن تراه من بعد، سوف تُحرَم من شمّ ـ رائحة ـ وجهه العزيز الذي سيغيب. أو البكاء مع شمّ (تبويس) الشخص العزيز بعد غياب طويل.
نعرف أن التقليد الشرقي القديم كان يعطي للأب المكانة الكبرى، فيمنحه سلطة كاملة في كلّ شيء، في الحياة والموت، فالبوسة التي يعطيها الأب تتخذ صورة تكاد تعبّر عن تنازلٍ منه، ونادرًا ما كان الآباء هم الذين يبوسون أبناءهم إلاّ في حالاتٍ خاصة وقليلة.

بوسة "ن ش ق" الأخوة والأخوات :
في تك 33: 4 في لقاء يعقوب بأخيه عيسو " فأسرَعَ عيسو إلى لقائه وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وباسَهُ، وبكيا".
وهنا البكاء يرافق بوسة "ن ش ق" وشمّ الأخوين لبعضهما بعد فراقٍ طويل.
وفي نشيد 8: 1
ليتك لي كأخٍ ، رضع ثديَ أمّي
فألقاكَ خارجَ الدارِ وأبوّسُكَ فلا أُحْتَقَر".
وفي تكوين 29: 11 "وباسَ "ن ش ق" يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى"، على البئر بالقرب من حاران، يعقوب يبوسُ "ن ش ق" إبنة خاله، يعتبر هذا البوس أمرًا طبيعيًا لأن أبناء العمومة في الشرق عامّةً كانوا يعتبرون كالأخوة.
ويمكن أن تتوسع حلقة المشمولين بالبوس في هذه الحالة، لتشمل الأصدقاء والأقارب مثلما باسَ لابان يعقوب في تكوين 29: 13 "فلما سمع لابان خبرَ قدومِ يعقوبَ ابن أخته هبّ للقائه فعانقه وباسَهُ وجاء به الى بيته".

بوسة الأولاد للوالدين :
في تكوين 27: 26 اسحق ويعقوب ابنه "وقال له اسحق تقدم وبوسْني يا ابني "
وفي تكوين 50: 1 "فارتمى يوسف على وجه أبيه وبكى عليه وبوّسَهُ".

ولحديثنا حول البوسات "ن ش ق" وأنواعها ـ في كتب التنخ وفي الإرث الشرقي والعالمي أيضًا ـ تتمة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفعل العبري والسرياني(نشق)أكثر تعبيرا
ليندا كبرييل ( 2016 / 1 / 16 - 15:58 )
الأستاذ الباحث القدير سيلوس العراقي

أتفق مع حضرتك على أن الفعل( نشق) العبري والسرياني أكثر تعبيرا من الفعل العربي(قبّل)
وتحليلك الشخصي أن الإنسان قد اختبر كلّ شيء في البدء عن طريق الحواس، مقنع جداً، وحول القبلة، قولك إن الانسان قد اختبر أولاً بالشمّ كل ما امتدت إليه يداه، ثم عرف بالخبرة أهمية القبلة في التواصل الإنساني
وبشكل عام فالقبلة تترافق مع الشم (النشق)

وفي القاموس فإن مادة (قبل) لها عدة تفاسير تأتي (قبّل) أي لَثَمَ قبل الأخيرة

أستاذ سيلوس العزيز
أشكرك شكرا عميقا على الزخم الكبير الذي وصلني من تعليقك في مقالي الأخير، وكان دافعا لي لأبدأ من الصفر، اليوم أنجزت قليلا لكني كنت سعيدة جداً بالقليل الذي حققته، وسيكبر مع الأيام

(نشقة) أخوية ومحبة لشخصك الفاضل، وأتمنى لك سنة طيبة
انقطاعي عن التعليق لا يعني انقطاعي عن قراءة مجهودك البحثي القيّم، وجدت وقتا في هذين اليومين فزرت أصدقائي للسلام

شلومو



2 - الى الملكة ليندا
سيلوس العراقي ( 2016 / 1 / 16 - 18:08 )
العزيزة الاديبة ليندا المحترمة
كم اسعدني مرورك وتعليقك
اتمنى لك اوقاتا طيبة
وانا متاكد بقدراتك الكبيرة
المهم الاستمرار في التامل والكتابة
وانت معروفة من ثمارك إن كان في كتاباتك الرائعة او في تعليقاتك
اتمنى لك كل الخير والفرح
تقبلي محبتي مع نشقة أخوية

اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر