الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتطرفون الأولون عند اليهود

محمد صالح الطحيني

2016 / 1 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حرب الطبقات -أصل الأنبياء -عاموس وأورشليم -إشعيا -تنديده بالأغنياء -عقيدة المسيح المنقذ -أثر الأنبياء


لما كان الفقر ينشأ من الغنى، ولما كان الفقراء لا يعرفون أنهم فقراء إلا حين يبصرون الأغنياء بعيونهم، فإن حرب الطبقات لم يندلع لهيبها في إسرائيل إلا بعد أن رأى الناس بأعينهم ثروة سليمان الطائلة.
لقد تعجل سليمان، كما تعجل بطرس الأكبر ولينين، حينما أراد أن يحول البلاد من دولة زراعية إلى أخرى صناعية. وقد تطلبت هذه المشروعات الضخمة كثيراً من الكدح، وفرضت على الشعب أبهظ الضرائب؛ ولما أن تمت بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل، وُجدت في أورشليم طبقة من العمال المتعطلين كانوا من عوامل الشقاق السياسي والفساد الاجتماعي في فلسطين، كما كان أمثالهم في رومة فيما بعد. وكانت الأحياء القذرة تزداد شيئاً فشيئاً كلما نمت ثروة الأفراد وزاد ترف الحاشية، وأصبح استغلال الشعب والربا عادة مألوفة بين أصحاب الضياع الكبرى والتجار والمرابين الذين أحاطوا بالهيكل حتى قال عاموس أن المُلاّك "باعوا البارَّ بالفضة والبائس لأجل نعلين".
وكانت الثغرة الآخذة في الاتساع بين ذوي الحاجة وذوي اليسار، وكان النزاع الشديد بين المدن والريف وهو النزاع الذي يصحب على الدوام قيام المدنيات الصناعية، من العوامل التي أدت إلى انقسام فلسطين بعد موت سليمان إلى مملكتين متعاديتين مملكة إفرايم الشمالية وعاصمتها السامرة، ومملكة يهوذا الجنوبية وعاصمتها أورشليم. وأخذ الضعف من ذلك الحين يدب بين اليهود لما سرى في قلوبهم من أحقاد، وما قام بينهم من نزاع كانت تشتعل بينهم بسببه نيران الحرب العوان. ولم يمض على موت سليمان إلا زمن قليل حتى استولى شيشنق ملك مصر على أورشليم، وحتى سلّمت له ما جمعه سليمان من ذهب بالضرائب التي فرضها على الشعب في أثناء حكمه الطويل.
وكان هذا الجو المشحون بعوامل التفكك السياسي، والحرب الاقتصادية، والانحلال الديني، هو الذي ظهر فيه الأنبياء. ولم يكن أولئك الذين أطلق عليهم هذا اللفظ العبري (نبي) أول الأمر من طبقة عاموس وإشعيا الجديرة باحترامنا؛ بل كان بعضهم من المتنبئين الذين يستطيعون قراءة قلوب الناس وماضيهم ويخبرونهم بمستقبلهم حسبما يتقاضون منهم من أجور. ومنهم متعصبون متهوسون يستثيرون مشاعرهم بالأصوات الموسيقية الغريبة، أو المشروبات القوية، أو الرقص الشبيه برقص الدراويش، وينطقون في أثناء غيبوبتهم بعبارات يراها أصحابهم وحياً أوحي إليهم: أي بثتها فيهم روح غير روحهم. وقد سخر إرميا سخرية لاذعة من "كل رجل مجنون ومتنبئ".
وكان منهم من هو ناسك نكد كإيليا؛ ومنهم كثيرون يعيشون في مدارس أو أديرة مجاورة للهياكل، ولكن معظمهم كانت لهم أملاك خاصة وزوجات.
ومن هذا الحشد الكبير من النساك خرج أنبياء بني إسرائيل وأصبحوا على مر الزمن نقدة لعصرهم وشعبهم ثابتين على نقدهم، عارفين بالتبعة الملقاة عليهم؛ وسياسيين ممتازين يسوسون بلادهم في الخفاء "أشد الناس معارضة للكهنة" و"ألدهم عداء للسامية" وكانوا مزيجاً من العرافين والاشتراكيين. ونخطئ أشد الخطأ إذا عددناهم أنبياء بالمعنى المألوف لهذا اللفظ؛ لقد كانت نبوءاتهم، إن صح أن نسميها نبوءات، مزيجاً من الوعد والوعيد، أو عبارات دالة على التقى والصلاح، يحشرونها في أقوالهم حشراً، أو إشارات إلى حوادث بعد وقوعها.
ولم يكن الأنبياء أنفسهم يدعون أنهم يعلمون من الغيب ما يستطيعون أن ينطقوا به؛ بل كانوا أشبه الناس بالمعارضين البلغاء في إحدى الحكومات الدستورية الحديثة. وكانوا من بعض نواحيهم تلستويين ثائرين على الاستغلال الصناعي والخداع الكهنوتي؛ خرجوا من أحضان الريف الساذج يصبون اللعنات على ثراء الحواضر الفاسدة.
وقد قال عاموس عن نفسه أنه لم يكن نبياً وإنما كان راعياً ريفياً ساذجاً. فلما أن ترك قطيعه ليشهد بيت إيل، هاله ما شاهده فيه من تعقد الحياة تعقداً غير طبيعي، ومن الفروق الواسعة بين الثروات، ومن منافسة مريرة قاتلة، وقسوة في استغلال الناس. فلما رأى هذا "وقف بالباب" وأخذ يصب غضبه على ذوي الثراء المنغمسين في الترف الذين لا يرعون في الناس عهداً ولا ذمة.
"من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هدية قمح، بنيتم بيوتاً من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كروماً شهية ولا تشربون خمرها... ويل للمستريحين في صهيون، أنتم... المضطجعون على أسرّة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة، الهذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهّنون بأفضل الأدهان...
"كرهت أعيادكم... إني إذا قد مّتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي... أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع، وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم".
تلك نغمة جديدة في آداب العالم. نعم إن عاموس يثلم حد مثاليته بما ينطق به إلهه من وعيد كالتيار الجارف لا يستطيع القارئ لكثرته وشدته أن يحاجز نفسه عن العطف في بعض اللحظات على شاربي الخمر ومستمعي الموسيقى. ولكنا هنا نرى الضمير الاجتماعي لأول مرة في آداب آسية يتخذ صورة محددة واضحة ويفيض على الدين بما يرفعه من دين حفلات وملق إلى دعوة للنبل وحث على مكارم الأخلاق، وما من شك في أن إنجيل المسيح يبدأ في الحقيقة بظهور عاموس.
ويبدو أن نبوءة من أشد نبوآته إيلاماً تحققت وهو لا يزال حيا: "هكذا قال الرب. كما ينزع الراعي من فم الأسد كراعين أو قطعة أذن، هكذا ينتزع بنو إسرائيل الجالسون في السامرة في زاوية السرير وعلى دمقس الفراش... فتبيد بيوت العاج وتضمحل البيوت العظيمة". وقام نبي آخر حوالي ذلك الوقت نفسه يهدد السامرة بالخراب في عبارة من تلك العبارات الواضحة المأثورة التي صاغها المترجمون في عهد الملك جيمس من كنوز التوراة ليرددها الناس في حديثهم كل يوم. قال هوشع: "إن عجل السامرة يصير كسراء، إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة".
وفي عام 733 هددت إفرايم وحليفتها سوريا، مملكة يهوذا الناشئة، فاستغاثت هذه بأشور. فأغاثتها واستولت على دمشق، وأخضعت سوريا وصور وفلسطين وأرغمتها على دفع الجزية، وعرفت ما يبذله اليهود من جهود للحصول على معونة مصر، فغزت البلاد مرة أخرى واستولت على السامرة، ودخلت في مفاوضات سياسية مع ملك يهوذا، وعجزت عن الاستيلاء على أورشليم، ثم عادت جيوشها إلى نينوى مثقلة بالغنائم ومعها 000ر200 من أسرى اليهود ليكونوا عبيداً للآشوريين.

وفي أثناء حصار أورشليم أصبح النبي إشعيا من أعظم شخصيات التاريخ العبري. وكان إشعيا أوسع أفقا من عاموس، ولذلك كانت آراء أولهما أبقى أثراً في السياسة من آراء الثاني. ولم يكن يشك في أن يهوذا الصغيرة لا تستطيع الوقوف في وجه أشور الجبارة ذات السلطان الواسع ولو أعانتها مصر البعيدة-تلك القصبة المرضوضة التي تدمي يد من يحاول أن يمسكها ليدفع بها عن نفسه-فأخذ يتوسل إلى الملك أهاب ثم إلى الملك حزقيا أن يظلا على الحياد في الحرب القائمة بين أشور وإفرايم. ذلك أنه لم يكن يشك-كما لم يكن عاموس وهوشع يشكان-في أن السامرة لابد ساقطة، وأن المملكة الشمالية مقبلة على آخر أيامها. فلما أن حاصر الآشوريون أورشليم أشار إشعيا على حزقيا ألا يسلم المدينة. وبدا أن انسحاب جيوش سنحريب المفاجئ مبرر قوي لهذه النصيحة. ومن أجل ذلك علا شأنه زمناً ما لدى الملك والشعب على السواء. وكان ينصح على الدوام بأن يعامل الناس بالعدل، وأن يترك أمرهم بعد ذلك إلى يهوه، فيستخدم أشور أداة له يؤدبهم بها، ولكنه سيهلكها هي نفسها في آخر الأمر. وكان من أقواله إن يهوه سيقضي على جميع الأمم المعروفة له، وهو يقول في بعض فصول سفره (من الأصحاح السادس عشر إلى الثالث والعشرين) أن موآب وسوريا وأثيوبيا ومصر سيكون مصيرها الدمار و"كلها يولول".
وهذا الدعاء بالخراب وهذه اللعنات المتكررة تفسد ما في سفر إشعيا من جمال، كما تفسد كل ما في التوراة كلها من نبوءات، ولولاها لكانت من أجمل ما كتب في الأدب.
على أن تشهيره هذا إنما ينصب على ما يجب أن ينصب عليه-على الاستغلال الاقتصادي والشراهة، فهو إذا تحدث عنهما سما في حديثه إلى أرقى ما وصل إليه الأدب في أسفار العهد القديم، في فقرات تعد من أروع ما كتب من النثر في أدب العالم كله:
"الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم، وأنتم قد أكلتم الكرم. سلبُ البائس في بيوتكم. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين؟ ... ويل للذين يصلون بيتاً ببيت، ويقرنون حقلاً بحقل حتى لم يبق موضع، فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض! ... ويل للذين يقضون أقضية البطل، وللكتبة الذين يسجلون زورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم، ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم، وينهبوا الأيتام. وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد؟ إلى من تهربون للمعونة؟ وأين تتركون مجدكم؟".
وهو يزدري أشد الازدراء من يتظاهرون في العالم بالتقوى وهم يبتزون أموال الفقراء:
"لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات... رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي. صارت عليَّ ثقلاً. مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً. اغتسلوا تنقوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق. أنصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة".
وهو ممتلئ القلب حقداً، ولكنه غير يائس من شعبه؛ وكما أن عاموس قد ختم مواعظه بنبوءة، يحاول اليهود الآن تحقيقها وهي عودتهم إلى بلادهم، كذلك يختتم إشعيا مواعظه بترديد أمل اليهود في ظهور من يقضي على ما بينهم من انقسام سياسي، وخضوع للأجنبي، وما هم فيه من بؤس وشقاء، ومن يعيد إلى الأرض الإخاء والسلام:
"ها! العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل... لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام... ويخرج قضيب من جذع يسى... ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب... يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه، ويكون البر منطقة مثنيه، والأمانة منطقة حقويه، ويسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معاً، وصبي صغير يسوقها... فيطبعون سيوفهم سككا، ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد".
ذلك إلهام جد عجيب؛ ولكنه إلهام لن يعبر عن مزاج اليهود حتى تمر بهم أجيال كثيرة. وكان كهنة الهيكل ينصتون بعطف مكظوم إلى هذه الدعوة النافعة التي تحث الناس على التقى والصلاح؛ وكانت شيع من اليهود تتطلع إلى هؤلاء الأنبياء تتلقى عنهم هذه الدعوة الملهمة؛ ولعل هذا الأقوال التي تدعوهم إلى نبذ الشهوات الجسمية كان لها بعض الأثر في تقوية ما أوجدته الصحراء في اليهود من نزعة إلى التزمت في الدين. غير أن حياة القصور والخيام، والأسواق والحقول، ظلت في أغلب الأحيان تجري على سننها القديم؛ فكانت الحرب تقضي على من تصطفي من كل جيل، وظل الاسترقاق مصير الغريب، وظل التاجر يطفف الكيل ويغش في الميزان، ثم يحاول التكفير عن ذنبه بالتضحية والصلاة.
وترك الأنبياء أعمق آثارهم في يهودية ما بعد التقى، ثم في العالم كله عن طريق اليهودية والمسيحية. وفي أسفار عاموس وإشعيا نرى بداية المسيحية والاشتراكية والمعين الذي فاضت منه الدعوات إلى إقامة عالم مطهر من الشرور لا يطوف به طائف الفقر أو الحرب فيكدر ما فيه من أخوة وسلام.
وهذه الأسفار هي منشأ العقيدة اليهودية الأولى التي تقول بمجيء مسيح يقبض على زمام الحكم، ويعيد إلى اليهود سلطانهم الدنيوي، ويجعل الصعاليك المملقين الحاكمين بأمرهم في العالم كله. وكان إشعيا وعاموس هما اللذين بدآ في عصر الحروب يمجدان فضائل البساطة والرحمة والتعاون بين الناس والإخاء، وهي الفضائل التي جعلها عيسى أساساً جوهرياً لدينه. وكانا أول من اضطلع بذلك العبء الثقيل عبء تحويل رب الجنود إلى إله حب وهما اللذان جندا يهوه واستعاناه على نشر المبادئ الإنسانية، كما جند المسيح متطرفو الاشتراكيين في القرن التاسع عشر ليستعيناه على نشر المبادئ الاشتراكية. وهما اللذين بثا في عقول الألمان-بعد أن طبعت التوراة في أوربا-الإيمان بمسيحية جديدة وأوقدا شعلة الإصلاح الديني، وكانت فضائلهم القوية غير المتسامحة هي التي أخرجت طائفة المتطهرين المسيحيين. وكانت فلسفتهم الأخلاقية تقوم على نظرية أجدر من غيرها بالتسجيل-وهي أن الطيب سوف يوفق وينجح، وأن الخبيث سوف يصرع؛ وقد تكون هذه نظرية مخادعة، ولكن ما فيها من خداع-إن كان فيها خداع-هو خداع العقل النبيل.
ولئن كان هؤلاء الأنبياء لا يتصورون الحرية أو يفكرون فيها، فإنهم كانوا يحبون العدالة ويدعون إلى القضاء على ما كان يضعه الأسباط من قيود على الأخلاق الطيبة. ولقد أقاموا أمام البائسين في العالم أملاً في التآخي، كان تراثاً غالياً، ظلوا يتوارثونه على مدى الأجيال.


يتبع موت أورشليم وبعثها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتفال الكاتدرائية المرقسية بعيد القيامة المجيد | السبت 4


.. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية برئا




.. نبض أوروبا: تساؤلات في ألمانيا بعد مظاهرة للمطالبة بالشريعة


.. البابا تواضروس الثاني : المسيح طلب المغفرة لمن آذوه




.. عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس عيد القيامة المجيد ب