الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عهد قديم وعهد جديد-8- قراءة في البوذية

طوني سماحة

2016 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"السلام يفيض من الداخل، لا تبحث عنه خارجا...ثلاثة أمور لا يمكن أن تبقى مخفية لوقت طويل: الشمس، القمر، والحقيقة...عندما تمسك بالغضب تكون كمن يقبض على الجمر كيما يقذف به الآخر، عندها لا بد وأن تحترق بناره." (بودا)

قراءة سريعة في حياة بودا وتعاليمه تظهر قيما أخلاقية راقية نادرا ما نجدها في الأديان القديمة والحديثة. ولد المستنير (تفسير كلمة بودا) فيما يعرف اليوم بالنبال: كانت مهامايا الملكة الام نتتظر مولودها الاول. وكما كانت عادة تلك البلاد، استعدت للعودة الى بيت ابيها كيما تضع الطفل. وفيما كانت الملكة في منتصف الطريق شعرت بآلام الولادة. توقفت تحت شجرة وقامت وصيفاتها بتوليدها. انحنت لها إحدى الاشجار كيما تسمح للملكة بالامساك بواحد من أغصانها لتساعدها بالتخلص من آلامها. ما ان تمت الولادة حتى امطرت السماء كيما تنظف الامير وأمه من الدماء. عندما ولد الطفل ابتدأ بالكلام والسير في الاتجاهات الاربعة. كانت أزهار اللوتس تنمو حيث تطأ أقدامه الأرض. أخبر الطفل والدته أنه جاء كيما ينجي الجنس البشري من آلامه. أطلق عليه تسمية سيدارتا ما معناه "الذي حقق مبتغاه". للأسف توفيت الوالدة سريعا واهتمت خالته بتربيته.

نما سيدارتا في كنف والده الذي أراد أن يجنبه آلام الدنيا. عاش داخل جدران القصر ولم ير في حياته شيخا أو مريضا أو مشردا. لما بلغ السادسة عشرة من عمره، زوجه والده من أميرة بعدما تغلب الامير الشاب على جميع منافسيه بألعاب المهارة الرياضية. ذات يوم، رغب الامير برؤية مملكته ورعيته. خضع الوالد لرغبته لكنه أمر جنوده بآزالة كل مؤشرات الفقر والمرض والعجز والموت من الطرقات. سار الامير في موكبه وكان كل ما يراه ممتعا... الى أن لمح شيخين مسنين كانا على مقربة من الطريق. أوقف الامير الموكب ولاحقهما. لم يمض وقت طويل حتى رأى مجموعة من المرضى... ومن ثم رأى ما لم يكن بالحسبان: نعشا ومراسيم الوفاة.

عاد الأمير الى القصر. اختلطت عليه الامور. أنجبت له الاميرة طفلا، لكن ذهنه بقي مشوشا. ذات ليلة، طبع الامير الشاب قبلة على خد زوجته النائمة وعلى جبين ابنه ورحل سرا من القصر. عاش الامير حياة التقشف باحثا عن أجوبة لمعضلة الألم. أكثر من الصيام حتى قارب الموت. وجدته فلاحة شابة. أطعمته وروته حتى عادت روحه إليه. أدرك أنه لن يحصل على الجواب لأسئلته الكثيرة من خلال التقشف حتى مقاربة الموت. حاولت الشياطين محاربته وحاول مارا الشرير إغراءه بعرض بناته عليه، لكن الراهب الامير صمد أمام هجمات الشر وإغراء الجنس. زاعت شهرة الراهب ولم يمض وقت طويل حتى أصبح والده من أتباعه، كما أن زوجته وعمته أصبحتا أولى الراهبات في مذهبه الجديد. كذلك صارابنه من أبرز الرهبان التابعين له. علّم السيداراتا أن باستطاعة جميع الناس الحصول على الاستنارة على الرغم من اختلاف دياناتهم وأعراقهم وألوانهم.

توفي البودا المستنير عن عمر يقارب الخمسة وثمانين عاما. تأثر الكثيرون بتعاليمه شرقا وغربا حاضرا وماضيا. ترك للبشرية إرثا أخلاقيا رفيعا.

"لن يستطيع المرء أن يتمتع بنعم الصحة، ولا أن يهب السعادة لعائلته، أو أن يقدم السلام لبني جنسه، ما لم يروض ذاته وفكره أولا. إخضاع الذات والفكر هو ممر الانسان للاستنارة التي من هي أم الفضائل والقيم." (بودا)

يصح القول ان البوذية هي نظام أخلاقي وفكري وفلسفي أكثر منه دينيا بالمعنى الورائي المفهوم للدين. فالبوذية لم تقدم للإنسانية دينا جديدا بقدر ما قدمت له قيما أخلاقية وفكرية وفلسفية. لم تتطرق البوذية لمفهوم الإله الخالق كما عرّفت به الأديان الابراهيمية أو لمفهوم رئيس مجمع الآلهة كما عرّفت به حضارات بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان والرومان القديمة. تفتقر البوذية لمفهوم المخلص الذي بشرّت به اليهودية بمفهوم المسيا والذي بنت عليه المسيحية بشخص المسيح. وبالتالي ليس في البوذية يوم الدين او يوم العقاب الذي يقف فيه كل انسان أمام الخالق كيما يحاسبه عن شروره. ومع انتفاء يوم العقاب في البوذية لا نرى وجودا لجهنم، بل بالتالي نجد الانسان يواجه شروره من خلال ولاداته المتعاقبة كما ينص عليها مبدأ التقمص أو تناسخ الارواح المعروف بالنرفانا. فشرور الانسان تدفع به الى ولادة في عالم أدنى فيما أعماله الخيرة ترفعه درجة أسمى في طبقات الوجود. بقي البودا في نظر أتباعه المعلم. فهو لم يرتق للألوهة كما أنه لم يعلم يوما أنه مرسل من إله أو أنه إله متجسد. لا يسعى البوذي للجنة في الحياة الاخرى بقدر ما يسعى للاستنارة في هذه الحياة. فالبوذا (أي المستنير) هي حالة يرقى إليها الانسان من خلال التأمل والاستنارة.

لا مكان في البوذية للجهاد المقدس. فالقتل من أجل الدين وبهدف القتل مرفوض جملة وتفصيلا. كذلك لا تعطي البوذية مكانا للخطيئة بشكل عام والخطيئة الاصلية بشكل خاص في معتقداتها. لكن ذلك لا ينفي وجود الخير الشر. لا نجد في البوذية تفسيرا لبدايات الخلق كما هو الحال في باقي الاديان القديمة والحديثة. كما أن البوذية لا تعلّم أو تؤمن بالتركيبة المتعارف عليها للانسان، ألا وهي الروح والنفس والجسد. إنما تقتصر التركيبة البشرية، بحسب البوذية، على الجسد والاحاسيس والافكار. فالانسان مجموعة من الافكار التي تتناسخ لتستقر في الحياة الأسمى في الذات الالهية. إن كان الالم هو حجر الزاوية في البوذية، إلا أن التأمل هو الماكنة التي تأخذ الانسان الى عوالم الاستنارة. وفي النهاية، إن كنا لا نجد في البوذية العالم الآخر كما بشرت به الديانات التوحيدية، إلا ان الحياة في البوذية لا تقتصر على عالم واحد مرئي إنما تتجاوزه الى عوالم غير مرئية لا متناهية تتواجد جميعها في الذات الالهية الواحدة.

كما أشرنا آنفا، تنفرد البوذية في العالم القديم بمنظومة أخلاقية فريدة تجعل منها محط أنظار الكثيرين الباحثين عن مستوى من الوجود الراقي الذي يحكم علاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بمحيطه بما فيه الحيوان والجماد. لكن يبقى ان البوذية، وبحسب وجهة نظر الكاتب، تنتهي حيث ابتدأت، فهي ولدت كيما تنظم حياة الانسان على الارض وعلى الارض فقط. لا شك ان البوذية منظومة أخلاقية متماسكة، لكنها لا تعطي جوابا للكثيرمن الاسئلة المصيرية التي يطرحها الانسان: الخطيئة وعبودية الانسان لها، حاجة الانسان، على الاقل الكثير من الناس، للخلاص من نار عقدة الذنب او ما تسميه المسيحية بالخطيئة الاصلية. قد يعترض البعض انهم لا يشعرون بعقدة الذنب هذه، ولا شك ان ذلك حقهم، لكن الاطباء النفسيين يجمعون على ان الكثير من الامراض النفسية مرجعها شعور الانسان بعقدة الذنب. لا تجيب البوذية بشكل واضح عن تساؤلات الانسان بخصوص الحياة الاخرى. هل تنتهي الحياة بموت الانسان؟ ما هو شكل الحياة في الآخرة؟ هل يحافظ الانسان على خصوصيته في الحياة الاخرى ام تراه يذوب في الذات الالهية؟ كيف يكفر الانسان عن إساءاته للآخرين من خلال التوالد المتتالي او التناسخ الذي يعرف بالنرفانا أي الحالة الأسمى في الوجود؟ ما هي صفات الالوهة؟ ما علاقتها بخلق الانسان؟ هل نستطيع الجزم بعدم وجود الروح؟ وإن جزمنا بأن الانسان ليس سوى بتركيبة فكرية بحتة، فكيف لهذه التركيبة ان تحيا مجددا بعد ان يموت الجسد وفي غياب الروح؟ ما اللذي ا يشكل عندها المرجعية الرسمية للفكر وأين تراه يسكن خارج إطار الروح والجسد؟

"من الافضل جدا ان تغلب نفسك على ان تربح ألف معركة. عندها سوف تكون الغلبة من نصيبك ولن يستطيع أحد انتزاعها منك، لا ملائكة أو شياطين، لا سماء أو جحيم... أنت وحدك، ووحدك فقط دون كل الناس، تستحق حبك لنفسك وعطفك على ذاتك." وفي النهاية يضيف المستنير "من الافضل ان تسافر وانت في حال جيدة على ان تصل."تفسر هذه المقولة الفلسفة البوذية بكل تفاصيلها: فالبودا رسم لأتباعه خارطة الطريق للسفر الجيد في هذه الحياة. لكن خارطة الطريق هذه عجزت عن النفاذ الى العالم الآخر إذ توقفت عند منظومة النرفانا او التناسخ دون أن تعطي الكثير من الاجابات على الكثير من الاسئلة المصيرية.

إن كانت البوذية لم تجب على الكثير من أسئلة الكاتب، إلا أنه ينحني إجلالا لسمو الكثير من تعاليمها بما فيها رفض القتل بالمطلق، رفض السرقة، رفض الكذب واحترام الكائنات بما فيها الانسان والحيوان والنبات والجماد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - متابعك دائما
nasha ( 2016 / 2 / 8 - 04:48 )
شكراً جزيلا على المعلومات . انا في انتظار ربط هذه المقدمات المفيدة بعنوان الموضوع (عهد قديم وعهد جديد )
تحياتي


2 - Nasha
طوني سماحة ( 2016 / 2 / 10 - 22:54 )
اعتذر عزيزي ناشا على عدم الرد السريع وأقدر تفاعلك مع النص. مع تحياتي

اخر الافلام

.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran


.. 72-Ali-Imran




.. 73-Ali-Imran