الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نشأة عيسى المسيح

محمد صالح الطحيني

2016 / 2 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يحدد متّى ولوقا ميلاد المسيح في "الأيام التي كان فيها هيرودس ملكاً على بلاد اليهود"- أي قبل العام الثالث ق.م على أن لوقا يقول عن يسوع إنه كان "حوالي الثلاثين من العمر" حين عمّده يوحنا في السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس، أي في عام 28-29م، وهذا يجعل ميلاد المسيح في عام 2-1 ق.م. ويضيف لوقا إلى هذا قوله: "وفي تلك الأيام صدر مرسوم قيصر أغسطس يقضي بأن تفرض ضريبة على العالم كله... حين كان كويرنيوس Quirinius والياً على سوريا. والمعروف أن كويرنيوس كان حاكماً لسوريا بين عامي 6-12م؛ ويذكر يوفوس أنه أجرى إحصاء في بلاد اليهود، ولكنه يقول إن هذا الإحصاء كان في عام 6-7م، ولسنا نجد ذكراً لهذا الإحصاء إلا هذه الإشارة. ويذكر ترتليان إحصاء لبلاد اليهود قام به سترنينس حاكم سوريا في عام 8-7 ق.م)، فإذا كان هذا هو الإحصاء الذي يشير إليه لوقا فإن ميلاد المسيح يجب أن يؤرخ قبل عام 6 ق.م. ولسنا نعرف اليوم الذي وُلِدَ فيه بالتحديد، وينقل لنا كلمنت الإسكندري (حوالي 100م) آراء مختلفة في هذا الموضوع كانت منتشرة في أيامه؛ فيقول إن بعض المؤرخين يحدده باليوم التاسع عشر من إبريل وبعضهم بالعاشر من مايو، وإنه هو يحدده بالسابع عشر من نوفمبر من العام الثالث قبل الميلاد- وكان المسيحيون الشرقيون يحتفلون بمولد المسيح في اليوم السادس من شهر يناير منذ القرن الثاني بعد الميلاد. وفي عام 354 احتفلت بعض الكنائس الغربية ومنها كنيسة روما بذكرى مولد المسيح في اليوم الخامس والعشرين من نوفمبر، وكان هذا التاريخ قد عد خطأ يوم الانقلاب الشتائي الذي تبدأ الأيام بعده تطول؛ وكان قبل هذا يحتفل فيه بعيد مثراس، أي مولد الشمس التي لا تقهر. واستمسكت الكنائس الشرقية وقتاً ما باليوم السادس من يناير، واتهمت أخواتها الغربية بالوثنية وبعبادة الشمس؛ ولكن لم يكد يختتم القرن الرابع حتى اتخذ اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر عيداً للميلاد في الشرق أيضاً .
ويقول متّى ولوقا إن مولد المسيح كان في بيت لحم، القائمة على بعد خمسة أميال جنوبي أورشليم، ثم يقولان إن أسرته انتقلت منها إلى الناصرة في الجليل، أما مرقص فلا يذكر بيت لحم. ولا يذكر المسيح إلا باسم "يسوع الناصري". وقد سمي بالاسم العادي المألوف "يسوع" Yeshu`a ومعناها معيّن يهوه؛ وحرّفه اليونان إلى Iesous والرومان إلى Iesus.
ويبدو أنه كان ينتسب إلى أسرة كبيرة، وشاهد ذلك أن جيرانه أدهشتهم تعاليمه القوية فأخذوا يتساءلون قائلين: "ترى أنى له هذه الحكمة، والقدرة على القيام بهذه العجائب؟ أليس هو إبن النجار؟ أليست أمه تسمى مارية Mary، أليس أخوته هم يعقوب، ويوسف، وشمعون ويهوذا؟ ألا تقوم أخواته هنا بيننا؟". ويحدثنا لوقا عن البشرى بأسلوب أدبي بليغ وينطق مريم- مارية بتلك العبارات البليغة، وهي من أروع القصائد التي يشمل عليها العهد الجديد.
وتأتي شخصية مريم في القصة بعد شخصية ولدها في الروعة والتأثير: فهي تربّيه وتتحمل مسرات الأمومة المؤلمة؛ وتفخر بعلمه في أيام شبابه، وتدهش فيما بعد من تعاليمه ومطالبه، وترغب في أن تبعده عن جموع أتباعه المثيرين، وأن تعيده إلى بيته الهادئ الشافي (لقد بحثت أنا وأبوك عنك محزونين) ؛ وشاهدته وهو يُصلَب، وعجزت عن إنقاذه، ثم تلقت جسده بين ذراعيها، فإذا لم يكن هذا تاريخا فهو الأدب السامي، لأن صلات الآباء والأبناء تؤلف مسرحيات أعمق مما تؤلفه عاطفة الحب الجنسي. أما القصص التي أذاعها سلسس Celsus وغيره فيما بعد عن مريم وجندي روماني فالنقاد مجمعون على أنها "إفتراء سخيف". وأقل من هذا سخفاً تلك القصص التي تذكر أكثر ما تذكر في الأسفار المحذوفة عن مولد المسيح في كهف أو إسطبل، وعن سجود الرعاة والمجوس له وعبادتهم إياه. وعن مذبحة الأبرياء، والفرار إلى مصر، وإذا كان العقل الناضج لا يرى ضيراً في هذا الشعر الشعبي. ولا يذكر بولص ويوحنا شيئاً عن مولده من عذراء وأما متّى ولوقا اللذان يذكرانه فيرجعان نسب يسوع إلى داود عن طريق يوسف، بسلاسل أنساب متعارضة؛ ويلوح أن الاعتقاد في مولد المسيح من عذراء قد نشأ في عصر متأخر عن الاعتقاد بأنه من نسل داود.
ولا يذكر أصحاب الأناجيل إلا القليل الذي لا يغني عن شباب المسيح. فهم يقولون إنه أختُتِن حين بلغ الثامنة من عمره. ولقد كان يوسف نجاراً، وإن مَن كان في ذلك العصر مَن توارث المهن ليوحى بأن يسوع قد احترف هذه الحرفة اللطيفة وقتاً ما، وكان يعرف مَن ينتمي إلى حرفته من الصناع، كما كان يعرف الملاّك ورؤساء الخدم، والمستأجرين، والأرقاء، وكل ما كان يحيط به في الريف، ويتردد ذكر هؤلاء جميعاً في أحاديثه. وكان يحس بما في الريف من جمال طبيعي، وما للزهر من لون جميل، وما يحيط بالأشجار المثمرة من هدوء وسكون. وليست قصة أسئلته للتلاميذ في الهيكل مما لا يقبله العقل. وكان ذا عقل يقظ طلعة، والشاب متّى بلغ الثانية عشرة من عمره في بلاد الشرق أوشك أن يبلغ سن النضوج. لكنه لم يتعلم تعليماً منظماً، وشاهد ذلك أن جيرته كانوا يتسائلون: "كيف يستطيع هذا الرجل أن يقرأ وهو لم يذهب قط إلى المدرسة؟". وكان يتردد على المجمع الديني، ويستمع إلى تلاوة الكتاب المقدس، ويبدو عليه السرور حين يسمعه. وقد انطبعت في ذاكرته الأقوال الواردة في أسفار الأنبياء والمزامير بنوع خاص، وكان لها أثر كبير في تشكيله. ولعله قرأ أيضاً سفري دانيال وأخنوخ، لأنا نجد في تعاليمه المتأخرة أثراً كبيراً من رؤى المسيح الموعود، ويوم الحشر، ومملكة السماء.
وكان الهواء الذي يتنفسه مشحوناً بالحماسة الدينية، وكان آلاف من اليهود ينتظرون على أحر من الجمر مجيء منقذ إسرائيل. وكان السحر والشياطين، والملائكة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، وإخراجها، والمعجزات، والنبوءات، والإطلاع على الغيب، والتنجيم، كانت كل هذه عقائد مسلَّم بها في كل مكان. ولعل قصة المجوسي كانت تسليماً لابد منه لعقائد المنجمين في ذلك العصر، وكان السحرة يطوفون بالمُدن، وما من شك في أن عيسى قد عرف شيئاً عن الأسينيين وعن حياة الزهد الشبيهة كل الشبه بحياة البوذيين ، وذلك في خلال أسفار جميع الصالحين من يهود فلسطين إلى بيت المقدس في أثناء عيد الفصح. ولعله قد سمع أيضاً عن شيعة تدعى "الناصرة Mazarenes" كان المنتمون إليها يعيشون في بيريه في الناحية الأخرى من نهر الأردن؛ وكانوا يرفضون التعبد في الهيكل، ويأبون التقيد بالناموس. ولكن الذي أثار حماسته الدينية هو عظات يوحنا إبن أليصابات قريبة مريم.
ويروي يوسفوس قصة يوحنا بشيء من التفصيل. فإذا قرأناها بدا لنا المعمدان شيخاً طاعناً في السن، أما الحقيقة فهي عكس هذا، فهو في الوقت الذي نتحدث عنه في سن عيسى أو قريب منه، ويصفه مرقس ومتّى بأنه كان يرتدي ثوباً من الشعر؛ ويعيش على الجراد الجاف وعسل النحل، ويقف بجوار نهر الأردن؛ ويدعو الناس إلى التوبة. وكان يماثل الإسينيين في الزهد، ولكنه يخالفهم في اعتقاده أن التعميد يكفي أن يكون مرة واحدة؛ وقد يكون اسمه "المعمدان" مرادفاً للفظ اليوناني "إسين" أي الاستحمام؛ وقد أضاف يوحنا إلى عقيدة التطهير الرمزي تنديده الشديد بالنفاق، وعدم التمسك بالأخلاق القويمة، وطلبه إلى المذنبين أن يستعدوا إلى الدار الآخرة، وإعلانه قرب حلول مملكة السماء، وقوله إنه إذا تابت بلاد اليهود كلها وتطهرت من الخطيئة جاء المسيح وحلت مملكة السماء على الفور.
ويقول لوقا إنه في "السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس" أو بعدها بقليل جاء يسوع إلى نهر الأردن ليُعمّد على يديه. وهذا القرار الذي اتخذه رجل "يقرب من سن الثلاثين" شاهد على أن المسيح قد آمن بتعاليم يوحنا، وأن تعاليمه هو لن تفترق في جوهرها عن تلك التعاليم. أما أساليبه، وأخلاقه فكانت تختلف عن أمثالها عند يوحنا: فهو لم يعمّد أحداً، ولم يعش في البيداء، بل عاش في العالم. ولم ينقضِ على هذا اللقاء بين عيسى ويوحنا إلا قليل من الوقت حتى أمر هيرودس أنتباس "صاحب المُدن الأربع" في الجليل بسجن يوحنا. وتقول الأناجيل إن سبب القبض على يوحنا هو انتقاد هيرودس لأنه طلق زوجته، وتزوج هيرودياس وهي لا تزال زوجة لفليب أخيه غير الشقيق. أما يوسفوس فيقول إن سبب القبض عليه هو خوف هيرودس أن يكون يوحنا يستتر بستار الإصلاح الديني ليثير القلاقل السياسية في البلاد. ويروي مرقس ومتى في هذا المجال قصة سالوم إبنة هوردياس، التي فتنت هيرودس برقصها أمامه حتى عرض عليها أن يقدم لها أية مكافئة تطلبها. ويقولان إنها طلبت إليه رأس يوحنا، بتحريض من أمها، وإن الحاكم أجابها وهو كاره إلى طلبها. وليس في الأناجيل شيء عن حب سالوم ليوحنا، وليس في يوسفوس ما يشير إلى أنها كانت لها يد في موته.


يتبع – رسالة عيسى اليسوع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
شاكر شكور ( 2016 / 2 / 8 - 15:12 )
عن قولك استاذ محمد : (ولا يذكر بولص ويوحنا شيئاً عن مولد يسوع من عذراء) ، الحقيقة بولس نوه عن الولادة العذراوية ليسوع في رسالته (غلاطية 4:4) بقوله : {لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ} ، وإن لم يكن بولس قد قصد الولادة العذراوية لقال : (مولودا من ابوين وليس مولودا من إمرأة فقط ) ، أما يوحنا فقد عبّر عن الولادة العذراوية بأسلوب لاهوتي في قوله (الكلمة صار جسدا) ويقصد بذلك لا وجود للتدخل البشري جنسيا وإن لم يكن يقصد يوحنا بهذه العبارة الولادة العذراوية لما كان هناك داعي لذكرها اساسا ، اما عن القول {لا يذكر أصحاب الأناجيل إلا القليل الذي لا يغني عن شباب المسيح} ، الحقيقة كتّاب البشارة كتبوا لأجل الإيمان ولم يكتبوا كمؤرخين للتفاصيل الدقيقة لحياة المسيح وقد اعترف يوحنا في نهاية كلمات إنجيله بهذه الحقيقة ، نأمل استاذ محمد ان تبدي في مقالاتك القادمة بعض الجهد في البحث بعيدا عن القص واللصق دون ذكر المصدر ، تحياتي


2 - رد على تعليق الاخ شاكر
محمد صالح الطحيني ( 2016 / 2 / 8 - 23:58 )
اشكر مداخلتك اخي شاكر ونفيدكم اننا لسنا بصدد التشكيك لكننا نعمل بما ورد بكتبنا المقدسة على التفكير واعمال العقل :-لا يعرفون ولا يفهمون؛ لأنه قد طمست عيونهم عن الإبصار وقلوبهم عن التعقل-. إشعياء 44: 18.
بهذا نقرأ جميع الاديان والتاريخ وردا على ما استشهدت به :{لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ} فهذا لا يثبت عذرية مريم عند ولادتها لسيدنا المسيح ولو كان يقصد ذلك لقال من امرأة عذراء اشكر مرورك صديقي

اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ