الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشذوذ العقلي بين المرض النفسي والإبداع !

عبدالله أبو شرخ
(Abdallah M Abusharekh)

2016 / 2 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الشذوذ العقلي بين المرض النفسي والإبداع !

يكاد لا يوجد شخص من أجيال السبعينات والثمانينات في مخيم جباليا من لا يعرف المرحوم س. كان يتمشى على سكة القطار القديمة أو في الشوارع واضعاً جهاز الراديو على أذنه يستمع لأغاني فريد الأطرش تحديداً .. شاع وقتها أن س قد جن لكثرة الدراسة فشت عقله، وقيل أنه وقع في حب فتاة من وسط أرستقراطي فتزوجت غيره ومن الحب ما قتل. لكن أكثر من يشاع عن س أنه كان متفوقاً في الدراسة من الصف الأول ولغاية الثانوية العامة. لم يكن همجياً أو شريراً، بالعكس كان يجمعنا ونحن أطفال ويطلب كراسة الرسم والقلم ليرسم مشاهد طبيعية باحتراف شديد، تاهت بنا الظروف بعد أن تشتتنا في دروب الحياة المختلفة ودخلت علينا أحداث الانتفاضة الأولى ومنع التجول وتكسير العظام وأكاد أجزم أنه لم تبقى شخص في غزة لم يأكل علقة نظيفة بهراوات جنود الاحتلال. تفرقنا ومات س ولم نعرف موعداً لموته لكن ذكراه باقية في أجيالنا.
أثناء دراستي الجامعية تعلمت أن نيوتن كان شاذاً في تفكيره أثناء طفولته وأن أحد مدرسيه وصمه بالغباء والبلادة، لكنه أصبح لاحقاً من أعظم علماء الفيزياء والفلك، وله ينسب اكتشاف قوة الجاذبية التي وضع لها الطرق المختلفة لقياسها وتقديرها.
كذلك فإن العالم المخترع والعبقري الفذ إديسون، كان قد طرد من المدرسة في الصف الخامس الابتدائي بسبب غبائه أو لنكن أكثر دقة، بسبب غباء النظام التعليمي، فعندما تحضر قرداً مع مجموعة حيوانات ثم تعقد مسابقة ( اختبار ) لمعرفة من يتسلق الشجرة أولاً فالنتيجة معروفة سلفاً، فالقرد هو الفائز بلا منازع، لكن ماذا لو كانت المسابقة من يجيد السباحة، الحصان سيفوز وربما الكلب، والبشر كذلك لديهم إمكانات عقلية هائلة لكن ضمن مجالات مختلفة يتعذر على المنهاج الأكاديمي الرسمي قياسها، ولهذا السبب تطورت في الغرب المتقدم اختبارات منوعة لقياس الذكاء، فهذا يبدع في الرياضيات وآخر في العلوم وعالم المشاهدات وثالث لا يصلح للدراسة لكنه فنان مبدع ويستطيع رسم لوحة أو نحت تمثال ورابع لا يصلح لشيء إلا إذا كان مرتبطاً بالجانب النفس حركي، وهؤلاء هم الصناع المهرة الذين يبنون لنا بيوتنا بأشكال هندسية جميلة وهؤلاء هم من يصلحون لنا أعطاب سياراتنا وأجهزة هواتفنا وقل ما شئت عن التعدد المهني.
من موقعي كمعلم رياضيات، ومع طول الخبرة، أصبحت أشاهد طلاباً لا يستوعبون الهندسة إطلاقاً لكن لا توجد لديهم أدنى مشكلة مع التحليل الجبري. عندما أعلم موضوع الإنشاءات الهندسية ( رسم هندسي باستخدام الأدوات المختلفة ) فإن عدداً من الطلاب المحكوم عليهم بالرسوب في الاختبارات، يبدعون في الإنشاءات بصورة أكثر من أقرانهم الأوائل. أي أنه عند اختلاف نوع التفكير ونوع المهارات يوجد طلاب يبدعون أكثر من غيرهم، لكن مع عدم نفي وجود أصحاب القدرات النادرة الذين يتقنون أغلب المهارات بحرفية عالية.
ماذا لو قلنا أن شخصاً ما يغسل قطعة الصابون بصابون آخر بسبب مرض الوسواس القهري ؟ قد يظن البعض أنها حماقة، ولكنه مرض شهير جداً كان يعاني منه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. أديسون الذي طرد من المدرسة بسبب البلادة وتدني تحصيله العلمي أصبح من أكبر وأعظم المخترعين حتى ترك للبشرية أكثر من ألف اختراع. يقال أن أديسون قد نفذ حوالي 900 تجربة فاشلة لصناعة أول مصباح كهربي، لكنه نجح بعد ذلك لكي تتغير الحياة على وجه الكوكب جذرياً على يد الطفل الذي اتهمناه بالغباء والبلادة !
من جهة أخرى فإن البشرية كلها مدينة لعالم الفلك البولندي كوبرنيكوس الذي اكتشف مركزية الشمس حيث كانت البشرية جمعاء قبله تعتبر أن حركة الشمس الوهمية في القبة المساوية هي حركة حقيقية في حين أن العكس هو ما يحدث. الشمس ثابتة نسبياً لكن الأرض تدور حول نفسها فينشأ الليل والنهار ومن دوران الأرض حول الشمس ينتج تعاقب الفصول الأربعة. هل تتخيلون أن هذا العالم قد تمكن من البوح باكتشافه أمام مجتمع بأسره ( يشاهد ) شروق الشمس وغروبها يومياً ؟! كلا يا أعزائي فقد اتهموه بالجنون والهرطقة ومنعوه من دخول المرصد الفلكي البدائي الذي كان يستخدمه، ولولا ثقل وزنه في المجتمع كعالم رياضيات لكان من الممكن أن يحرقوه مثلما أحرقت أوروبا في عصور الجهل المئات من المفكرين والفلاسفة لا لشيء إلا لكونهم فكروا بطريقة مختلفة أو شاذة عما هو سائد ومعروف ومتفق عليه من مسلمات.
كذلك في طبيعة الضوء وماهيته، فقد توارثت البشرية الاعتقاد اليوناني القديم من أن الرؤية تحدث لأن العين تطلق شعاعاً من الضوء إلى الجسم فتراه إلى أن جاء الحسن بن الهيثم وقال مدمراً تلك البديهية ( لو صح هذا الأمر لأمكننا من رؤية الأشياء في الظلام .. مؤكد أن العكس هو ما يحدث !! ). بعد ابن الهيثم اعتقد ماكسويل أن الضوء عبارة عن جسيمات مادية لها كتلة إلى أن جاء آينشتاين ( الشاذ عقلياً ) وبرهن بالتجربة أن الضوء عبارة عن جسيمات عديمة الكتلة، لها سرعة وليس لها وزن.
إن ما تتعارف عليه الثقافات السائدة في الحضارات المختلفة يبدو في فترات تاريخية طويلة نسبياً كبديهيات ومسلمات مطلقة الصحة، لكن ( الشواذ ) وحدهم، والعباقرة وحدهم، والمبدعون وحدهم، يدمرون لنا تلك المسلمات لكي يقفز العلم من نور إلى نور ومن فتوحات إلى فتوحات ومن نصر إلى نصر ومنه إلى المزيد من التقدم والسمو.
بقي القول أن ما يميز التصرفات التي تبدو حمقاء أو بلهاء للمبدعين ( ليست كلها بطبيعة الحال تعبر عن عبقرية، فالكثير من البلهاء والحمقى والمجانين لهم تصرفات شاذة والتي لا تعني إبداعاً بأي حال )، - أن المريض عقلياً أو نفسياً لا يمكنه مغادرة حماقاته وبلاهته، بعكس المبدع الحقيقي الذي ينجح غالباً في أن يلملم أشلائه وينهض من جديد ليواجه العالم باكتشاف مذهل أو اختراع عجيب.
يطب لي القول في النهاية أن الشذوذ العقلي ليس دائماً صفة ملازمة لمرض عقلي أو نفسي، لكن التربية العربية ما زالت تحبو في علوم الذكاء واكتشاف المبدعين، وهو ما جعلني أفكر جدياً بتصميم مادة دراسية لتعزيز حق الاختلاف، وإليكم أعزائيما خطر ببالي أثناء طباعة هذا المقال:

سؤال: أين العدد الشاذ ( المختلف ) ؟!

5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12
الإجابة المحتملة هي العدد 9 لأنه الوحيد الذي يعبر عن عدد مربع.

4، 5، 6، 8، 9، 14
الإجابة المتوقعة هي العدد 5 لأنه الوحيد الذي ينتمي للأعداد الأولية.

24، 18، 36، 20، 30
الإجابة المحتملة العدد 20 لأنه الوحيد الذي لا يقبل القسمة على 6 !

وهكذا، وضمن الأعداد الفردية والزوجية والأولية وقابلية القسمة يمكن تصميم عدد لا حصر له من مسائل تنمية التفكير وتعزيز حق الاختلاف في نفوس الناشئة.

دمتم بخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد ما حدث لناطحات سحاب عندما ضربت عاصفة قوية ولاية تكساس


.. المسيرات الإسرائيلية تقصف فلسطينيين يحاولون العودة إلى منازل




.. ساري عرابي: الجيش الإسرائيلي فشل في تفكيك قدرات حماس


.. مصادر لـ-هيئة البث الإسرائيلية-: مفاوضات إطلاق سراح المحتجزي




.. حماس ترد على الرئيس عباس: جلب الدمار للفلسطينيين على مدى 30