الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياسة وآفة الغطرسة

هناء سليمان

2016 / 2 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بدعوة من البروفيسور سيمون ويسلي رئيس الكلية الملكية للأطباء النفسيين بلندن ألقى اللورد ديفيد أوين عضو مجلس اللوردات محاضرة عن "متلازمة الغطرسة (الصلف)“. شهدت المحاضرة إقبالا واسعا من الأطباء والمعالجين والمحللين النفسيين. لورد أوين كان طبيبا يتدرب في لندن ليتخصص في الأمراض العصبية قبل أن يتفرغ للسياسة حينما انتخب نائبًا في مجلس العموم عن دائرة بليموث في 1966 وظل نائبًا لمدة ستة وعشرين عامًا. كان وزيرًا للبحرية ثم وزيرًا للصحة وأخيرًأ وزيرًأ للخارجية في حكومة حزب العمال في السبعينيات قبل أن يستقيل ويساهم في تأسيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي في بداية الثمانينات. اشترك في مفاوضات السلام في يوغوسلافيا السابقة ويساهم في مؤسسات للسلام ومنع الحروب. وهو حاليا عضو في مجلس اللوردات كاشتراكي ديمقراطي مستقل رغم معارضته لوجود مجلس اللوردات حيث يؤمن بوجود غرفة واحدة للتمثيل النيابي.
جمع اللورد أوين بين التدريب الطبي والمجال السياسي في دراسة لمائة من الزعماء السياسيين عبر قرن باحثا في سجلاتهم الطبية عن أثر المرض الجسمي والنفسي على قدرتهم على اتخاذ القرار. كان جون كينيدي يخفي إصابته بمرض أديسون الذي شخص قبل ترشحه للرئاسة بسنوات، وكان يعاني من آلام بالعمود الفقري بعد إصابته في الحرب الكورية. وكان الأطباء يحقنونه بخليط من المواد المنشطة والهورمونات التي تؤثر على الأداء العقلي. وربما يكون ذلك قد أثر في قراره غير الصائب بدعم إرسال معارضين كوبيين لكاسترو في غزو فاشل، ثم فشل في إدارة أزمة استعادتهم. في المقابل ساعد استبدال متخصصين أكفاء بالأطباء الذين كان يفضلهم على إدارة أزمة الصواريخ في خليج الخنازير مع الاتحاد السوفييتي على نحو متوازن وفعال. ويعتقد اللورد أوين أن الأمراض التي عانى منها أنتوني إيدن أثرت في إدارته لحرب السويس أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956.
اشتملت الدراسة أيضًا على حالات كان للمرض النفسي دور في اتخاذ المصابين بها للقرارات. فليندون جونسون على سبيل المثال كان يعاني من الاكتئاب ثم أصيب بنوبة هوس. وقد اضطر في النهاية إلى اعتزال السياسة وعدم الترشح للرئاسة. وكان نيكسون يعاني من الاعتماد على الكحول والقلق والتوجس الذي وصل في أحيان إلى درجة البارانويا.
وركز بحث اللورد أوين على تغيرات الشخصية التي تطرأ على القادة بعد توليهم السلطة وبخاصة إذا استمروا في الحكم لفترات طويلة. واستخلص من دارسات السير الشخصية والسجلات المتاحة صفات أدرجها في تشخيص مقترح هو “متلازمة الغطرسة”. في الفهم التقليدي لاضطراب الشخصية تبدأ الصفات المميزة في الظهور مبكرا حول سن الثامنة عشرة. ولكن اللورد أوين يعتقد أن السلطة تحدث تغيرا في الشخصية قد يصل إلى درجة الاضطراب الذي عرفه بالغطرسة hubris وهو تعبير مستوحى من التراجيديا الإغريقية حيث يصعد نجم الحاكم ثم تؤدي غطرسته أو تحديه للآلهة إلى الانتقام nemesis.
ويضرب اللورد أوين أمثلة من التاريخ الحديث لزعماء صعد نجمهم وارتفعت شعبيتهم حتى أصيبوا بالغرور وانتهى الأمر إلى أفول نجمهم. وفي سيرة حياة هتلر التي كتبها إيان كيرشو كان عنوان الجزء الأول “الغطرسة” والجزء الثاني “الانتقام”. وربما يفاجأ القارئ العربي في الشرق الذي شهد تاريخيًا تقديس الزعيم وحكم الفرد بأن بحثه شمل شخصيات سياسية من الولايات المتحدة وبريطانيا التي تعد قلعة للديمقراطية .
ما هي الصفات التي يكتسبها القائد السياسي حينما يصاب بالغطرسة؟ اقترح اللورد أوين بالاشتراك مع جوناثان ديفيدسون تلك الصفات المحددة لمتلازمة الغطرسة: رؤية العالم كمكان لتمجيد الذات من خلال استعمال السلطة والنزوع إلى القيام بأفعال تهدف أساسًا إلى تحسين صورتهم، والاهتمام المفرط بتلك الصورة، وظهور حماس تبشيري في الخطب، والمطابقة بين الذات والشعب أو المؤسسة، والثقة المفرطة في الذات، والاعتقاد بأن المحاسبة التي يخضعون لها لا تكون إلا لقوة أعلى كمحكمة التاريخ أو الإله، والاعتقاد الراسخ أن تلك المحكمة ستنصفهم، وفقد الاتصال بالواقع واللجوء إلى أفعال لحظية دون دراسة للعواقب تحت شعارات أخلاقية، وعدم الكفاءة في إدراك تفاصيل صناعة السياسات. ثم أضيفت صفتان أخريان هما عدم القدرة على التعاطف مع الآخرين وإطلاق العنان للحدس أو الإلهام. ويفرد اللورد أوين لتوني بلير وجورج بوش الإبن مساحة للدراسة حيث ظهرت علامات الغطرسة المذكورة بعد حادث البرجين واستمرت حتى غزو العراق، وانضم بلير إليه في التسرع في إعلان الحرب على العراق دون موافقة المؤسسات السياسية البريطانية أو بتلفيق أدلة على موافقة تلك المؤسسات. وقد غلب الطابع التبشيري على خطابيهما في تلك الأزمة.
ربما يمكننا بقدر قليل من التأمل أن نتذكر أمثلة لقادة سياسيين في عالمنا العربي انطبقت عليهم بعض أو كل هذه الصفات التي قد تنطبق بدرجات متفاوتة أيضًا على بعض من يتقلدون مناصب سلطوية في السياسة أو الإدارة. ولا يقتصر اهتمام لورد أوين على السياسيين ولكنه يعتقد أن خطر الغطرسة ماثل في مجال البنوك والشركات الكبرى، وقد ضرب أمثلة في محاضرته بالمديرين التنفيذيين لشركتي إنرون وبريتيش بتروليوم وفي الحالتين انتهى الأمر إلى انهيار الشركنين، كليًأ في الحالة الأولى وجزئيًا في الثانية.
لا يخلو فرض متلازمة الصلف من المشاكل المنهجية، فاضطراب الشخصية عادة ما يكون تشخيصًا لفرد ولكن القائد السياسي أو الإداري يتحرك في مجال دائرة الحكم وفي مجال ثقافي تاريخي يساهم في نمو تلك الصفات. ولا يتناول الفرض التغيرات التي طرأت على الحياة السياسية حيث أصبحت صورة الزعيم جزءًا من صناعة إعلامية واسعة الانتشار وتحول النشاط السياسي إلى نوع من الأداء. ويثير التشخيص النفسي للشخصيات القيادية سؤالا عن مدى خضوع تلك الشخصيات للمحاسبة. ويشير اللورد أوين إلى ذلك ضمنًا حينما يحذر القياديين من المرؤوسين الذين يقولون “نعم سيدي”. وتغلب النظرة بأثر رجعي على الأمثلة التي استشهد بها على فروضه. ولكن إمكانات استخدام هذه التشخيص في التنبؤ بالسلوك المتغطرس ومحاولة منعه قد تقلل من الكوارث التي تترتب على اتخاذ قرارات اندفاعية تدفع الشعوب ثمنها في النهاية. فهل هناك طريقة للوقاية من هذا المرض؟
يطمح اللورد أوين إلى دراسة الأساس البيولوجي لتلك المتلازمة، وربما إعطاء أدوية في المستقبل للعلاج. لكنه يدرك بحكم اشتغاله الطويل بالسياسة أن فرص العلاج النفسي ليست واقعية تماما، فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل، أن تتقبل تلك الشخصيات العلاج. السبيل الوحيد للوقاية أو الحد من هذه الظاهرة هو تحديد مدة البقاء في السلطة ووجود مؤسسات لصنع القرار وضمانات للمحاسبة وضرورة إطلاع الناخبين على السجل الصحي للمرشحين للقيادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف