الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه: سقراط الحكيم

محمود العكري

2016 / 2 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يذهب التقليد الفلسفي إلى الإتفاق على أن المرحلة الثانية من الفلسفة الإغريقية تمثل القمة في مجمل تاريخ الفكر الفلسفي اليوناني، حيث تم اعتبار الفترة الأولى بمثابة تحضير العقل الإغريقي لنفسه و تمرنه على الحركات الفلسفية اللازمة و ذلك من أجل الانتقال إلى مرحلة النضج التي تتمثل في انفجار عبقرية الإغريق ابتداء من عصر بركليس إلى غاية وفاة أرسطو. و إذا ما اتفق معظم مؤرخي الفلسفة على أن المرحلة الثانية من الفلسفة اليونانية تمثل الأوج، فإن مفكرا مثل نيتشه قد سار ضد التيار معلنا عن تحدي الجميع بأن المرحلة الثانية هي مرحلة الإنحطاط و الفساد، و تماشيا مع الطرحين الذي يذهب الأول فيهما إلى اعتبار الفترة الثانية فترة أوج، و الطرح النيتشوي، يجب علينا التطرق لبعض الإستشكالات و محاولة الإجابة عنها في مقتبل تحليلنا لهذا الباب: ما الذي جعل نيتشه يذهب ضد التيار و يصف مرحلة الذروة الفلسفية في الفكر الإغريقي بالإنحطاط ؟ و أين تتجلى مظاهر و أسباب هذا الإنحطاط ؟ و ما هي الأسماء الفلسفية المسؤولة عن ذلك ؟
إذا كان نيتشه ليس رجلا، بل حزمة ديناميت كما يقول عن نفسه، فإن أكبر من تضرر من انفجاراته النقدية الهدامة في العالم القديم هو سقراط، حيث ذهب إلى وصفه بأقبح النعوت و جعله السبب في غياب نجم الفلسفة اليونانية الحقة. و لا نكاد نطلع على كتاب من كتب نيتشه، أو حتى كتاب يتحدث عن فلسفة نيتشه إلا و نجد إشارة إلى موقفه من سقراط. فإذا كان هيجل قد جعل من شخصية سقراط الأثيني أعلى مرتبة من عيسى الناصري، فإن نيتشه قد أنزله إلى منزلة دون العبيد بكثير. و إذا كان روسو قد نصبه مبشرا و نبيا لديانته الطبيعية، فإن نيتشه قد جعل منه أكبر شرير و محتال في الفلسفة الإغريقية. فما هي الدوافع التي جعلت نيتشه يستبدل الصورة الجدية و المقدسة لسقراط بصورة مشوهة و كاريكاتورية ؟
لقد أشهر نيتشه إيمانه بقوة الغريزة، سالكا طريقا مغايرا لذلك الذي اتبعه كل الفلاسفة التقليديون و على رأسهم سقراط، فكان هجومه على العقل عنيفا عندما أعلن مواجهته لطغيان الإله أبوللو، إله العقل و النظام و الوضوح و الاتزان مستعينا في هجومه هذا بالإله ديونيسيوس، إله الغريزة و الفوضى و الغموض و السكر عند اليونان، معلنا في الوقت نفسه على أنه آخر تلاميذ الإله ديونيسيوس.
و يتضح لنا جليا أول هجوم من نيتشه على العقل في كتابه ميلاد التراجيديا على الرغم من أنه هجوم غير مباشر، لأن نيتشه في حقيقة الأمر لا يهاجم العقل بل يهاجم سقراط باعتباره ممثلا للنزعة العقلية. و سقراط الذي يهاجمه نيتشه ليس مجرد شخصية تاريخية و حسب، و لكنه ظاهرة تجسد كل ملامح الفلسفة التقليدية و نزعتها العقلية، و بهذا فهجوم نيتشه على سقراط لا يمكن فصله أبدا عن هجومه على الفلسفة التقليدية. و في هذا الصدد يقول نيتشه موضحا ما يقصده بالضبط من مرادف السقراطية: " إن السقراطية تشير إلى دوافع و نزعات معينة سميت بعد سقراط لأنه كان أعظم تجسيد لها " .
إن انشغال نيتشه بالبحث عن تبرير ملائم للحياة كان واضحا منذ بداياته الفلسفية و قد عبر عن هذا في المرحلة الأولى من حياته، معتبرا أن الفن كفيل بتبرير الحياة، و هذا الفن يتمثل في التراجيديا الإغريقية فالدين و الفلسفة و الأخلاق السائدة لم تكن كافية لتبرير الحياة، مما يؤكد أنه طوال حياة نيتشه كانت هناك قضية أساسية بدت و تطورت في كتاباته تدريجيا بفعل الزمن، ف ميلاد التراجيديا و إن كان يتكلم عن الفن و التراجيديا بصفة خاصة، إلا أنه يبقى كتاب فلسفي يبحث في معنى الحياة الإنسانية و قيمتها و بالتالي يمجد التراجيديا الإغريقية كتبرير ملائم لها. و في هذا الصدد يقول نيتشه " إن التراجيديا الإغريقية قد واجهت نهاية مختلفة عن تلك التي واجهتها أخواتها من الفنون الأقدم لقد انتحرت التراجيديا نتيجة الصراع اللدود، و ماتت بطريقة تراجيدية، على حين أن الفنون الأخرى قد ماتت في سكون و بطريقة جميلة في عمر متقدم " .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: من المسؤول عن موت التراجيديا؟ يذهب نيتشه إلى القول " بأن يوربيدس قد أحضر المشاهد إلى خشبة المسرح بأن مثل شخصيته و أبطاله التراجيديين أبطال عامة، و واقعية بطريقة مؤلمة بعكس أبطال أسلافه، و كلامهم أقل قوة، لا يمجد و لا يثير الخيال " . إن يوربيدس هو الذي خاض هذا الصراع المميت ضد التراجيديا، فكانت النتيجة هي انحطاط الذوق الإغريقي و حضارته، ما دام أن يوربيدس قد أعد الجمهور لاستقبال الكوميديا الأتيكية الجديدة.
و يذهب نيتشه إلى تبيين العلاقة التي تجمع بين يوربيدس و سقراط في إطار التشارك بينهما في مسألة قتل التراجيديا الإغريقية قائلا : " كان يوربيدس في معنى من المعاني مجرد قناع و كان الكاهن الذي تحدث باسمه ليس ديونيسيوس و لا أبوللو أيضا، بل كان روحا حارسة مولودة حديثا يدعى سقراط". من هنا نفهم طبيعة الاتفاق الكامل بين سقراط الفيلسوف و يوربيدس الشاعر في مجموعة من النقاط التي سنأتي على ذكرها، و التي أدت مجتمعة إلى القضاء على النظرة التراجيدية التي كانت قائمة، و من أبرز هذه النقاط أن سقراط يعتبر من الفلاسفة القائلين بوجود غائية كونية و هذا يعني وجود عناية إلهية و كذلك يعتبر من القائلين أن كل حركة أو ظاهرة في الوجود هي موضوعة و مرتبة من أجل غايات معلومة في العقل الإلهي، و هي خدمة الإنسان. و نفس الشيء قال به يوربيدس عندما أدخل فكرة أنكساغوراس القائلة" في البداية كانت الأشياء مختلطة ببعضها، ثم جاء العقل ليبدع النظام" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: انقسام الجمهوريون وأمل تبعثه الجبهة الشعبية الجديدة


.. هل تتجه فرنسا نحو المجهول بعد قرار ماكرون حل البرلمان وإجراء




.. حزب الله.. كيف أصبح العدو الأكثر شراسة لإسرائيل منذ عام 1973


.. ترامب ينتقد زيلينسكي ويصفه -بأفضل رجل مبيعات-| #أميركا_اليوم




.. تصادم قطارين في الهند يودي بالعشرات