الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه: سقراط الحكيم 2

محمود العكري

2016 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


و يتفق سقراط و يوربيدس كذلك على أن الكون مرتب في أحسن نظام، وقد وصل التفاهم و التناغم بينهما إلى درجة أن سقراط كما يقال كان يساهم في كتابة المسرحيات اليوربيدية و يساعده في تحديد مضمونها و أهدافها، كما أنهما تحالفا ضد شاعر الكوميديا أريسطوفان لأنه في مسرحيته " السحب " جعل سقراط موضوع سخرية، و أعتبره صاحب مدرسة سفسطائية، بل و أكثر من ذلك فقد أذاع سقراط قصة عرافة دلفي التي جعلته أحكم الأثينيين، و عندما سئل عن الأكثر حكمة في المرتبة الثانية من بعده لم يذكر سوى اسم يوربيدس.
يتفق كذلك سقراط و يوربيدس في تحررهما من الأسطورة، بل و الأكثر من ذلك قتلهما و تدميرهما لها و هذا بسبب نزعتهما التشكيكية و الروح العلمية، فقد كان يوربيدس مدفوعا بنزعته الواقعية و العقلانية يعمل على تمحيص الأسطورة و التشكيك فيها، فهو لم يتقبل الصورة القديمة التي رسمتها للآلهة، و التي تظهرها بصورة إنسانية، إنسانية جدا. بحيث كانت ترتكب في الأساطير مختلف الأعمال المخلة كالسرقة و المراوغة و الزنا مع البشر .
و بما أن هناك غائية كونية موجهة لصالح الإنسان، فما عليه إلا أن يستعمل ملكته العقلية و يرسم خطوات منهجية أثناء تفكيره، و ينتقل من مرحلة إلى أخرى مربوطة بصورة منطقية حيث تتولد النتائج ضرورة عن المقدمات و هكذا حتى يتم الوصول إلى معرفة الحقيقة و كشف سر الوجود المحتجب. و هنا يظهر الاعتماد الكلي لسقراط على العقل، و استبعاده التام لكل ما يمت بصلة إلى العاطفة، فالعقل هو المؤهل أكثر من غيره على السير السليم و الصحيح في عملية فهم حقيقة الوجود .
إن المنطق العقلي القائم على أسس و قواعد، لا يمكن أن يقبل قضيتين متناقضتين و هذا ما سمي لاحقا بمبدأ عدم التناقض. لكن في المنطق التراجيدي لا يمكن أصلا الفصل بين ما هو خاطئ أو صحيح، لأن الكون لا يتسم بالوضوح مثلما تصوره سقراط، بل الوجود في التصور التراجيدي يتسم بالغموض و الإنغلاق و التكتم و اللامنطقية .
نلاحظ إذن، أن التفاؤل الذي تولده المعرفة العقلية و المنطقية، هو نقيض التشاؤم التراجيدي الناتج عن غموض الكون و انعدام منطق الحياة. فالحياة مسلاة عند من يفكر، لكنها في الحقيقة مأساة عند من يشعر أو يحس، و سقراط أبى إلا أن يفكر. و يخلص نيتشه إلى أن موت التراجيديا كان أمرا محتوما على يد كل من سقراط و يوربيدس لأنهما قاما بالقضاء على شرط إستمرارها و بقائها و هي الأسطورة.
فتمجيد نيتشه للبهجة الإغريقية الحقيقية التي استطاعت التغلب على قسوة الوجود و ذلك بتأكيده، سرعان ما اندثرت مع بداية الحقبة الثانية من الفلسفة الإغريقية التي كانت مع سقراط، و هكذا فقد حلت محلها بهجة ضحلة إلى أقصى حد " بهجة العبد الذي ليس له مكانة رفيعة يكون مسؤولا عنها، و ليس لديه شيء عظيم يكافح من أجله، و لا يعرض الماضي أو المستقبل ليقيمهما أكثر من تقييمه للحاضر " .
فالمسؤول الحقيقي عن موت التراجيديا يتمثل بالأساس في إقصاء ديونيسيوس من على خشبة المسرح و ذلك بواسطة قوة شيطانية تتكلم من خلال يوربيدس و حتى يوربيدس كما أسلفنا الذكر كان مجرد قناع بمعنى ما، و ذلك إذا أخذنا في الحسبان بأن الإله الذي تكلم من خلاله لم يكن ديونيسيوس و لا أبوللو و لكنه إله حديث الميلاد يسمى سقراط. و هذا بالضبط هو مكمن التعارض بين الديونيسيوسي و السقراطي، و بهذا التعارض دمرت التراجيديا الإغريقية. و هنا يجب الانتباه إلى مسألة مهمة في الفكر النيتشوي مفادها : أن نيتشه يقدم سقراط كإله و ليس كإنسان، و نلاحظ كذلك أن نيتشه يستخدم كلمة " سقراطي " و في هذا الاستخدام إرهاص لما يسمى في المرحلة الأخيرة من حياة نيتشه بالسقراطية فنيتشه إذن ينظر إلى سقراط كحدث رمزي، و هذا ما يعنيه بالسقراطية، فاهتمام نيتشه كان أبعد من سقراط التاريخي.
يذهب نيتشه بعد ذلك في تحليله للشخصية السقراطية فيرى أن يوربيدس قد تأثر بها في اتجاهه الدرامي من خلال القول الأسمى لسقراط الذي يتمثل في " كل شيء يجب أن يكون معقولا ليكون جميلا " باعتباره مبدأ مكملا لقوله " المعرفة فضيلة". و بهذا المبدأ حدد يوربيدس كل عناصر الدراما: اللغة، الشخصيات البناء الدرامي، و موسيقى الكورس. و هكذا اهتدى يوربيدس بالسقراطية الجمالية فاستخدم منهجا عقليا مضحيا بالتشويق الأسطوري الغامض لدى أسلافه من التراجيديين، مما أدى في رأي نيتشه إلى موت التراجيديا الإغريقية " و على أية حال فان سقراط هو المشاهد الذي لم يفهم التراجيديا و لذلك فإنه لم يقدرها حق قدرها. و لقد حاول يوربيدس متحالفا معه أن يكون رسولا لفن جديد، و إذا كان هذا هو السبب في موت التراجيديا فإن السقراطية الجمالية تصبح هي المبدأ الذي يكمن خلف إغتيال التراجيديا، و لكن بقدر ما كان الصراع موجها ضد العنصر الديونيسيوسي في التراجيديا القديمة يمكننا أن ننظر إلى سقراط باعتباره خصما لديونيسيوس. " إنه أورفيس الجديد الذي ثار ضد ديونيسيوس " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | أجواء العيد في مكة المكرمة


.. صباح العربية | أغنام السنغال.. وحدها معفية من التضحية في الع




.. صباح العربية | مظاهر العيد في إقليم كردستان العراق


.. صباح العربية | التطوع في الحج.. الكشافة نموذجا




.. الفيتنامية ثو خونغ تحتفل بعيد ميلادها الـ 119