الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصول التطور في مواجهة اليقين: قراءة تفكيكية

محمد صلاح سليم

2016 / 2 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المعرفة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا بتجرد تام عن الأهواء والاعتقادات واليقينيات، فحينها بإمكان العقل البشري أن يصل لأفضل النتائج الممكنة التي تساعد في فهم الظواهر وتفسيرها، وإن يكن من شئ قد أعاق البشرية أكثر من أي عامل آخر فسيكون التسليم بيقينيات قبل البحث المجرد.
ومن الأمثلة التي يتضح بها خطورة الخلط بين ما مجاله الإيمان واليقين مثل الدين، وما مجاله الشك والتصحيح المستمر والنقد مثل العلم: المناظرات والنقاشات التي تنتشر حول "نظرية التطور" فرفضها أو رفض بعض ما فيها إما أن يكون علميا تماما وحينها لا مشكلة على الإطلاق، بل هذا ضروري لتصحيح المسار، ولأن النقد العلمي يقوم على نفس المنهج العلمي الدقيق دون تأثير الأيديولوجيات، وغالبا ما يكون النقد لبعض أشكال أو آليات تفسير "حقيقة التطور".. والنمط الآخر المنتشر - وهو الأوسع انتشارا- في رفض التطور البيولوجي للكائنات الحية هو الرفض بسبب التعارض مع الرؤية الدينية للخلق، وظاهر أو حرفية بعض النصوص المقدسة، وذلك الرفض لنظرية علمية هامة في تاريخ العلم وتاريخ البشرية، لم يكن على شكل واحد بل اتخذ عدة طرق وأشكال وإن كانت كلها تشترك في الدافع الديني والأيديولوجي، فهناك الرفض الدوجمائي الذي لا يحاول حتى أن يظهر دليلا علميا، ويكتفي برفض النظرية تماما دون حتى معرفة أدلتها، مرددا النصوص المقدسة التي لا يمكن أن تكون خاطئة في نظره ولو قالت الحقائق العلمية غير ذلك، وهناك الرفض بنكهة علمية - دينية، كمثل أن يأتي أحدهم بمقالات متفرقة تحمل لغة علمية تتكلم عن نقد التطور مستندة لبعض النقد العلمي - والذي قد يكون قديما أو مقتطعا من سياقه - وينشره، وغالبا ليس على المجتمع العلمي ولا المتخصصين، بل على العامة بهدف منع انتشار النظرية، وشكل آخر من أشكال الرفض الذي يحمل صبغة علمية غالبا ما تكون زائفة وهو التكلم عما يسمى "التصميم الذكي" ونلاحظ هنا تطوير طرق الرفض وإن كانت جلها في حقيقة الأمر غالبا تشترك في الرفض بسبب الأيديولوجية.

وفي مجتمعاتنا الإسلامية خاصة يصاحب ذلك الرفض هاجس المؤامرة، وتنتشر الاتهامات للعلماء بإرادة نشر الإلحاد والمروق من الدين بمثل تلك النظريات، وأنه يجب التصدي بقوة لتلك الأفكار الدخيلة، ولا يحمل كثيرا منهم الإنصاف على عرض النظرية وشرحها بكامل جوانبها بشئ من الموضوعية، ولا تاريخ تطورها، فأحيانا يكون الجهل مع التسليم أفضل في نظر الدوغمائي من العلم مع المروق - في نظره - من الدين.

وواقع الأمر أن فكرة "التطور" ليست جديدة كليا ولا حتى على العالم الإسلامي! الذي ترجم علوم الإغريق في فترة ما واطلع على عطاء البشرية وزاد عليها أحيانا، بل إن هناك من كانت لديه تصورات عما يمكن أن نطلق عليه بذورا للتطور، أو محاولات لفهم التغير الموجود في الكائنات الحية بطريقة تقوم على البرهان والدراسة، ومن تلك التصورات ماهو غريب ومنها ما قد وافق شيئا مما أقره العلم الحديث، ومن الأعلام الذين لهم محاولات ذات صلة بموضوع التطور:

1.. أمباذقليس: فيلسوف وعالم يوناني له "نظرية" غريبة عن التطور وبقاء الأصلح، حيث كان يرى أن قد كان ثمة بادئ ذي بدء صنوف لا عدد لها من المخلوقات الفانية منتشرة في بقاع الأرض، مختلفة الأشكال، فقد كانت - في رأيه - هناك أعضاء مفردة تنشد التجمع، ثم اجتمعت هذه الأعضاء كيفما اتفق لها، فنشأ عن ذلك كائنات عجيبة، ولم يستطع البقاء من هذا كله إلا بعض هذه الأشكال دون بعضها الآخر.
2.. أنكسماندر: اقترح نشأة الحياة في البحار ثم انتقالها إلي الأرض.
3.. أميدوقليس: أشار إلى تكيف الكائنات ذاتيا لظروفها.
4.. أرسطو: أوضح رأيه في العلاقة التراتبية بين الكائنات، فيما سمى ب "سلم الحياة" أو "سلسلة الوجود" وفقا لتعقد التركيب والوظيفة.
5.. قدمت الفلسفة التاوية في الصين القديمة رؤية، تقوم على عدم ثبات الأنواع وتكيفها مع البيئة، وظهر ذلك عند شوانج تزو في القرن الرابع ق.م مثلا.
6..الفيلسوف الروماني تيتوس لكريتوس كاروس: استعرض في قصيدته "عن طبيعة الأشياء" تطور الكون والأرض والكائنات والمجتمعات البشرية بصورة مادية.
7.. الجاحظ: قدم في القرن التاسع الميلادي رؤية عن التطور، وأوضح في "كتاب الحيوان" تأثير البيئة على فرص بقاء الحيوان، ووصف ما يطلق عليه الآن الصراع من أجل البقاء والانتخاب الطبيعي.
8.. ابن مسكويه: فيلسوف وعالم قدم في كتابه "الفوز الأصغر" رؤية عن التطور.
9.. إخوان الصفا: يرى الدكتور عبد الحافظ حلمي، في دراسته عنهم، أنهم قدموا في رسائلهم صورة متكاملة عن العلاقة التصاعدية المترابطة بين الكائنات، وأن هذه الصورة تطورية وليست تراتبية فقط، كما عند أرسطو.

وبالطبع تلك المحاولات لم تبلغ ما أتى على يد لامارك وداروين بالضرورة، بل إن العلم الحديث وصل إلى ما قد كان ليدهش داروين نفسه، لكن الغاية من تلك الإشارة التاريخية إلى بذور فكرة التطور ودراسة الكائنات الحية دراسة مجردة، إنما توضح أمرين: أولهما أن العقل البشري حين يمارس التفكير المجرد قد يصل إلى معرفة جيدة جدا قد يثبت بعضها التجريب، والثاني أن المعرفة البشرية تراكمية، وقد نصل جميعا إلى ذات النتائج، لو تجردنا من الأهواء والأيديولوجيات حين البحث، وأن فكرة التطور - كما العديد من الأفكار - قبل أن تتبلور كحقيقة علمية، وتكون لها نظريات تفسرها، قد تطرق إليها أو إلى ما يشبهها، علماء وفلاسفة مهضومة حقوقهم أضافت جهودهم إلى تراثنا العديد من المعارف القيمة.

فأين نجد من المهاجمين الآن من يشير إلى تلك المحاولات التاريخية؟ وكيف نقنع أصحاب نظرية المؤامرة أن العلم متاح للجميع؟ وأن الحقيقة العلمية لا علاقة لها بمقدساتهم التي يمكن تأويلها، وتختلف حسب اختلاف الأفهام، وأن المطلوب هو الموضوعية الحقيقية، وأن نتحد على اختلاف عقائدنا للسعي نحو المعرفة المجردة، فذلك الطريق وحده هو ما سوف يضمن للبشرية الوصول لقدر من السلام، حين لا تعكر الأيديولوجيات صفو المعرفة، ولا يقف ظلام الجهل حائلا يحجب نور العلم، ولا يعمينا التعصب المقيت، أن نرى الأشياء كما هي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في