الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان، بين المثالية و الواقعية

عادل كوننار

2016 / 2 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول نيتشه أن المضطهدين يرون أن التعساء هم الأخيار، المتألمون و المعوزون و المرضى و الذين يبغضهم الناس هم فقط الذين تنالهم البركة، و الخلاص لهؤلاء دون سواهم، أما الأرستقراطيون، أصحاب السلطة و النفوذ، فهم إلى الأبد أهل الشر، المرعبون، الطامعون الذين لا يشبعون، الملعونون و الهالكون الذين لن تنالهم البركة إلى أبد الآبدين.

تلهمنا هذه الفكرة كتوطئة نستهل بها على أوضح نحو مقاربتنا لثنائية "المثالية و الواقعية" كجدلية لصيقة بالإنسان، ككيان فردي في تعاطيه مع محيطه، ثم بالمجتعات البشرية عموما ككيان جماعي في تعاط أكثر اتساعا.
على امتداد تاريخ البشرية الطويل، دوما ما انقسم البشر، بحكم طبيعة وجودهم المبني على غريزة البقاء بكل ما تشمله من نزوع نحو الكمال، إلى كتلتين متصارعتين، مضطهدين (بكسر الهاء) و مضطهدين (بفتح الهاء)، مما يفضي ألى تشكل منظومة للقيم تؤطر الصراع بين الجبهتين، حين تلجأ الطبقة المحرومة إلى المثل العليا كسلاح ضد الطبقة المهيمنة، في تعبير عن الرغبة في التحرر من المظالم السائدة، فيتمخض عن ذلك جناحان، جناح الخضوع و الذلة التواق إلى عالم مثالي و جناح التعالي و التمكين المستكين لعالمه الواقعي.

و ما لا يمكن إنكاره في هذا السياق، هو أن جزءا كبيرا من التقدم الذي حققته الإنسانية يعود إلى العوالم المثالية و المحاولات التي تعود للأشخاص المثاليين من الناس، الذين يبشرون بغايات عليا و يدعون إليها، و ما من نبي أو مصلح اجتماعي يحاول أن يجعل المجتمع واعيا بأمر مثالي ما، فإنه سيجلب إشكالية تتمحور حول الصراع بين المتع الحسية و بين المثل العليا، و بهذه الطريقة تطورت الكثير من القيم كالتي تحققت على زماننا في بعض المجتمعات، و منها الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.

و لنا في طبيعة الإسلام صورة كاملة عن معضلة المثالي-الواقعي و علاقتها بطبيعة المجتمع المسلم، فقد انطلق الإسلام دينا محضا طيلة مرحلته الدعوية الأولى في مكة، و قد اجتذب إليه فئات مهمة من الطبقة الفقيرة التي وجدت نفسها في أفكاره الداعية إلى المساواة بين الناس، فيما حدث بعض التغير في طبيعة الإسلام مع وصول محمد (عليه الصلاة و السلام) إلى المدينة و إنشائه نظاما سياسيا-دينيا نقل الدين إلى معترك الحياة الاجتماعية، تحت يافطة "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" و هذا ما شكل الفارق مع عقيدة المسيح (عليه السلام) و التي جاءت مثالية صرفة، حتى أنه ضحى بنفسه من أجلها دون أن يرينا كيفية توحيد تلك المثل مع الواقع.

و لئن كان محمد (عليه الصلاة و السلام) قد نجح في واقع الأمر في توحيد المثالي بالواقعي في تلك السنوات القليلة التي قضاها في المدينة -نجاح ندرجه تحت ما اعتبره د.محمد شحرور سنة نبوية للرسول الكريم تخص تعامله كقائد سياسي أدار دولته وفق الظروف التي تناسب ذلك الزمان و لم يكن ذلك من سنته الرسولية التي تستدعي العمل بها في كل زمان و مكان-

هذا التوحيد بين المثالي و الواقعي و الذي تم تسليمه في مرحلة ثالثة بعد وفاة النبي الكريم جاهزا إلى خلفائه قد عرف منعطفا جديدا في معضلة المثالية-الواقعية، حين لم يعد بالإمكان أن تقترب المثل العليا للدين من مصالح الدولة دون بعض الخلاف و التضارب، خصوصا عندما بدأت كميات هائلة من الغنائم تصب في المدينة نتيجة الفتوحات الإسلامية، و يبدو أن عمر بن الخطاب نفسه قد أدرك العواقب الاجتماعية للثراء الذي وقع على المومنين، و هو يبكي و يقول لأحد أصحابه المقربين "ألا إن الله لا يعطي هذا لقوم دون أن يزرع فيهم العداوة" الأمر الذي ظهر جليا في عهد سيدنا عثمان، قبل أن يتأكد أكثر على عهد سيدنا علي ذي الشخصية الفريدة، و الذي حقق ربما الحلم المثالي لأفلاطون في حكم الفيلسوف بكل الفضائل و الخصال التي اجتمعت فيه، و التي و للمفارقة لم تمنع إخفاقه، بل ربما إخفاقه قد جاء كنتيجة لفرط مثاليته، أخفق علي بن أبي طالب لأنه لم يكن يفضل شريفا على مشروف، و لم يكن يصانع الرؤساء و أمراء القبائل، فتقاعس عنه العرب، تقاعسوا عنه لأنه قال لهم "طوبى لمن ترك الدنيا و سعى إلى الآخرة" تركوه يسعى لآخرته فيما أقبلوا هم على الدنيا التي وعدهم إيها معاوية، و تخبرنا إحدى القصص المشهورة في هذا الصدد عن شخص سئل عن رأيه بخصوص الفريقين فقال "الصلاة خلف علي أتم، و الأكل مع معاوية أدسم" و من هنا تشكلت بذور الصراع السني-الشيعي حين انصرف السنة إلى استحسان التطور الفعلي للإسلام بينما عاش الشيعة بميولاتهم المثالية حياة ثورية على ما اعتبروه استبدادا للحكام و على سياساتهم الاضطهادية.

في الواقع إن كلا من النزعة المثالية الباحثة عن العلاج الاجتماعي و النزعة الواقعية الباحثة عن السلطة الاجتماعية يشكلان قطبي الرحى في سيرورة المجتمعات البشرية، التي رافقت الإنسان في مختلف أطوار وجوده في شكل نزاع بين النموذج المثالي و بين المصالح الواقعية، حتى أن هذه النزعة تعد واحدة من أبرز الاختلافات بين الإنسان و الحيوان، فدوما ما يضع الإنسان نوعا من المثل نصب عينيه يحاول الوصول إليها، و إن لم يتساوى البشر في نزعتهم المثالية هذه، يقول ألبير إينشتابن "مشكلتنا الكبرى هي مثالية الوسائل وغموض الغايات".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مرسيليا على أتم الاستعداد لاستقبال سفينة -بيليم- التي تحمل ش


.. قمع الاحتجاجات المتضامنة مع غزة.. رهان محفوف بالمخاطر قبيل ا




.. غزة: ما هي المطبات التي تعطل الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. البنتاغون: الانتهاء من بناء الميناء العائم الذي سيتم نقله قر




.. مصدر مصري: استكمال المفاوضات بين كافة الأطراف في القاهرة الي