الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه: سقراط الحكيم 4

محمود العكري

2016 / 2 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فظاهرة الإنحطاط إذن تتجلى عند نيتشه في فوضى الغرائز و مرضها، و هذا أساسا هو ما يجعل الإنسان المنحط، يستعين بملكة أخرى هي العقل و المنطق في مواجهة الفوضى و الإضطراب الكامن في الغرائز الحيوية . و يستثمر نيتشه هنا إحدى القصص التي تحكى عن سقراط و التي تدل بشكل نسبي على فوضى غرائزه، و اعترافه بذلك، حيث يقول " قال غريب خبير بالوجوه لسقراط، عندما التقاه بأثينا بأنه قبيح و بأنه ينطوي على أقبح العيوب و أسوأ الشهوات، و قد اكتفى سقراط بالإجابة : لشد ما تعرفني جيدا " .
و يتصور نيتشه أن سقراط كتب شعرا و هو في السجن... و يتصور أن سقراط و هو يموت يسأل نفسه قائلا " ربما يكون هناك عالم للحكمة ينفى فيه رجل المنطق ؟ ربما يكون الفن ذا علاقة ضرورية بالعلم و مكملا له ؟ " هكذا يضع نيتشه الفن و العلم في طرفي نقيض و ينظر إلى سقراط باعتباره نصيرا للعلم ضد الفن، و يواصل نيتشه هجومه من نفس المنطلق على سقراط فينظر إليه باعتباره " نموذجا للإنسان النظري " الذي ينشغل بالبحث عن الحقيقة أكثر من انشغاله بالحقيقة نفسها متوهما أن " العقل " يستطيع أن يكشف عن حقيقة الوجود.
وعلى هذا النحو، فإن سقراط " النموذج الأصلي للمتفائل النظري " باعتقاده الواهم في إمكانية فهم الطبيعة يعتبر الخطأ شرا و يعتبر المعرفة دواء عاما و يتغلب على التشاؤم العملي، كما أنه يجد لذة بديلة عن البهجة الإغريقية الحقيقية التي أقرت الوجود في سعادة. و لكن المعرفة العلمية لها حدود تقف عندها و لا تستطيع أن تتجاوزها، و عندئذ تصبح المعرفة التراجيدية الأسطورية ضرورية لأنها تستطيع أن تخترق هذه الحدود التي تقف عندها المعرفة العلمية، إلا أن الإنسان لا يستطيع أن يتحمل هذه المعرفة التراجيدية دون أن يحميه الفن و يداويه .
و يذهب نيتشه في نقده لسقراط إلى أبعد الحدود، ليعلن عن نفسه متمردا خرج للتو إلى حيز الوجود و بالتالي الغوص في ضد كل ما هو متعارف عليه عند جميع الفلاسفة، و ذلك حينما يعلن على قضية موت سقراط بطريقة مختلفة تماما لما تم تداوله بأن سقراط شهيد الفلسفة و الذي ضحى بنفسه من أجل الحقيقة و ما إلى ذلك من الأقوال.
هناك قصة مؤثرة جدا صاغها أفلاطون و التي تقول بأن سقراط قد مات متجرعا السم و فيها يأتي تصويره لهذا المشهد: " فلما تم اغتساله بنفسه، جيء له بابنيه الصغيرين اليافعين كما وفدت نساء أسرته، فحدثهن و أوصاهن ببعض نصحه... جاء السجان و وقف إلى جانبه... ثم استدار فخرج منفجرا بالبكاء... ناول سقراط القدح... جريئا وديعا لم يرع و لم يمتقع لون وجهه... رفع القدح إلى شفتيه و جرع السم حتى الثمالة رابط الجأش... دثر نفسه بغطاء، و قال( و كانت هذه آخر كلماته ) : إنني يا أقريطون مدين بديك لأسكيليبوس، فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين ؟ فأجاب أقريطون أنه سيوفي الدين... و ما هي إلا دقيقتان حتى سمعت حركة فكشف عنه الخادم، و كانت عيناه مفتوحتين، فأقفل أقريطون فمه و عينه " .
فما رأي نيتشه في هذه القصة المؤثرة التي حكاها لنا أفلاطون؟ و هل تم فعلا إعدام سقراط؟ أم أن سقراط هو الذي أراد الموت بكامل إرادته ؟
يشك نيتشه في هذه القصة و أساسا في قضية أن سقراط مات معدما، فيقول " لقد أراد سقراط أن يقضي نحبه: ليست أثينا، إنه هو الذي مد لنفسه كأس سم الشوكران، لقد أرغم أثينا على أن تمدها إياه... سقراط ليس طبيبا همس لنفسه وحده الموت هو الطبيب... أما سقراط فلم يكن إلا مريضا لزمن طويل " .
حسب نيتشه إذن، سقراط لم يدفع إلى الموت، بل هو من أراد أن يموت بمحض إرادته و الفرق بين القضيتين كبير و شاسع جدا. و هنا يعلن نيتشه عن الخطأ الذي وقع فيه التقليد الفلسفي، و الذي دام و ترسخ لأكثر من ألفيتين من الزمن: سقراط لم يقتل، بل انتحر.
و حتى الحكم الذي صدر في حق سقراط و الذي يقضي بتجرع السم حتى الموت لا يعني أن موت سقراط محتوم و نهائي، لأن الهرب من السجن كان من الأمور المتاحة. و هذا يتجلى من خلال توسل أقريطون لسقراط بأن يهرب عن طريق رشوة الحراس بالمال. لكن سقراط رفض إلا أن يموت، متعللا بضرورة احترام القوانين كمقياس للمواطن الصالح و النموذجي .
و ما يمكن أن نستنتجه من كل هذه الأحداث التي دونها أفلاطون، و التي تثبت الصورة التقليدية و البطولية لموت سقراط. أن سقراط لم يعدم بالإكراه الذي يتصوره كل الناس، إذ أن هناك مجال كبير للإفلات من هذه العقوبة، كأن يتم تخفيضه إلى السجن الدائم أو المؤقت و لكن سقراط أبى ذلك و رفض و فضل طريق الموت و الخلاص. و هذا ما يسقط وصمة العار التي لحقت بأثينا المتهمة بقتل سقراط.
لكن المشكلة التي تبرز على السطح هي : لماذا فضل سقراط الموت رغم اقتناعه بالبراءة ؟ لماذا تخلى سقراط عن حياته بكل هذه البساطة ؟
يقول نيتشه " كان هناك خيار وحيد محتمل للحكم عليه : النفي... لكن سقراط نفسه بدا مصرا على النطق بعقوبة الإعدام و ليس النفي، عن وعي و دون أي وجل من الموت. هكذا لاقى مصيره بهدوء حسبما قال أفلاطون " . فالإجابة عن السؤال تبدو واضحة عند نيتشه : سقراط أراد الموت، لأنه لم يعد مرتبطا بالحياة. و الكلمة الأخيرة التي نطق بها سقراط " إني أدين بديك لأسكليبوس ( الإله ) بعد أن تجرع السم، تعني أن الحياة مرض " . و بما أن سقراط من أعداء الغرائز فيستحيل أن يتمسك بالحياة لأن " مصدر التعلق الشديد بالحياة ليس هو العقل أو التفكير، فقليل من التأمل ( و هو عند سقراط مفرط) كاف لإقناعنا بأن الحياة ليست خليقة بشيء من الحب و الإستمرار... إن هذا التعلق بالحياة حركة عمياء غير عاقلة، و لا تفسير لها إلا أذا كان كياننا كله إرادة للحياة خالصة " .
و يستمر نيتشه في حديثه عن السقراطية كوجهة نظرية من خلال نظرتها إلى العالم، فيؤكد أنها تستمد قوتها من حقيقة كونها في خدمة الحياة. فما دامت الحياة قاسية و مؤلمة فلا بد للإنسان من تبرير يجعلها تستحق أن تعاش. و السقراطية تقدم له هذا التبرير حين تسمح له أن ينشد اللذة في المعرفة و في الاعتقاد بأن جرح الوجود الأبدي يمكن أن يشفى. أي أنها تستمد قوتها من تفاؤلها الذي يكمن في الاعتقاد بأن الوجود يمكن معرفته و تصحيحه.
و هكذا، يخلص نيتشه إلى أن العقل كان هو الملاذ الأخير عند سقراط و أصحابه وذلك لأن طغيانه كان ضروريا للحفاظ على الحياة، و الدافع وراء الاختفاء تحت زي العقل كان بسبب العداء الشديد للغرائز. انطلاقا من هذا الرأي ينتهي نيتشه إلى أن الدواء الذي قدمه سقراط للانحلال الإغريقي و هو ( العقلانية بأي ثمن ) مجرد تعبير آخر عن الانحلال، لأن هذه العقلانية تعني أن نستبدل مريضا يكبت كل غرائزه و يسيطر عقله عليه بمريض تسيطر عليه غرائزه. فالانحلال الحقيقي ليس هو فوضى الغرائز، بل هو طغيان العقل، و من هنا يذهب نيتشه إلى قلب المعادلة السقراطية و التأكيد على أن السعادة تساوي الغريزة طالما أن الحياة صاعدة.
هكذا، فإن نيتشه يقدم صورة جديدة و غريبة عن سقراط تختلف تماما عن صورته التقليدية و يتبين هذا لنا إذا أمعنا النظر في صورة سقراط عند الفلاسفة السابقين على نيتشه. فديكارت مثلا يهاجم الفلسفة القديمة فيقول" لا يمكننا أن نجد في الفلسفة التقليدية شيء واحد غير مشكوك فيه "، كما ذهب هوبز إلى اعتبار الفلسفة القديمة فلسفة عقيمة، و على أية حال فإن رفض الفلسفة القديمة قبل نيتشه لم يترتب عليه رفض سقراط، بل كان سقراط بالأحرى مثالا لحياة الفيلسوف و تجسيدا لروح الفلسفة. و مع بزوغ النزعة الإنسانية جاءت العبارة القائلة " سقراط أيها القديس، صل من أجلنا ". و أخيرا عبر الفلاسفة المعاصرون عن إعجابهم بسقراط مثلما عبروا عن إعجابهم بفولتير و روسو. و هكذا فإن سقراط الذي يهاجمه نيتشه كان بطلا مقدسا من أبطال الحضارة الغربية .
و يسلم نيتشه بأن شجاعة سقراط أمام الموت حكمة. و على هذا النحو نجد أمامنا حقيقتين: الأولى أن سقراط كان حكيما في إدانته للحياة، و الثانية أن نيتشه كان حكيما في دفاعه عن الحياة و تأكيدها. و ليس في هذا أي تناقض لأن الحياة التي يدينها سقراط هي الحياة المنحطة التي أفسدها طغيان العقل و الحياة التي يؤكدها نيتشه هي الحياة الصاعدة التي تهتدي بالغريزة.
و يجب أن نسجل ملاحظة مهمة و هي أن نيتشه لا يرفض العقل بطريقة فجة ولكنه يرفض الدور الذي يلعبه العقل في الفلسفة التقليدية، أي يرفض طغيان العقل أو المبالغة في تقديره على حساب الغرائز. فالإنسان يجب أن يستخدم العقل و لكن ليس من أجل أن يشن حربا ضد الغرائز، ففي الإنسان السوي ينسجم العقل مع الغرائز، و يؤديان دورهما في تناغم، أو بتعبير نيتشه: ينسجم العنصر الأبوللوني و العنصر الديونيسيوسي. فاختلاف نيتشه مع الفلسفة التقليدية إذن إنما يتعلق بالطريقة التي استخدموا بها العقل أو ما يسميه نيتشه بطغيان العقل .
نستخلص إذن، أن سقراط هو عبقري الانحطاط الأول حسب نيتشه، فهو يعارض الحياة بالفكرة، و يحكم عليها بالفكرة، و يطرح الحياة كما لو كانت يجب الحكم عليها، و تبريرها، و إفتداؤها بالفكرة. فسقراط هو الإنسان النظري النقيض الحقيقي الوحيد للإنسان المأساوي، و يتجلى ذلك في قول " لا " للحياة فتصير الحياة انحطاطا و انحلالا من خلال نفيها. في حين يواجه نيتشه هذه الصيغة بصيغة مضادة فيقول " نعم " للحياة و يذهب في اتجاه تأكيدها و إثباتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: فوز رئيس المجلس العسكري محمد ديبي إتنو بالانتخابات الر


.. قطاع غزة: محادثات الهدنة تنتهي دون اتفاق بين إسرائيل وحركة




.. مظاهرة في سوريا تساند الشعب الفلسطيني في مقاومته ضد إسرائيل


.. أم فلسطينية تودع بمرارة ابنها الذي استشهد جراء قصف إسرائيلي




.. مظاهرة أمام وزارة الدفاع الإسرائيلية بتل أبيب للمطالبة بصفقة