الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقي والمثقف

محمد لفته محل

2016 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المثقف في منظور عامة العراقيين هو كل من يقرأ الكتب كثيراً، ويتصورون انه يفهم كل شيء بالحياة جاهلين مبدأ التخصص العلمي، وإذا اعتذر المثقف عن الإجابة على سؤال موجه له قالو له بتعجب:(لعد شلون انت قاري كتب؟) والمثقف محترم عند العراقي ويشار له بكلمات مثل (يقره هواي كتب) أو (أربعة وعشرين ساعة لازم الكتاب) أو (عيونه رايحه من الكتب) مع ذلك فالعامة تعتبر القراءة ترف وبطر لأنها (ما توكل خبز) والعمل أفضل منها كونها كما يتصور البعض قد تقود للجنون أو إضعاف العقيدة، والشباب يعتبرون الذي يقرأ الكتب كثيراً (معقد) بل أن بعض العراقيين البسطاء يسمي الكتاب (دفتر) وهناك من يتعذر بأن القراءة تسبب له الصداع، أو أن لا وقت لديه للقراءة بسبب كثرة مشاغله لكنه يستطيع التفرغ للمقهى أو لكرة القدم مما يدلل على عدم جدية التفرغ ولو قليلا للقراءة. والقراءة عند العراقي مهمة فقط لأجل الدراسة للحصول على الشهادة التي بواسطتها يحصل على الوظيفة، ولا يقرأ العراقي إلا الكتب الدينية (قصص أنبياء، فتاوى، أدعية، أوراد) أو كتب الأبراج والشعر الغزالي والروايات الغرامية وغالباً في مرحلة الشباب فقط، ومن الصحف يفضل قراءة الأخبار الرياضية وأخبار المنح والرواتب وهذا راجع ربما لتحريم الفلسفة في العهود الإسلامية والى الحصار الاقتصادي الذي اثر على نفسية المواطن وتوجهاته عندما أصبحت المعيشة لا يمكن تحصيلها إلا بالكد المضني، يضاف له ثقافة اجتماعية تمجد العمل وجمع المال كمعيار للنجاح وضمان المستقبل في مجتمع محافظ أصلا تجاه كل ما هو جديد يقترن لديه بالبدعة والأجنبي والزندقة.
إن كلمة مثقف تقترن عند العامة بالرقة والنزاكة والأنوثة فهي سلبية بهذا المعنى، وتقترن أيضا كلمة (مثقفين) بالحرية (فري) وبحيازة التقنيات الحديثة والسلوكيات المهذبة، وهذه الصورة تساعد كثيرا في إبعاد المثقف عن الناس وتساهم في خلق نرجسية لديه يتعالى بها عليهم فتزداد الهوة الاجتماعية والنفسية، من هنا ترى أن المثقف بعيدا عن الجماهير مخلياً مكانه لرجل الدين والسياسة الذين يعرفون كيف يؤثرون بالجمهور، ولهذا الابتعاد آثار سلبية خطيرة على المجتمع يحول دون تقدمه ويجعله عرضه للتلاعب به بين السياسي والفقيه المتحالفان معا كما يشير بذلك عالم الاجتماع (خليل احمد خليل).
يحب المثقف العراقي أن يكون له طبقة خاصة به يعتزل بها يرتاد مقاهي ونوادي المثقفين ويأنف مخالطة العوام ويصفهم غالباً بأوصاف (أغبياء، جهلة، متخلفين) ناسياً مسؤوليته الثقافية لتوعيتهم منتظراً منهم وعياً منفتحاً لكي يفهوا ويستوعبوا كتاباته!! قالباً المعادلة فبدل ان يثقف الناس بكتاباته، على الناس أن تتثقف لكي تستوعب كتاباته! ما جعله عرضه لنقد جيل آخر من المثقفين الشعبيين أمثال الدكتور (علي الوردي) الذي سماهم (أصحاب الأبراج العاجية) لأنهم يقدمون المثال على الواقع، يقول بهذا الصدد (أن أصحاب المنهج "العقلاني" اعتادوا أن يعيشوا بتفكيرهم الاجتماعي في أبراج عاجية، فإذا أتيح لهم أن يمروا بالأزقة والأسواق وخالطوا العامة نظروا إليهم نظرة استعلاء وشموخ وأخذوا يشمئزون مما يجدونه بينهم من عادات "سخيفة" أو عقائد "باطلة". أنهم يظنون أن العامة إنما صاروا كذلك لجهلهم وسوء تفكيرهم وهم قادرون إذن أن يصلحوا أنفسهم إذا استعملوا عقولهم وفكروا تفكيرا سليما.)(فالمجتمع في نظر تلك الفلسفة ليس سوى مجموعة من الأفراد، وكل فرد له "عقل" يرشده إلى الطريق الرشاد أو الضلال. ومعنى هذا أن المشاكل الاجتماعية هي مشاكل "عقلية" بالدرجة الأولى، فإذا صلحت عقول الأفراد صلحت أخلاقهم واستقام نظام المجتمع بها فلا مشاكل فيه ولا هم يحزنون!)(1) ويضيف (هادي العلوي) إضافة مهمة (ولعل أهل العلم والعقل عندما تتسع عليهم المعرفة بالحقائق ينتابهم شعور بالاشمئزاز من جهل العامة فيتمايزوا عنها. وكثيرا ما تصبح كلمة عامي صفة مثيرة للاستهجان لما يقترن بها من الجهل. وهم لا يفرقون بين الجهل والأمية فالعوام أميون أي لا يحسنون القراءة والكتابة لكنهم قد لا يكونوا جهلة بالضرورة لأنهم يزاولون مهناً وصناعات تحتاج إلى الفكر والمهارة ومن يملك الفكر والمهارة لا يسمى جاهلاً وإنما يسمى أمياً إذا كان لا يقرأ ولا يكتب. والعوام أيضا يشتملون على وعي اجتماعي طبقي وسياسي) وهي ليست مصدر إزعاج بل هم في الحقيقة من مصادر الوعي(2). وكما قلت في مقال سابق (مخالطة الناس كتاب يجب أن يقرأه كل مثقف حتى لا ينعزل في أبراج عاجية ومواقف وتصورات مثالية فانزل أيها المثقف من برجك واخرج من نرجسيتك وتواضع لتؤدي رسالتك.) وهذا التعالي هو سبب اكتفاء المثقف بالنقد الخارجي فقط دون التقرب الموضوع وتحليله وتفكيكه الذي سيتيح له فهما وتفسيراً أفضل وأعمق. وكل مثقف يتقرب للسلطة على حساب الجماهير أو من أجل مكاسب شخصية يسقط في نظرها/الجماهير ويخسر رسالته التاريخية والإنسانية.
فالقطيعة بين المثقف والجمهور يتحملها الاثنين بسبب الصورة النمطية السلبية المتبادلة بينهما ويجب إصلاحها بمبادرة من المثقف بالتوجه للناس بفكره وكتاباته ضمن اختصاصه الأدبي أو العلمي أو الفني وإلا سيبقى كل شيء على حاله من تخلف ورجعية يستغلها السياسي ورجل الدين المتحالفان معا لاستغلاله حفاظا على مصالحهما ومكاسبهما المشتركة.
المثقف الحقيقي بتصوري ليس الأكاديمي أو من يقرأ الكتب إنما هو كل من اكتسب المعرفة أكاديميا أو بالتثقيف الذاتي فغيرت هذه المعرفة أفكاره وتصوراته السابقة وانعكست في سلوكه وحياته، ثم تصبح مشروع إبداع أو تغيير ينتجه للمجتمع ضمن اختصاصه الأدبي أو العلمي وكلما اقترب المثقف من واقع الناس وحياتهم وعصره وابتعد عن المثاليات والمطلقات الفكرية الكونية كلما كان مثقفا عمليا عضويا بتصوري يؤدي دوره التاريخي على أكمل وجه، والمثقف النقدي وحده غير كاف إذ يجب أن يسبق النقد تحليل الموضوع من الداخل قبل التسرع بالنقد من الخارج حتى يصبح بالإمكان تفسير الظاهرة ثم نقدها للتحكم بها تصحيحا أو تغييرا.
_______________________
1_الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، إصدارات دار الحوراء، 2005، ص372،373.
2_هادي العلوي، مدارات صوفية، تراث الثورة المشاعية في الشرق، الأعمال الكاملة 12، المدى، الطبعة الثالثة 2014، ص45.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. تقارير: الحرب الإسرائيلية على غزة دمرت ربع الأراضي الزراعية




.. مصادر لبنانية: الرد اللبناني على المبادرة الفرنسية المعدّلة


.. مقررة أممية: هدف العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ البداية ت




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على خان يونس