الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عهد قديم وعهد جديد-11- حمورابي وموسى

طوني سماحة

2016 / 3 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من هو الله؟ ما هو منشأه؟ هل هو تطوّر طبيعي لمجرى التاريخ والجغرافيا والثقافة؟ هل هو خرافة شأنه شأن آلهة القدماء ولا وجود له على الاطلاق؟ هل هو ولد من رحم الثقافة الكنعانية أو البابلية الأشورية أو ربما المصرية كما قال البعض؟ هل هو حاجة سياسية نشأت تحت مسمى التوحيد لجمع شتات الامة وضمهم تحت لواء المملكة اليهودية الناشئة؟ كثيرة هي الاتهامات التي طالت إله إسرائيل وللأسف لم تُبن معظمها على دراسات جادة، بل بقيت أسيرة التكهنات والفرضيات.

عندما قمنا في المقالات السابقة بجولة على آلهة العالم القديم ومنها الكنعانية، لم يكن الهدف مجرد تدوين معلومات، بل كانت الغاية الأساسية التعرف على ديانات القدماء لأجل فحص الانتقادات الكثيرة التي ربطت نشأة إله إسرائيل بآلهة الأمم المجاورة. قرأت للبعض الذين كتبوا أن اليهودية هي تطور لحضارة وديانات بلاد ما بين النهرين، وكانت حجتهم أن حضارة أشور وبابل سابقة لحضارة اليهود وبالتالي فالتوراة نقلت عن حمورابي شرائعه. نحن نؤكد على أسبقية الحضارة الأشورية البابلية، وهو أمر اعترف به كاتب التوراة عندما رد نسب إبراهيم الى أور الكلدانيين. "عين بعين وسن بسن" هي واحدة من شرائع حمورابي التي سبقت اليهودية والحضارتين اليونانية والاغريقية والتي دونتها التوراة في سعيها لإحلال العدالة في المجتمع. لكن اتهام التوراة بنقل شرائع الاقدمين لا يستند على بحث علمي دقيق. فشريعة اليهود تنسجم كليا مع طبيعة شعبها وثقافته وتاريخه، تماما كما أن شريعة حمورابي تنسجم مع بيئته ورؤيته. شريعة اليهود لاهوتية (ثيوقراطية) بالدرجة الأولى تهدف الى بناء علاقة بين الله وشعبه، بينما شريعة حمورابي سياسية اجتماعية تهدف الى بناء مجتمع عادل يؤمّن الاستقرار السياسي والقضائي للمملكة الفتية. ولكي يعطي حمورابي شرعية لقوانينه، بناها على أرضية دينية: "دعاني بل وآنو باسمي، أنا (حمورابي) الأمير المعظم، الذي يخاف الله، لأثبّت الأمن والعدل في الأرض، وللقضاء على الشرير والمجرم، حتى لا يؤذي القوي الضعيف، وحتى أحكم على ذوي الأفكار السوداوية تماما مثل شمش (إله الشمس)، ولكي أنير الأرض ويعمّ الرخاء فيها..."

إن كان موسى، مشرّع اليهود الرئيسي، والمؤثر على شرائع العصر الحالي من خلال وصاياه العشرة، قد ذكر بعض القوانين التي تتشابه مع شريعة حمورابي، فذلك أمر بديهي. إن وصية "لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، ولا تشتهي امرأة قريبك وممتلكاته" هي فطرة إنسانية لا تحتاج أسبقية تاريخية، بل هي تلد مع الضمير البشري من خلال إحساس الانسان بالحاجة للعدل والقانون في أي مجتمع سكن فيه. فسكان أمريكا الأصليين آمنوا بها، وكذلك الهنود والصينيون القدماء وغيرهم من الشعوب. هنا تنتهي أوجه التشابه بين شريعة موسى وحمورابي لكي تسير كل من الشريعتين في الاتجاه الذي رسمه لها مشرّعها. ولكي يكون البحث موضوعيا سوف نقارن بين كل من الشريعتين.


شريعة حمورابي هي سياسية، اجتماعية، ثقافية، أضاف عليها الإلهان أنو وبل شرعية. تُعنى هذه الشريعة بإحلال العدل في المملكة البابلية. أما شريعة إله إسرائيل فهي لاهوتية، اجتماعية، ثقافية، محدودة في زمانها ومكانها وفي الرسالة التي تحملها لشعبها. يغطي هذا التشريع الفترة الزمنية الممتدة بين العام 1500 قبل الميلاد تقريبا والعام صفر ميلادي. خصص هذا التشريع لليهود في فلسطين القديمة ويبقى فاعلا حتى مجيء مشرع لاحق، كما نستدل من قول موسى "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من أخوتك مثلي. له تسمعون." (تثنية 18: 15). يؤمن اليهود أن هذا النبي المشرّع هو المسيّا المنتظر بينما يرى المسيحيون فيه يسوع المسيح.



معظم شرائع حمورابي التي يصل عددها للثلاثمائة تدور حول قضايا الملكية الفردية وملكية العبيد والتجارة والعمل وأمور الزواج والطلاق. يتبّع حمورابي في إحلال النظام مبدأ العقاب لردع الناس عن فعل الشر والاخلال بالأمن. مثلا "إن تم الإمساك بواحدهم بالجرم المشهود وهو يسرق، يكون القتل عقابه". أما شريعة موسى، فهي تبحث في الكثير من القضايا الاجتماعية بما فيها الملكية الفردية والعلاقات الاجتماعية والزواج والطلاق، إلا أنها تتخطى مفهوم العدل الاجتماعي لكي تجري تغييرا روحيا في طبيعة الانسان، بدل الاكتفاء بردعه عن فعل الشر. يصرخ داوود الملك إثر ارتكابه الشر "قلبا نقيا أخلق فيّ يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي" (مزمور 51: 10).



ليس في قانون حمورابي ما يشير الى معالجة الفساد الداخلي للإنسان، بل اهتمت شرائعه بردع الشر من خلال مبدأ العقاب. أما الشريعة العبرية، فهي تهدف الى معالجة الشر في حياة الانسان. فهو (أي الانسان) يمتلك طبيعة فاسدة، ولن يستطيع إصلاحها إلا من خلال توبته واتقاء الله واحترام تعاليمه. من هذا المنطلق صرخ داوود النبي بعد ارتكابه الشر: "ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امح معاصي. اغسلني كثيرا من اثمي ومن خطيئتي طهرني. لأني عارف بمعاصي وخطيئتي قدامي" (مزمور 51: 1-3). وبالتالي لا تقتصر الشريعة اليهودية على مبدأ العقاب لردع الشر، بل تسعى لتغيير قلب الانسان وتجديده. فالقلب البار يمتنع عن فعل الشر انسجاما مع طبيعته الجديدة.

يعتمد حمورابي على القتل وبتر الأطراف لردع الناس عن ارتكاب الجريمة. إن عثر على رجل يسرق، يكون القتل عقابه. إن قال ابن زنى لأبيه الذي تبناه "لست بوالدي"، لا بد من قطع لسانه. إن قام حلاّق بقطع العلامة التي تميّز العبد عن الحر، تقطع يدا الحلاّق. إن قال عبد لسيّده "لست بسيّدي"، يعاقب العبد بقطع أذنه. عندما لا يكون الدليل واضحا في إدانة المجرم، كان يؤمر المتهم برمي نفسه في نهر الفرات. فإن غرق اعتبر مجرما وان سبح الى الضفة وأنقذ نفسه، اعتبر بريئا. أما في الشريعة الموسوية، فيختلف مقياس العقاب بحسب درجة الجريمة. نصت الشريعة اليهودية على قتل المذنب في حالات محددة يمكن اختصارها بالتجديف على إله إسرائيل، وعبادة الاوثان، وممارسة السحر، والخطايا الجنسية مثل الاغتصاب والخيانة الزوجية والعلاقات المحرمة بين أفراد الاسرة الواحدة أو ما يعرف بزنى المحارم، وأخيرا جرائم القتل ما عدا القتل غير المتعمد. أما الخطايا الأخرى فكان يلزم صاحبها بإصلاح ما تم إفساده، مثل أن يعوّض السارق عن جريمته برد المسلوب ضعفين على الاقل.

لم يكن للآلهة البابلية أي دور في صياغة شريعة حمورابي باستثناء إضفاء شرعيّة دينية لها. أما الشريعة اليهودية فهي تقر بضعف الانسان. لذلك يقدم المشرّع الرئيس فيها (الله) للإنسان الفرصة تلو الأخرى للتوبة والعودة عن فعل الشر. نقرأ في سفر حزقيال رغبة الله في توبة الانسان " النفس التي تخطئ هي تموت...فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا فحياة يحيا. لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه. في برّه الذي عمل يحيا ". ويكمل حزقيال ليعلن عن طبيعة الله التي تكره موت الانسان في خطيئته "هل مسرّة أسرّ بموت الشرير؟ يقول الرب. ألا برجوعه عن طرقه فيحيا؟ "


لم يخطر ببال المشرّع البابلي بناء المجتمع على أساس القيم كالرحمة مثلا. كما أن حمورابي لم يعنى بإصلاح الانسان وإعادة تأهيله، بل اكتفى بالوعيد والعقاب لمنع حصول الجريمة. أما العهد القديم فقد حمل مشروعا أخلاقيا يعيد بناء الانسان من الداخل. أدخل موسى وغيره من المشرعين قيما جديدة على النص الديني والتشريعي مثل الرحمة والعدل والنزاهة والمغفرة. أوصى موسى بالفقير والارملة والغريب "عندما تحصدون حصيد ارضكم لا تكمل زوايا حقلك في حصادك ولقاط حصيدك لا تلتقط. للغريب والمسكين تتركه." (لاويين 23: 22). يذهب المشرع اليهودي بعيدا لينادي بالرحمة للغريب "لا تضطهد الغريب ولا تضايقه. لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. لا تسئ الى أرملة ما أو الى يتيم. إن أسأت إليه فإني إن صرخ إلي أسمع صراخه. فيحمى غضبي وأقتلكم بالسيف. إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه ربا...." (خروج 22).


حافظ التشريع البابلي على الهرم الاجتماعي، فلم يأت بجديد من ناحية الأنظمة السائدة آنذاك. أما المشرّع اليهودي فقد قفزة نوعية في موضوع الإصلاح الاجتماعي مقارنة بالشعوب الأخرى وقياسا على واقعه التاريخي والثقافي. فالعبراني الذي تقوده الحاجة الاقتصادية لبيع نفسه سدادا للدين، كان عليه أن يخدم سيّده ست سنين وفي السنة السابعة يخرج حرا (خروج 21 وتثنية 15). كذلك، لم يقسّم موسى أو أحد بعده المجتمع لطبقات، بل نستطيع القول ان الشعب اليهودي قد يكون الوحيد في عصره الذي ساوى بين أفراد المجتمع الى أن أصر الشعب لاحقا في تاريخه على تمليك رجل عليهم خلافا لرغبة الله. فلا امتياز لليهودي الغني عن الفقير: "لا تحاب مع المسكين في دعواه" (خروج 22: 2) ولا تفاوت في الطبقات الاجتماعية، بل يقف الكل في صف واحد "وأنتم تكونون لي مملكة كهنةٍ أمة مقدسة".

عندما شكك الكثيرون بالتشريع الموسوي ونسبوا الزيف اليه، للأسف قاموا بانتقاء جملة من هنا وكلمة من هناك وبنوا عليها نظرياتهم. لم يتكلف العديد منهم النظر بعمق في كل من النصّين الحمورابي والموسوي، بل كانوا في الكثير من الحالات مدفوعين بكراهية لمبدأ الدين، مما جعلهم يضعون الديانات كافة في سلة واحدة ويوجهون إليها السهام. كذلك ينطبق القول على هوية الله. كشفت حفريات رأس شمرا في أوغاريت أن الكنعانيين كانوا يتعبدون لإيل. علت أصوات المشككين في ان أن العبرانيين أخذوا من الكنعانية هذه العبادة، دون أن يكلفوا أنفسهم العناء في فحص كلمة إيل التي بإمكانها أن تكون اسم نكرة معناها الإله في العبرية، كما أنه بإمكانها أن تكون اسم علم في الكنعانية وتشير تحديدا للإله إيل والد بعل وزوج عناة. لم يقم المشككون ولو بدراسة واحدة للبحث عن هوية إيل في كل من العبرية والكنعانية. هل لإيل العبري نفس صفات الاله الكنعاني؟ هل هو واحد من مجموعة آلهة؟ أسئلة كثيرة طرحها كثيرون للتشكيك بهوية الله ولسوف نجيب عليها في المقال القادم بإذن الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
nasha ( 2016 / 3 / 7 - 08:59 )
الأستاذ طوني المحترم تقول:

ليس في قانون حمورابي ما يشير الى معالجة الفساد الداخلي للإنسان، بل اهتمت شرائعه بردع الشر من خلال مبدأ العقاب. أما الشريعة العبرية، فهي تهدف الى معالجة الشر في حياة الانسان(
كيف لنا أن نتأكد من أن شريعة حمورابي لم تعالج الفساد الداخلي للانسان؟
التوراة حديثة نسبيا ومدونة في مخطوطات ورقية أو جلدية مما سهل حفظها بكل تفاصيلها وشروحاتها وكذلك بقاء الديانة اليهودية وتبني المسيحية للعهد القديم سأعد في الحفاظ عليها.
بينما شريعة حمورابي واديان ذلك العصر قد اختفت من الوجود ولم تعد موجودة كعبادة ولذلك تم إهمالها وربما ما وصل إلينا هو جزء صغير لا يساعد على دراسة العقائد والشرائع لذلك العصر. وعليه ربما حكمنا عليها غير دقيق.
؟ما رأيك
تحياتي وفي انتظار التالي


2 - ناشا
طوني سماحة ( 2016 / 3 / 7 - 23:52 )
يسعدني عزيزي ناشا مشاركتك
أما بالنسبة لشريعة حمورابي فهي تتكون من 300 قانونا ركزت على القوانين الوضعية للملكة. هي ليست بدين حتى تركز على معالجة الفساد للانسان. ولم اقصد في مقالي التنقيص من شريعة حمورابي على الاطلاق، فهي بحد ذاتها انجاز قياسا الى الزمان المكان الذي كتبت فيه. لكني قصدت من خلال مقالي الرد على البعض الذين يقولون ان شريعة موسى هي منقولة عن شريعة حمورابي، كما اني حاولت اظهار الفوارق بين هاتين الشريعتين مع التركيز على ان احداهما لاهوتية اجتماعية فيما الاخرى سياسية ثقافية اجتماعية
وتقبل مني كل الشكر والاحترام

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah