الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل من ضرورة لوجود المثقف في المجتمع والعالم؟

سعد محمد رحيم

2016 / 3 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل من ضرورة لوجود المثقف في المجتمع والعالم؟ ذلك هو السؤال الذي لابد من أن يعقبه سؤال مكمِّل: وماذا لو اختفى هذا الكائن اللاعب في حقل الثقافة، على حين فجأة، من المشهد الاجتماعي؟
يبدو أننا ملزمون، كلّما استخدمنا اصطلاح المثقف، بتوضيح فحواه ومقصدنا منه، بحكم حدوده السائبة التي يصعب تأشيرها بدقة. تلك الحدود التي تتسع عند بعضهم، وتضيق عند بعضهم الآخر، باختلاف موجِّهاتهم الفكرية، ودوافعهم، وأفق نظرتهم. فما نعنيه بالمثقف سيعيننا في الإجابة عن السؤالين آنفي الذكر.
يعرِّف توماس سويل مؤلف كتاب ( المثقفون والمجتمع: أنماط المثقفين وأثرها في حياة الشعوب ) المفكرين، أو المثقفين ـ واضعاً إياهم في سلّة واحدة ـ بأنهم "فئة المهنيين، أولئك الذين تتعلق مهنهم في المقام الأول بالتعامل مع الأفكار، والكتّاب والأكاديميين، وما شابههم".
ومع أن مثقفاً مدّعياً يمكن أن يكون زائفاً ونبياً كاذباً، أو أن يكون موهوماً، أو أن تنشأ عن أفكاره أضرار جسيمة، أو أن يكون مدافعاً عن أكثر الإيديولوجيات المسبِّبة للشر والعنف والخراب، فإن سويل يضع حتى هؤلاء في خانة المثقفين، طالما كان يصف مهنة لا "تسمية لنوعية أو لقب شرفي". وبرأيه "مثلما أن الشرطي السيء يظل شرطياً... فإن المثقف الضحل الحائر والمخادع يظل بقدرٍ ما عضواً في تلك المهنة مثله مثل النموذج المثالي في المهنة". وهنا يتحدث عن المثقف المحترف، لا الهاوي، قبل أن يبدأ بنقد المهنة، عبر أنماط المثقفين، مستثنياً أسماءً من قبيل ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، والروائي ( السوفيتي ) المنشق سولجنستين، من غير تسويغ مقنع، سوى أن كتابه يُعنى بتحليل كلٍ من "الرؤية والحوافز والقيود الكامنة وراء الأنماط العامة الموجودة بين أفراد مجتمع المثقفين المعاصرين". وسنرى كيف أن مثل هذا التعريف الفضفاض يترك ثغرة واسعة يمكن منها توجيه اتهامات للمثقفين ( عموماً ) لا أول لها ولا آخر، وتعريض مكانتهم ( جميعاً ) للتشكيك. ونقول أولاً إن وجود شرطة سيئين لا يسوِّغ نفي ضرورة مهنة الشرطة، فإن وجود مثقفين زائفين أو منافقين أو واهمين لا يسوِّغ نفي ضرورة مهنة المثقفين، مع التحفظ على كلمة مهنة بهذا الخصوص. وبالتأكيد فإن المثقف ليس محصّناً ضد النقد والإدانة، فيما من مسؤوليات المثقف الحقيقي التصدي لتلك الأنماط من المثقفين المزوّرين واللاعبين على الحبال وبائعي الأوهام، والقائلين بالحماقات.
يفرِّق سويل بين المثقفين الذين يستخدمون "إمّا مهاراتهم من أجل ترسيخ معايير فكرية وإما التحايل على تلك المعايير وترسيخ أجندات غير فكرية أو حتى مضادة للفكر" وبين المهندسين والخبراء الماليين والأطباء ( مثالاً ) الذين يتقيدون بالمعايير الفكرية بصرامة أكثر من المثقفين ( المفكرين ) أو معظمهم، كما يؤكد. فمغادرة المثقف لحقل اختصاصه العلمي إلى حقل الثقافة تعفيه ( أو يعتقد كذلك ) من صرامة المعايير، وبذا وقع مفكرون كبار في سوء تقدير مفزع، مثل برنارد شو الذي مدح الديكتاتورية، وأعجب بهتلر وستالين، كما يورد سويل، مستشهداً بمقولة طريفة لجورج أورويل: "إن بعض الأفكار هي من الحماقة بمكان، بحيث لا يمكن أن يصدِّقها إلا مثقف".
لكن يجب أن نعلم أن المعايير المتحكِّمة بالعالم المادي الجامد غير المعايير التي تسيّر مجال السياسة والمجتمع البشري، فهما معاً يخضعان لمتغيرات ومفاجآت، واحتمالات غير متوقعة أحياناً، وليس بالمستطاع السيطرة عليها بيسر. وهذا أيضاَ لا يسوِّغ بأية حال تسفيه وظيفة المثقف.
إن تشظي المعارف، في حقول تخصصية متشعبة ومختلفة، له أهميته العلمية في النظرية والتطبيق، غير أن الافتقار للرؤية الواسعة الشاملة التي تجمع كلية الصورة في علاقات أجزائها سيفضي حتماً إلى تخبط في اتخاذ القرارات في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم وسائر شؤون المجتمع، ويضعف طاقة النقد والاحتجاج والمعارضة في حالات انتهاك الحقوق، والاستغلال، والاستعباد، وغياب العدالة.
وليس المثقفون وحدهم من يمكن أن يعانوا من علل التحيّز وسوء الفهم وسوء الحكم على الأشياء والأحداث والأفكار والأشخاص، الخ.. وإنما المتخصصون كذلك في مجالاتهم العلمية، لاسيما الاجتماعية منها والإنسانية، فهم ليسوا بمنأى عن تأثير الموجِّهات الإيديولوجية والقيم الاجتماعية والسياسية التي يستبطنونها لتلوِّن، فيما بعد، رؤيتهم ومواقفهم.
لا يريد المثقف أن ينوب عن المختص في مجال علمي أو معرفي ما مثل ( القانون، الاقتصاد، السياسة الخارجية )، في اتخاذ القرارات، كما يحاول سويل أن يوهمنا، لكنه يبقي القضايا المتعلقة بها موضع نقاش ومساءلة، طالما كانت تتعلق بمصائر الأمة والوطن والدولة.
يتساءل جيرار ليكلرك في كتابه ( سوسيولوجيا المثقفين ) فيما إذا كان المثقفون يشكِّلون جزءاً من الوظائف، وعن شكل العلاقة التي يقيمونها مع عالم الوظائف الفكرية والثقافية، ليقر أنهم يولدون "بشكل تفاضلي في الأوساط المرتبطة بوظائف فكرية، فنية وثقافية". ولكن عليهم، كما يرى، أن يوضِّحوا أولاً الأساس الذي تستند عليه شرعية تمثيلهم لعامة الناس. وهل يمنحهم عدم امتلاكهم للسلطة السياسية التمتع بقدر أكبر من الصدقية بالقياس إلى السياسيين؟. وباعتقادي أن هذه الأسئلة ما زالت شغّالة، وتشمل، لا المثقفين في العالم المتقدّم فقط، وإنما، وبالأخص، مثقفي العالم الآخر، في دول الأطراف.
ترتبط ولادة المثقف الحديث بحسب ليكلرك بعلمنة المجتمع، بالصبغة السياسية التي باتت تطبع ثقافة ما بعد عصر النهضة، بحرية الأفكار، وضغط موضوعة حقوق الإنسان،، واختراع الطباعة، وبتأسيس الجامعات، في مقابل ذلك الخيط الرفيع الذي يصل المثقف بظهور الإيديولوجيات، فمع "الإيديولوجية تنتقل السيادة الفكرية من الدين إلى العلم، من اللاهوت إلى الخطاب السياسي.. تصبح السياسة يوتوبيا الخلاص الجماعي".
وفي سياقنا التاريخي الحالي، في عصر القلق والاضطراب واللايقين واللاعدالة والعنف، تُصبح السياسة قدر المثقف، لا بمعنى أن يغدو هو نفسه سياسياً، وإنما أن يمتلك دراية كافية بالمجال السياسي، متخذاً منه موضوعة رئيسة للتحليل والنقد والتقويم، فوظيفته، ها هنا، هو أن ينغِّص على السياسيين، ويجعلهم مكشوفين أبداً، وتحت طائلة المساءلة. وأن تكون له رؤيته في كيفية إعادة تأسيس ذلك المجال بما يضمن تحقيق قيم الحق والعدل والحرية والتقدّم. مع التأكيد أن هذه ليست وظيفة المثقف الوحيدة.
بالمقابل يتحدث إدوارد سعيد عن المثقف غير المنتمي، الهاوي، المنفي، والمشوِّش على الوضع الراهن، بعدِّه خالق لغة تحاول قول الحق بوجه السلطة، "أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني، والاضطهاد"، يجهد لتهشيم "الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد كثيراً من الفكر الإنساني والاتصال الفكري".. وصفتا غير المنتمي والهاوي تمنحانه القدرة على عدم الخضوع لإيحاءات وإملاءات السلطات الساحقة القوة التي يبدو وكأن لا قدرة للمثقف على تغيير واقع الحال الذي تخلقه تلكم السلطات غير أن يكتفي بدور الشاهد. أما صورته منفياً فتجعل من المثقف دائم الترحال عبر حدود الثقافات. وسعيد نفسه كان رحّالاً معرفياً بين تخصصه الأكاديمي وقضايا السياسة، بين مكانه والعالم، بين اعترافه بحق الضحايا، وإدانته للوضع الذي اختلق ضحايا الضحايا. وهكذا يلخص نيكولاس دوت بويار نظرة إدوارد سعيد: "يلعب المثقف في المجال السياسي دور الوسيط، يؤسس اتصالات، ويقيم روابط بين الثقافات والبشر، ويعزز نزعة إنسانية عقلانية"، فيكمل سعيد مآلات وظيفة المثقف بحيث "يرى الآفاق البعيدة، ويتوفر على الفضاء الضروري لمجابهة السلطة، لأن الخضوع الأعمى للسلطة يبقى في عالمنا أسوأ التهديدات التي تُخيم بضَلالها على الحياة الفكرية النشيطة والأخلاقية".
حين نقول إن الثقافة عدا كونها حزمة من القيم والمعتقدات والمعارف والمعايير والرموز هي طريقة حياة تشمل العلاقات الاجتماعية، وكيفية تعاطي أفراد مجتمع ما مع بيئتهم وعالمهم، فإننا في ضمن هذا المفهوم الواسع لاصطلاح ( الثقافة ) يمكن أن نحمِّل الفرد المثقف مسؤوليةَ دورٍ أوسع في الحياة الاجتماعية والسياسية.
في الأغلب يكون من ننعته بصفة المثقف متخصصاً في حقل علمي أو إنساني ما ( طبيباً، أو أستاذاً جامعياً، أو مهندساً، أو مدرِّساً، أو صحافياً، أو ممثلاً مسرحياً، الخ.. ) لكنه لا يصبح مثقفاً بحيازة اختصاصه، وإنما بتخطيه لحدود ذلك الاختصاص، مُغيراً على الاختصاصات الأخرى، لاسيما الاجتماعية منها والإنسانية، ورابطاً معارفه بالتاريخ والسياسة وقضايا المجتمع. فهو الفاعل الاجتماعي المتعاطي مع الأفكار التي تخص الشأن العام، والذي يدلي بآراء مصاغة بألمعية حول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، عابراً الاختصاصات الضيقة، مقيماً أرضية مشتركة بين تخومها، وناظراً إلى المشهد العام بكلّيته من مسافة كافية تضمن له الإحاطة والوضوح، مسلّحاً بلغة ومنهج وحس جمالي وضمير أخلاقي تجسِّد بمجموعها رؤيته إلى الأشياء والعصر والأحداث.
من نتحدث عنه، من زاوية أخرى، هو المثقف التنويري، يساريّ الهوى، ذو الفكر الأنسني الذي يتعاطى مع مفاهيم من قبيل العقلانية والحرية والذات الإنسانية والعدالة الاجتماعية والسلام والتسامح والتقدّم.. يسعى لفك السحر عن العالم بتعبير ماكس فيبر، ونزع هالة القداسة عن ثقافة أي مجتمع، وتفكيكها، وإرجاعها إلى عناصرها الأولية، وتأشير العوامل التاريخية ـ الدنيوية التي أنتجتها.. فيما فاعليته تتجلى عبر وعيه لمكانته في الخريطة الاجتماعية ودوره فيها، حيث اختصاصه الحقل المعني بالمعرفة والجمال، والمتلوِّن بالسياسة في راهننا، على الرغم منه.
لا يمتلك المثقف حلولاً جاهزة سحرية لمشكلات الواقع. وأفكاره التي يطرحها ويتم تداولها ـ تبادلاً واستهلاكاً ـ لا ننتظر منها تحقيق معجزات سريعة. فما يغيّر الواقع ويحوِّله يتمثّل بجملة عوامل محرِّكة تتعلق بقوى السلطة وما يقاومها، وصراعات المصالح والإرادات. أما مهمة المثقف فهي طرح تلكم المشكلات، وإخضاعها للسجال العام، وللنظر التحليلي النقدي، وبيان أبعادها، إلى جانب اقتراح الحلول لها، وهي بطبيعة الحال قابلة للنقد والنقاش. ليشكِّل مجتمع المثقفين، في النهاية، قوة ضغط فاعلة، مؤثرة في مجريات الأحداث.
أن تكون مثقفاً بهذا المعنى يجعلك في موقع صعب من الخريطة الاجتماعية ـ السياسية، متحملاً في الأقل مسؤولية أن تبقى شاهداً لا يكل. ومن يتخذ موقفاً ذا بعد ثقافي ـ سياسي بشكل مؤقت لا يعد مثقفاً.. أن تكون مثقفاً هو أن تقرر التورط في الممارسة الإبداعية الجمالية، كما في الشأن العام، ما حييت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة