الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة السجنية – قراءة في رواية - ملح وإبزار- للكاتب عزيز الوديع الآسفي

عبد الغاني عارف

2005 / 11 / 20
أوراق كتبت في وعن السجن


" إن السلطة تتصرف بعنف أو تمارس نفسها كإيديولوجية ، تارة تقمع و أخرى تموه أو تخدع أو توهم ، تارة تتقمص زي الشرطة ، و تارة تتخذ شكل دعاية . نحن هنا من جديد أمام تناوب في غير محله و لا يفي بالغرض . فالسلطة لا تمارس نفسها كإيديولوجية ، حتى عندما تتسلط على النفوس ، لا تلجأ بالضرورة إلى العنف ، لا تقمع في الوقت الذي تتسلط فيه على الأجساد . بل الصحيح هو أن العنف مظهر أو أثر للقوة المسلطة على شيء ما ، موضوعا كان أو كائنا . "
- جيل دلوز : المعرفة والسلطة / مدخل لقراءة فوكو .

= عشر سنوات من الاحتراق و المعاناة .. هي المساحة الزمنية التي اختارت هذه المحكيات تغطيتها 74 – 84 ) لتنقل تفاصيل كلما تم استرجعناها اليوم ، كلما أحسسنا بمدى شساعة التضحيات التي قدمها أبناء الشعب المغربي من أجل الحرية والكرامة . تضحيات قدمها مناضلون يحلو اليوم لبعض الحساسيات السياسية أن تنعتهم بالكفار والحداثيين و الملحدين و .. و.... هم الذين عبدوا الطريق بمعاناتهم وتضحياتهم وآلامهم لينعم أصحابنا اليوم بجريدتهم اليومية و بمقعدهم الوثير في البرلمان ويجتهدون في تكفير الأفراد و المجتمع .
= وفي اعتقادي أن تقديم هذه المعطيات على صورة كشكول موزع بين عناوين ، يبدو من ظاهرها أنها شتات لا يجمع بينها رابط محدد ،له أكثر من دلالة ، إنه انعكاس لحالة التصدع و التمزق التي يعيشها المعتقل حيث تغدو نفسيته أشلاء ممزقة بين الداخل والخارج ، بين الأمل و اليأس ، بين الوفاء و الخيانة .... أي حالات تكون فيها « البوابة الرئيسية المسدودة بعناية هي الحدود الفاصلة بين عوالم مختلفة ومتباينة » ص 16 .
= إنها كتابة مرآوية يسترجع عبرها الكاتب تفاصيل و جزئيات تسمح له بالإنصات لذاته في مرحلة من مراحل وجودها ، هل هو إنصات بهدف مجرد الاسترجاع ، أم إنصات منفتح على المستقبل ، تدوين للفاجعة حتى لا تتكرر ، توثيق لجراح بشرية لا حدود للآلام المصاحبة لها .
الكتابة في هذا الموضوع في نظري هو تطهير و اتهام في نفس الوقت ، تطهير للذات من بقايا مرحلة مسيجة بالعنف والرعب و الظلم و الاستهتار ، و اتهام للمسؤولين عنها من أجل ألا تتكرر تلك المأساة و ما خلفته من نتوءات فاجعة على النفس والجسد والذاكرة ، خصوصا ونحن نعلم أن المؤلم في التجربة التي يمر بها المعتقل هو أنه رغم انتمائها ، من حيث زمنيتها ، إلى الماضي فإن جراحها تبقى ممتدة في الحاضر و المستقبل .
= « إنها رحلة طويلة بلا قاع » ص 47 عبرها يتم استرجاع مجموعة من الحقائق الجارحة في تاريخ المغرب الحديث ، والتي يراد الزج بها في منطقة النسيان ، ومن هنا بالضبط تكتسب هذه الكتابة أهميتها ، ليس من الزاوية الإبداعية فقط ، بل و التوثيقية أيضا ، خصوصا وأن المؤلف ضمن هذه المحكيات قسما عبارة عن وثيقة تاريخية حول المعطيات " الجنائية " المؤطرة لتنلك التجربة ، على الأقل من منظور أجهزة الأمن .
= لذلك تقدم مادة هذه المحكيات على شكل شظايا تتنوع من حيث المكان عبر فضاءات : السجن ( اغبيلة – لعلو – درب مولاي الشريف – السجن المركزي ... ) المحكمة ، والجامع بين هذه الأمكنة هذا هو طابعها الانغلاقي و وظيفتها الاستفزازية .
= و لأنها محكيات ، كما أرادها الكاتب ، فأعتقد أن هناك مستويات متعددة يمكن الاشتغال عليها لمقاربة مؤلف " ملح وإبزار " . و سأكتفي فقط بمحاولة تقريبه من خلال العناصر الثلاثة التالية :
• جنس المؤلف .
• السجن و الحب / المرأة .
• السجن والسلطة .

= أولا : من حيث جنس المؤلف

لعل أول ما يثير التساؤل هو الجنس الإبداعي الذي يمكن تصنيف هذا النص ضمنه .
يمكن النظر أن ننطلق من اعتبار عام فنقول إن هذا ا العمل ،يندرج ضمن ما يعرف عادة ب " أدب السجون " . و كما هو معلوم فقد أثارت هذه النقطة نقاشا واسعا أواخر الستينيات و طوال السبعينيات في إطار الحديث العام عن الأدب الملتزم . وأهم ما يمكن استحضاره في ذلك النقاش يتعلق بطبيعة المعيار المعتمد لتصنيف كتابة ما ، بأنها تندرج فعلا ضمن " أدب السجون " . وقد ظهرت ثلاث وجهات للنظر إلى هذا الموضوع :
* الأولى : تعتبر أن أدب السجون هو ما يتمكن المعتقل من كتابته داخل السجن ، نوع من الكتابة المهربة ، كتابة تتم في سر و في غيبة عن أعين الحراس . غرامشي – مثلا .
* الثانية : ما كتبه معتقلون سابقون عن تجربتهم السجنية ◄ هناك نماذج متعددة عن هذا النوع . ..... العريس لصلاح الوديع – الكتابات حول تازمامارت – توفيقي بلعيد . – الأقدام العارية / طاهر عبد الحكيم – كان وأخواتها / عبد القادر الشاوي – قصائد تحت الكمامة / عبد اللطيف اللعبي – الساحة الشرفية / عبد القادر الشاوي .
* الثالثة : ما كتب عن تجربة سجنية ما ، بغض النظر عن كون صاحبها معتقلا أم لا ◄ تجربة شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف مثلا .
و لعل العنوان الفرعي الوارد على الغلاف يخفف إلى حد ما من حدة التساؤل ، حيث يشير إلى أننا بصدد محكيات سجنية ، و بالتالي فالذي يؤطره هو كونه حكيا والحكي شديد الصلة بالمحاكاة ، باعتبارها مجالا لتحقيق التوازن بين الواقعي والمتخيل . فكيف إذن يقدم مؤلف " ملح وإبزار " هذه الثنائية ( الحكي / خيال – السجن / الواقع ) ؟ أي كيف يتم تدبير مسافة الوصل و الفصل بينهما ؟ و بمعنى آخر: ما مقدار الخيال في هذه المادة الحكائية ؟ ، متى ينتهي الواقع ليبدأ الخيال في هذه المادة الحكائية و متى ينتهي الواقع ليبدأ الخيال ؟
الجواب عن هذا السؤال يجعلنا نتلمس كون ما تقدمه هذه المحكيات ينبني فعلا على وقائع مادية ، بحيث إن موضوع هذا الحكي هو تجربة السجن ، أي فضاء يحيل على واقع حقيقي ملموس في الزمان و المكان ( أحداث عاشها شباب المغرب المعارض في سجون مختلفة بين 74 و 84 ... )
جاء في ص 10 من الكتاب « تتطلب كتابة المذكرات عن السجن شيئا من الانفصال عن الذات و الأحداث » . و هنا يواجهنا سؤال من نوع آخر : = هل نحن بصدد محكيات سجنية أو مذكرات سجنية ؟ .
إن مرجعية طرح هذا التساؤل تحيل على الشكل الذي تقيم به الذات علاقتها بالمحكي و هي موضوع الحكي ذاته ؟ أي طبيعة المسافة التي تتخذها الذات التي تحكي عن الذات التي هي موضوع الحكي عنها ، إذ كيف يمكن الانفصال فعلا عن الذات في الوقت الذي تعتبر فيه تلك الذات هي مادة اشتغال المؤسسة السجنية برمتها ، إنها – أي الذات – هي المبرر الوحيد و الأوحد لوجود السجن . تاريخيا قامت هذه المؤسسة بوظيفة الانتقام و تدمير الذات ، ليس فقط من خلال ما تلحقه من أعطاب فيزيولوجية و ما تسببه من آلام ، بل من خلال التخريب الممنهج لجوهر الذات ، أي لكينونتها و لمبرر وجودها .. و تلك هي الخسارة الفادحة . !
لذلك فعندما ينجو الفرد من جهنم التخريب و الانهيار الذي يمثله السجن ، محافظا على كينونته ، في حدودها الدنيا : فتلك هي المعجزة و ذلك هو الانتصار الأكبر ..

النقطة الثانية التي أثارت انتباهي في هذا العمل هو الحضور التميز للمرأة . فكيف يتجسد هذا الحضور ؟
= أول ما يواجهنا بصدد هذه النقطة هو أن الحديث عن المرأة يتموقع ضمن ما نسميه ولو بشكل مؤقت : ثنائية السجن والحب ، حيث تعتبر تيمة الحب أو المرأة بشكل عام أحد المكونات البارزة في كل الكتابات ذات الصلة بتجربة السجن والاعتقال ، لبس فقط في الكتابات المغربية ، بل في مختلف التجارب الإبداعية العالمية . و ليس في الأمر كبير غرابة ، فبالنسبة للسجين تعتبر الحبيبة الرافعة النفسية الأساسية في صموده ◄ في تجارب الإبداع / النضال : البعد الرمزي للمرأة : اعتبار الأنثى مرادفا لـ الخصوبة / الوطن / الحرية / الأرض ... و عليه لنا أن نتصور ماذا يمكن أن يعني وفاء الحبيبة أو خيانتها بالنسبة لمعتقل أصبح في شروط إنسانية معينة تختزل العالم كله خارج السجن في قبلة حارة من حبيبة أو في نظرة حالمة من عينيها أو حتى في حركة بسيطة لخصلة شعرها ....
= يختزل عزيز الوديع هذا البعد التراجيدي في النظر إلى علاقة السجين بالمرأة بقوله : « المساجين عند اعتقالهم ثم الحكم عليهم يصبحون في نظر المشرع والعرف كائنات بدون حاجيات جنسية ... فلا هم رجال و لا هم نساء و لا حتى بين بين .. الحرمان يصبح عنوان كل شيء . الحرمان من الحرية ، الحرمان من الملابس الأنيقة أو الملونة ، الحرمان من الأكل اللذيذ و الحرمان حتى من الحاجة الجنسية . » ملح و إبزار – ص : 39
= و في مقطع آخر يختزل هذا الجانب بقوله « السجين يحلم بالحرية و يحلم بالمرأة كذلك . و المرأة قد تبدو في الأحلام آدمية أو غير محددة المعالم .. و قد تكون عبارة عن ذكريات مبهمة . » ص : 39

◄لذلك فإن هذه المحكيات تقدم علاقة السجين بالمرأة من خلال تجارب ذات أبعاد مأساوية :
* تجربة ( م – ب ) الذي « افترق عن حبيبته و التي كتب لها و الحق يقال نصوصا جيدة ... غير أنها لم تقنعها حتى تستمر معه في حياة الحرمان المشتركة . » ص : 8.
* تجربة ( ط – م ) الذي « افترق عن حبيبته بعد الخروج من السجن ربما لأنها اكتشفت أن الحياة اليومية الروتينية لم تكن بالشكل الذي صوره الخيال . » ص : 9 .
= ولذلك تنتهي هذه المحكيات إلى تركيب خلاصة صادمة حيث تشير إلى أن « الحب في السجن كانت له طبيعة خاصة استطاع تأليف بعض القلوب و لكنه عطل علاقات كانت قوية . » ص : 9 .
لنلاحظ هنا قمة المأساة حين يرتبط العطالة بالحب الذي من المفروض أن يكون في كل الحالات مؤشرا على ضمان الولادات المتجددة للآمال و الأحلام .
ولم يفت الكاتب أن يشير و لو بصيغة غير مباشرة إلى أن انهيار حكايا الحب الجميلة كثيرا ما يكون له الوقع السلبي على معنويات المعتقل الذي يمكن أن يكفر بكل شيء لا لشيء سوى لأن الأنثى الحلم قد تحطمت في دواخله لتترك فراغا مدويا . و هكذا فكما تشكل المرأة عنصر دعم وقوة بالنسبة للمعتقل داخل السجن ، يمكن أن تكون أيضا عامل تدمير للقوة المعنوية له . نتذكر – ما دام الأمر يتعلق بالمتن الروائي – تجربة رجب إسماعيل في رواية « شرق المتوسط » ، حيث أن زواج حبيبته هدى شكل إحدى المقدمات الرئيسية التي أدت إلى انهياره .
لابد أن نشير أيضا أن المرأة في هذا العمل تحضر عبر تجليات أخرى ، منها المرأة الشهيدة ( عزيزة المنبهي ) ، المرأة الأم الصامدة ( الفقيدة ثريا السقاط ) ، المرأة المناضلة ( كريستين ) ، المرأة في أبعادها الإنسانية العامة ( فرانسواز ) ...
و في سياق هذا الحضور أختم هذه النقطة بالإشارة إلى أنه ومع كامل الأسف لم تعط بعد القيمة التكريمية في مجتمعنا للدور البطولي الذي لعبته المرأة في تجربة المتعقلين المغاربة سواء كأمهات أو رفيقات أو زوجات . و هو أمر يحتاج إلى اجتهاد كبير للتعريف بذلك الدور ..
النقطة الثالثة التي أختم بها هذه الملاحظات السريعة تتعلق يثنائية أخرى و تتمثل في ثنائية السجن / السلطة . فكيف تحضر السلطة في هذه المحكيات ؟

من المعروف ، وكما يشير إلى ذلك فوكو في كتابه " الحراسة و العقاب " أن « السلطة " تنتج الواقع " قبل أن تقمع . كما تنتج الحقيقة قبل أن تضفي عليها رداء إيديولوجيا . » ص : 35 . و بارتباط مع ما نحن بصدده نشير إلى أن الأنظمة الاستبدادية تعرف أنه مهما كانت صلابة المناضل و صموده فإن تجربة السجن كفيلة بأن تنال من فعله وفعاليته .
و هذا غالبا ما تتناساه – أو على الأقل لا تنتبه إليه بالجدية اللازمة – الدعوة إلى طي صفحة الماضي بصورة ميكانيكية و جاهزة ، وكأن لا شيء حدث فعلا . نعم يمكن أن يطلق سراح المعتقلين و لكن من يخلصهم من تلك الأعطاب النفسية والفيزيولوجية التي يحملونها معهم أينما ولوا وجوههم .

= السجن ليس بالضرورة هو الجلاد ومدير السجن و القضبان التي تفصل المعتقل عن هواء الحرية و الانطلاق الطبيعي ، بل هو " منطق السجن " ، أي تلك الحالة النفسية التي تؤطر وجود السجين ضمن معادلة تكون فيها الذات قريبة ، في كل لحظة ، من الموت ، أي من احتمالات الفناء المتجددة كل حين ، ومعاناة الاعتقال ليست في النهاية سوى ذلك الصراع العنيف بين إرادتين : إرادة السجان الهادفة إلى تحطيم معنويات المعتقل و استئصال جذوة الحياة من بين ضلوعه ، وإرادة السجين التي تصر بكل ما هو متاح وغير متاح على ضمان الحدود الدنيا للاستمرار والبقاء .

= السجن لا يمكن أن يكون إلا مرادفا لعدوانية مدمرة ، ولذلك فهو ، بمنطق الاستبداد ، امتداد وظيفي للأسرة و المدرسة و التكنة و المصنع ووسائل الإعلام ، إنها كلها مؤسسات / بؤر لصناعة الخضوع ، أي تمظهرات للوظيفة المركزية للسلطة : خلق شروط الانضباط .
و حتى جلسات التعذيب ليست سوى محاولات لترويض قدرة التحمل عند المعتقل في أفق التحطيم النهائي لها ، عبر آليات الإدماج القسري ضمن فضاءات السجن وبنياته ، أي ضمن ما سميناه ساقا " منطق السجن " .
إن منطق السجن يفترض إنتاج نمط جديد من العلاقات أساسه الإخضاع من طرف السجان ، و الخضوع التلقائي ، أي التسليم بمشروعية فعل الإخضاع من طرف السجين ، بحيث تتسع شراسة اليومي بهدف افتراس ما تبقى من احتياط الصمود لدى المناضل و هو في حالة اعتقال في مناخ تنعدم فيه أبسط شروط الإنسانية ، حيث يكون مجرد الذهاب إلى المرحاض مكسبا . جاء في المحكيات : « في درب م. الشريف كان لنا الحق في التوجه إلى المراحيض ، حسب نظام دوري محدد بمعدل مرة واحدة في اليوم أو مرتين في أحسن الأحوال .. ذلك أن عددنا كان يتجاوز المائة . » ص : 43

= « السجن لا يسعى إلى أن يقدم لنا رؤية للجريمة و المجرم فقط ، بل يطمع كذلك أن في أن يغدو هو بنفسه رؤية ، فهو نظام رؤية قبل أن يكون جدرانا بنيت على نحو معين » دلوز – ص : 38

و لذلك فمن من المهام الأساسية التي تضطلع بها مؤسسة السجن تدميرالرأسمال المبدئي لدى المناضل و تحويله إلى سلعة قابلة للمساومة والتدجين . و إذا كانت هذه المؤسسة تفشل في تحقيق هذه الوظيفة إزاء بعض الحالات ، فإنها تنجح مع حالات أخرى . ولعل التصنيف الذي تقدمه هذه المحكيات لمصائر المناضلين يحيل على جزء من هذه الحقيقة ، كما جاء في الصفحة 7 : « إنهم يهيمون في الأرض ... » .

= الزمن في المؤلف :
= مظهر آخر من مظاهر السجن تكشفه أممنا هذه المحكيات يتمثل في الحقيقة التالية و هي أنه في السجن ليس هناك مكان و زمان كفضائين يمتد أحدهما في الآخر ، بل هناك فقط زمان مكان ، ولذلك فالخروج إلى البروموناد ليس فقط خروجا من مكان إلى آخر ، بل هو انوجاد في زمن مسكون بمكان مغاير .
= غالبا ما يتم تقييم تجربة المعتقلين في ضوء نهايتها ، أي الإفراج عنهم ، ولكن مع ذلك تبقى هناك حقيقة مرعبة و هي تلك السنوات من العمر التي هدرت وراء القضبان و التي لا يمكن تعويضها بأي ثمن . يقول عبد القادر الشاوي في " كان وأخواتها " : « وحدك تطلب الحياة ... و إذ تشعر أنك كومة من العضلات ، وإذ ترى أن الأحلام تفجرك ، تعلم أنك سلخت عمرا طريا في هذا السجن . » ص 68 – ط 1 – 1986 – دار النشر المغربية .
= المتحكم في بنية الزمن هو الذاكرة ، من خلال الاسترجاع . تقول سيزا قاسم : « أما بالنسبة للاسترجاع فيلجأ إليه الكاتب لملء فراغات زمنية تساعد على فهم مسار الأحداث ، ويتركز عامة في الرواية الواقعية . وكلما ضاق الزمن الروائي شغل الاسترجاع الخارجي حيزا أكبر » ص : 55 – بناء الرواية – ط 1 – 1985 – دار التنوير للطباعة – بيروت .
تجعلنا محكيات عزيز الوديع نصطدم بالوجه التراجيدي للزمن داخل السجن ، فالمأساة لا تتمثل في الزمن في بعده المعياري بل في بعده الانسيابي ، أي الإحساس بمرور الزمن . كيف يعيش المعتقل زمنه ؟ ... لذلك فالزمن يتحول في السجن إلى عدو . والقوانين التي تضع السجين وراء القضبان لا تدمره فقط ، من حيث إنها تحرمه من العالم الخارجي ، ولكن أيضا لأنها تفرض عليه زمنا خاصا ، عليه أن يجتر إيقاعه . لنتصور طبيعة الإحساس الذي ينتاب المعتقل عندما يبدأ اليوم الأول في رحلة يعرف أنها ستدوم 24 سنة . لذلك كان عزيز الوديع ذكيا حينما أشار في ص 57 من هذه المحكيات و هو يصف حروجه من السجن و معانقته للحرية بأنه : « انتصار على الخصوم و.. الزمن » .
= ولعل لوحة الغلاف نفسها تترك مساحة لتأويل الضغط الذي يشكله الزمن على نفسية السجين ، وقد كان الفنان شفيق الزكاري موفقا في تضمين الغلاف مجموعة من الأرقام الممزقة بين ساعة تحولت إلى مروحة . فنحن أمام ساعة وراء القضبان ، رباعية العقارب مما يحولها إلى مروحة تطحن الوقت بدل أن تنظمه . ومع مرور الزمن يتحول السجين إلى مجرد رقم ، تختزل إنسانيته كلها في رقم يتيم ويفقد كينونته كإنسان . تقول المحكيات : « بدأت بنزع الملابس التي دخلت بها إلى هناك و تعويضها بزي كاكي عسكري مع وضع عصابة على العينين ، والتجريد من الاسم و تعويضه برقم ، حيث كان من اللازم أن أستجيب بسرعة كلما نادى الحاج أو الحارس رقم 86 ، وتم تغييره بعد ذلك للتمويه إلى رقم29 . » ملح وإبزار – ص : 42 .


= السخرية في هذه المحكيات .

= « تذكرت مثلا ع . ح الذي أكل "علقة" قاسية تكررت لمدة أيام ذلك لا لشيء إلا لأنه كان يتقاضى بصفته مهندسا ، أجرا أعلى من عميد الشرطة الذي تولى التحقيق في قضيتنا . الموقف هنا بدا ساخرا أو ماكرا ، والحارس الحاج بليدا » ص 12

= « ناذرا ما يضحك الجلادون ، أو أنه ضحك ليس من طينة الضحك ، أو ليس هو نفس الضحك . » ص : 29 – جيل دلوز : المعرفة والسلطة / مدخل لقراءة فوكو – ترجمة سالم يفوت – المركز الثقافي العربي –

= « النكت ملح الحياة .. و الحياة كالطعام ، حتى ليبدو للإنسان أننا كنا في مطبخ وليس في سجن .. و لكننا كنا نضحك لنقول للآخرين الذين يشهدون و يسمعون أننا آدميون ، لا أدري هل توصلنا لذلك أم أن القدر سخر من الجميع » ص 13 .
في كل الحالات فقد عمل الكاتب على تضمين محكياته إشارات ساخرة ، وكأنه بذلك ينتقم للحظات سادها قلق قاتل يصل إلى درجة.......

= السخرية في السجن مقاومة سوريالية لذلك القهر النفسي الذي يتعرض له السجين يوميا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط


.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق




.. جامعة كولومبيا: فض اعتصام الطلبة بالقوة واعتقال نحو 300 متظا