الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من علمنة الوعي إلى علمنة السياسة

محمد المشماش

2016 / 3 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كل مفهوم يخضع لصيرورة (تحول) حتى داخل مجاله اللغوي، و هذه الصيرورة تتحدد من خلال علاقته بمفاهيم أخرى، فلا وجود لمفهوم معزول -على حد تعبير دولوز- بل يرتبط بعلاقة جوار و قربى تكون الحدود فيها غير متميزة، و هذا ما حصل مع العديد من المفاهيم ذات الصناعة الغربية، ما إن اخترقت مجالنا إلا و التبست بمسوخ من المصطلحات، كمفهوم العلمانية، فليس تمة ما يفيد أن هناك مقابل حرفي للفظة « sécularisme» أو ترجمة حقيقية فهناك من يسميها العَلمانية (بفتح العين) و من تمة فهي مأخوذة من العالم و هناك من يطلق عليها عِلمانية (بكسر العين) و هناك من يترجمها باللادينية أو الإلحاد و آخر يطلق عليها لفظة الدنيوية، و ما يزيد من غموض اللفظ هو التباسه بمفاهيم و مصطلحات أخرى كالعقلانية و الديمقراطية و التنوير، كما أن المشتغل عليه يجد نفسه أمام علمانيات قد تكون متناقضة و ليس علمانية واحدة.

برز الحوار حول علمنة الحياة في الفكر الأوربي بشدة خلال عصر النهضة، فمنحوتات مايكل أنجلو في إيطاليا الذي جعل من الجسد العاري محور أعماله الفنية، و "ماكيافيلي" مؤسس التنظير السياسي الواقعي، إلى إصلاحات مارتن لوتر الذي اعترض بشدة على صكوك الغفران و "إيرازم" الذي تزعم الحركة الإنسية التي ساهمت في إحداث تعليم دنيوي جديد مستقل عن التراث الكنسي (إحداث معاهد تهتم بتدريس الفنون و الأدب و العلوم) دون أن ننسى الزلزال الذي أحدثته نظرية مركزية الشمس التي شجعت على تحدي النواميس الجامدة من جهة، و التمهيد لتجاوز النسق القديم (الأرسطي خصوصا) و السكولائي من جهة أخرى، كل هذه الأحداث و غيرها ساهمت في بلورة تصور حداثي دنيوي أو لنقل فتحت افاقا أرحب لعلمنة الوعي (انتفاء الطابع السحري للعالم) أو فك الارتباط بين اللاهوت و العلم ممهدين لفك الارتباط بين الدين و السياسة. القضية التي ستشغل الفكر السياسي و الفلسفي في مرحلة التنوير، حيث شكلت كتابات فولتير دعوة إلى التحلي بروح الإنسانية و قيم التسامح و نبذ العنف الطائفي و الديني و تحكيم العقل لتفادي الاضطرابات التي تحدث باسم الدين أما في بلاد الأراضي المنخفضة شكلت دعوة اسبينوزا إلى علمنة الحياة السياسية ثورة فكرية، ففي مؤلفه رسالة في التسامح عرض ضرورة فصل الدين عن الدولة من أجل ضمان الحقوق الطبيعية و المدنية، فالسلطة العليا ينبغي أن تكون إنسانية محضة و لا يمكن بأي وجه من الأوجه إضفاء الطابع الإلهي على قراراتها.
أما على مستوى علمنة الوعي يحسب لاسبينوزا تمييزه بين الكنسي و العلمي أو بين العقل و الإيمان، فالإيمان هو تسليم بالكتب المقدسة من جهة و قداسة الوحي من جهة أخرى، و من تمة فغايته التقوى و الطاعة، أما العقل غايته معرفة الحقيقة الطبيعية التي تحكمها قوانين انطلاقا من حجج و براهين منطقية، و العقل من هذا المنطلق ليس خادما للاهوت بل كل منهما له مجاله الخاص، و هذا القول ليس من السهل استيعابه في ذلك الوقت لاسيما و أن الفلسفة حتى العصر الحديث كانت لازالت تبحث في حقيقة الثالوث الميتافيزيقي: وجود الله و قدم العالم أو حدوثه و خلود النفس بالحجة العقلية و البرهان المنطقي.

هكذا يكون اسبينوزا من أبرز الداعين إلى علمنة الحياة السياسية، حتى و إن لم يُفُصَل في دور الدولة المدنية، بالتفصيل الذي قدمه جون لوك في مؤلفه "رسالة في التسامح" التي كتبها في منفاه بهولندا بتحريض من صديقه "شافيتسري"، حررها باللاتينية و نشرها بدون اسم سنة 1689، اجترح من خلالها أساسا جديدا للحكم خال من أي دين، قائم على التسامح و رافض لكل أشكال الحكم الكنسي/الديني الدغمائي الذي يحدد بنود الإيمان الذي ينبغي للفرد أن يلتزم بها داخل الدولة، حيث يقول: "لأن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني أو أي إنسان آخر، ذلك لأن الحاكم ليس مفوضا من الله لخلاص نفوس البشر، و أن الله لم يكلف أي إنسان بذلك، لأنه لا يبدو أن الله قد منح مثل هذه السلطة بحيث يفرض دينه على الآخرين بالقوة، ثم إنه من غير المعقول أن يمنح الشعب مثل هذه السلطة للحاكم لأنه لا يقبل أي إنسان أن يترك رعاية خلاصه لإنسان آخر لكي يحدد له إيمانا معينا أو عبادة ما." و يقول كذلك " (1)" و تأسيسا على ذلك فلا الأفراد و لا الكنائس و لا الدولة لها مبرر للاعتداء على الخيرات الدنيوية و الحقوق المدنية بدعوى الدين، أما الذين لا يرون هذا الرأي فإن عليهم أن يتأملوا أنفسهم و هي تزرع، في البشرية بدور النزاع و الحرب، وتثير الكراهية و النهب و السلب بلا حدود، فلا سلام و لا أمان، ولا صداقة بين الناس ممكنة و مصانة، طالما ساد الرأي القائل بأن الهيمنة قائمة على اللطف الإلهي، و ان الدين لا ينشر إلا بقوة السلاح". (2)
هذه الأفكار التي أوردها جون لوك سواء في رسلة في التسامح أو مقالة في الحكم المدني، هي التي أسست للنظام الليبرالي العلماني على جميع المستويات الفكرية، الاقتصادية، السياسية، ... حتى أصبح العالم الغربي خلال القرن 18 عصر الليبرالية بامتياز، و كانت الليبرالية تظهر بمثابة ضمان الحرية أو مذهب الحرية، بمثابة مرادف للعلمانية باعتبارها حركة اجتماعية سياسية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلا من الاهتمام بالشؤون الأخروية.
أما الحرية التي دعت إليها الأنوار، قام إمانويل كانط بتحديدها من خلال جوابه عن سؤال "ما التنوير؟" التنوير كما يراه كانط هو خروج الإنسان من وضع الحجر (القصور) الذي هو نفسه مسؤول عنه، و هذا الحجر هو عجز الإنسان عن استخدام عقله دون وصاية غيره، فالإنسان مسؤول عن هذا الوضع، و السبب في ذلك لا يعود إلى قصور عقله، و لكن إلى عجز في اتخاد القرار و افتقاده الشجاعة في استخدام هذا العقل دون اللجوء إلى الغير. " لتجرأ على المعرفة، لتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك الخاص."
إذن تمة مسار طويل أدى إلى علمانية الدولة، مسار تبلورت فيه جميع الشروط التاريخية و النظرية انطلق من علمنة الحياة الاجتماعية، إلى علمنة الحياة السياسية، هذه الفكرة عبر عنها المفكر و المؤرخ الفرنسي Bernard Hours في مؤلفه "تاريخ الأوامر الدينية" في الفصل الثامن المعنون ب: « Sécularisation et vie régulière (XIXe-XXe s.)»
"العلمنة التي ميزت الحداثة في الأساس غيرت ليس فقط البيئة الاجتماعية للأوامر الدينية، ولكن أيضا لمفهوم الحياة العادية. من ناحية أخرى، الحداثة قيام بإصلاحات تمجد الحياة الاجتماعية على حساب المثل القديمة تمهيدا لخلاصها من العالم. تدريجيا، على الالتزام بتحسين الحياة الاجتماعية "
« Le mouvement de sécularisation qui caractérise la modernité modifie en profondeur non seulement l’environnement social des ordres religieux, mais également la conception même de la vie régulière. D’une part, la modernité réhabilite, voire exalte la vie sociale au détriment du vieil idéal de la fuite du monde pour faire son salut. Progressivement, l’engagement pour l’amélioration de la vie sociale » (3)
إلا أن الحرية التي أفرزتها الحركات التنويرية، لم تخل من نقد حتى من داخل الفكر الليبرالي نفسه، فالمفكر الليبرالي بنيامين كونستان يقول بخصوص الحرية الليبرالية "لقد دافعت أربعين عاما عن المبدأ نفسه، الحرية في كل شيء، في الدين و الأدب و الفلسفة و الصناعة و السياسة، و أنا أفهم الحرية بأنها انتصار الفردية سواء على السلطة التي قد تريد أن تحكم بالاستبداد، أو الجماهير التي تطالب بحق استعباد الأقلية.(4)
و خصوصا مع التطورات التي أفرزتها التحولات الاقتصادية ما بعد الثورة الفرنسية، و التي شهدت سيطرة مطلقة على الحكم (نابوليون) من طرف البرجوازية على الرغم أن الثورة شارك فيها العمال و الفلاحين، و هذا ما سيفرز طبقتين (مع الثورة الصناعة) طبقة غير منتجة تعيش على فائض قيمة عمل العمال، و تسيطر على رأس المال، و طبقة كادحة منتجة مستغلة، الأمر الذي سيمهد لبزوغ علمانية اشتراكية، ستدعو إلى الحسم النهائي مع اللاهوت، و ليس اللاهوت فقط و إنما كل أشكال الفكر الرجعي.
إذن مصطلح العلمانية انبثق من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيراً بذلك جدلاً حول دلالاته وأبعاده و توصيفاته، فهل يمكن الحديث عن مفهوم حقيقي لعلمنة الحياة الاجتماعية و السياسية داخل مجالنا؟ هذا ما سنعود إليه في مقال لاحق إن سنحت الفرصة.
الهوامش:
(1) جون لوك " رسالة في التسامح" ترجمة منى أبو سنة، مراجعة مراد وهبة، الطبعة الأولى 1997.ص 22
(2) نفس المرجع ص: 37
(3) Bernard Hours « Histoire des ordres religieux » presse universitaire de France 2012. P : 92
(4) جون توشار، "تاريخ الأفكار السياسية" الجزء 3، ترجمة: ناجي الدراوشة، دار التكوين للتأليف و النشر دمشق سوريا، طبعة 2010 ، ص 689








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسكو تنفي اتهامات واشنطن باستخدام الجيش الروسي للكيماوي في 


.. واشنطن تقول إن إسرائيل قدمت تنازلات بشأن صفقة التبادل ونتنيا




.. مطالبات بسحب الثقة من رئيسة جامعة كولومبيا الأمريكية نعمت شف


.. فيضانات عارمة اجتاحت جنوب البرازيل تسببت بمقتل 30 شخصاً وفقد




.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات