الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة الريعية وإشكالية النموذج الإجتماعي: العراق مثالاً

رياض عبد

2016 / 3 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وصف الأقدمون الإنسان بالكائن الاجتماعي وهو توصيف غاية في الدقة. و بفضل العلوم التطورية الحديثة تمكن العلماء من دراسة أصول الإنسان وكشفوا بما لا يقبل الشك بأن الإنسان الحديث ينحدر من سلالات من فصيلة البرايميت القريبة من القرود وأن أقرب الكائنات الحية في العالم اليوم الى الإنسان هي فصيلتي الشمبانزي و الغوريلا. وجميع هذه الكائنات لها خاصية مشتركة وهي أنها كائنات إجتماعية تعيش ضمن مجموعات مختلفة الحجم وتربطها مع بعضها علاقات إجتماعية تتفاوت في تعقيدها وتشابكها. ولكن من الواضح أن الإنسان قد فاق كافة فصائل البرايميت الأخرى في مدى قدرته على التعايش مع الآخرين وفي الأعداد الكبيرة والمتزايدة للمجموعات البشرية عبرال10000 سنة الأخيرة حتى وصلت الى مستويات غير مسبوقة عند أي من اللبائن (ولكن بعض الحشرات مثل النحل والنمل والفصائل المشابهة لها تعيش في مجموعات تعد بالملايين ولكن الفرق الجوهري بين الحشرات الاجتماعية والإنسان هو أن الحشرات تعيش في مجموعات تنتمي الى نفس العائلة ومنحدرين من نفس الأم وهي ملكة الخلية).
وهذا يعني أن الإنسان تمكن من توسيع دائرة التعاون مع الآخرين لتتضمن، إضافة الى أفراد العائلة والأقارب ، أعداد كبيرة من غير الأقارب أو الغرباء وهذه خاصية بشرية فريدة. والطريقة التي تمكن فيها الإنسان من تحقيق هذا الإنجاز الفريد هو في نشوء القدرة على إنتاج وإكتساب الحضارة. والحضارة هنا تعني مجموعة من القيم و المعتقدات والطقوس والشعائر المشتركة وكذلك التحدث بلغة (ولكنة) مشتركة. وهذه العلامات الحضارية (ولاحظ أن الحضارة هنا لا تعني المدنية) التي تتميز بها مجموعة بشرية معينة يتم توظيفها في إكتساب الفرد هويته في الإنتماء الى الجماعة البشرية. ومن أهم طرق إكتساب هذه المؤشرات أو الصفات التي تحدد هوية الفرد هو من خلال مشاهدة ومراقبة ما يقوم به الآخرون من نفس المجموعة البشرية الحضارية والقيام بتقليد ما يفعله الآخرون من طريقة اللباس والمأكل والتعامل مع الآخرين في شتى نواحي الحياة. ولكن هنا تبرز إشكالية مهمة وهي كيف تتم عملية إختيار الأفراد الذين نتعلم منهم كيفية التصرف والتعامل مع الآخرين؟ ومن الواضح هنا أن نشوء قدرة الإنسان على إكتساب حضارة المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه قد رافقه كذلك نشوء خصائص معينة لمن يتم تقليده (أي تعلم مباديء القيم الحضارية منه). فمن غير المحتمل أن يكون التقليد عملية عشوائية كونها مسألة غاية في الأهمية وقد تؤدي الى قبول أو نبذ الفرد من مجتمعه. فالتقليد يبدأ بأفراد العائلة (لذا نجد أن الغالبية العظمى من الناس مثلاً يعتنقون الدين الذي ولدوا فيه) ولكن هذا بالتأكيد لا يكفي ومن الضروري أن يتم إختيار آخرين من خارج نطاق العائلة أو الأقارب كنماذج للتقليد ولكن السؤال هنا كيف يتم إختيار هؤلاء؟ والذي أشير له هنا هو ليس عملية واعية يتم فيها القرار على أساس التفكير العقلاني وإنما الإشارة هنا هو الى عمليات سايكولوجية تلقائية نشأت بفعل التطور البيولوجي للإنسان وكيفته للمعيشة في وسط إجتماعي تعتمد المشاركة فيه على قدرة الفرد على إكتساب والتشرب بمعتقدات وحضارة المجموعة البشرية التي يجد نفسه فيها. وأن هذه العمليات السيكولوجية تبدأ في سن مبكرة جداً وتستمر في العمل لسنين طويلة من حياة الإنسان (ولكن الواضح هو أن قدرة الإنسان على تغيير معتقداته أو حضارته وتقبل منظومة قيمية جديدة تضمحل كلما تقدم في السن). وأحدى الخصائص المهمة للشخص الذي يسعي لتقليده الآخرون في كافة المجتمعات هو الفرد الناجح في بيئته ومجتمعه. والأدلة على نجاح الشخص قد يكون لشهرته أو تبوئه مواقع مهمة في الدولة أو المجتمع أو لثرائه أو غير ذلك من علامات النجاح والتفوق. ومن المنطقي أن يسعى الآخرون للتشبه بالفرد المتفوق أو الناجح أو الثري وذلك للرغبة الغريزية لدى الإنسان أن يحصل على أكبر قدر من الموارد المادية والمكانة الاجتماعية التي تتيح له فرصاً لحياة أفضل له ولذريته. وهذا بالطبع قد لا يتحقق اذا ما إتخذ الفرد نموذجاً إجتماعياً لشخص فاشل أو منبوذ أو معدم أو ما شابه.
والملاحظ هنا أن المجتمعات الناجحة والمنتجة هي تلك التي تتمكن من تكوين أمثلة متعددة من النماذج لأفراد ناجحين وأن نجاحهم جاء نتيجة إنتاجيتهم المادية أو العلمية أو الفنية أو غيرها مما يعود بالفائدة على المجتمع عموماً. وعلى العموم فإن مجتمعات إقتصاد السوق والتي تعتمد على الجهود الفردية التي تعود بالفائدة على المبدع وعلى المجتمع ككل أثبتت كونها الأكثر نجاحاً في هذا المضمار. ومن الخصائص المهمة للمجتمعات الناجحة هي التي تسمح بالتنافس الحر للأفراد وتضمن حقوق الملكية الخاصة ويكون فيها فصلاً كاملاً للسلطات. كذلك من الجوهري أن يكون القضاء نزيهاً وذلك لأن دون ذلك لا يكون هناك ضمان للملكية الخاصة. وفي هذه المجتمعات يكون فيها الفرد الناجح والمتفوق هو شخص ذو موهبة حقيقية تعود بالفائدة على المجتمع عموماً لذا فإن تقليد مثل هؤلاء في المجتمعات الناجحة غالباً ما يعود بالفائدة على الفرد وعلى المجتمع عموماً.
أما المجتمعات السلطوية والشمولية وكذلك مجتمعات الدول الريعية (أي تلك التي تعتمد في الأساس على بيع مواد أولية كالنفط مثلاً) فتعاني من إشكالية حقيقية في صعوبة توفير نماذج إجتماعية صحية تستطيع أن تمثل قدوة مفيدة للآخرين تعود بالفائدة على المجتمع. وسوف أركز هنا على حالة الدولة الريعية التي تميز الحالة العراقية الراهنة.
فالدولة الريعية تمتاز بإقتصاد أحادي يعتمد بالأساس على توزيع عائدات بيع المادة الأولية التي لم تشارك غالبية الشعب في إنتاجها. وفي مثل هذه الدول تنشأ بيروقراطية وطبقة سياسية هي المسؤولة عن التصرف بالعائدات أي في تحديد أوجه صرفها إستثماراً أو كميزانيات تشغيلية. وهذه الطبقة الساسية والبيروقراطية غالباً ما تقع فريسة للفساد مما يؤدي الى إساءة إستخدام الأموال والى بطالة مقنعة كون الغالبية غير منتجة والجميع يعتمد على مصدر الدخل الأحادي للدولة كما ذكرت آنفاً.
فماهي إذن النماذج الاجتماعية المتوفرة التي من الممكن أن يقتدي بها الغالبية في هكذا دولة ريعية؟ فإذا أخذنا مثلاً الأدلة على تفوق ونجاح بعض الأفراد وأعتبرنا المكانة الوظيفية أو الاجتماعية أوالثراء فإن هذه المجتمعات غالباً ما يطغي الفساد واللاأخلاقية على الطبقة المهيمنة وذلك لكون المستحوذين على السلطة (وحتى لو كانوا منتخبين ديمقراطياً) هم كذلك مستحوذين على موارد الدولة الريعية في ظل نظام رقابي ضعيف أو غير موجود أو فاسد هو الآخر. وهنا تصبح النماذج الاجتماعية الرائجة هي نماذج ليست فقط غير منتجة وإنما نماذج غارقة في ممارسات غير مشروعة لها أثر مدمر ليس فقط بسبب ما يرتكبونه مباشرة وإنما بسبب ما يبيحونه بطريقة غير مباشرة للآخرين كونهم يمثلون قدوة للغالبية التي تنظر الى نفوذ وثراء هؤلاء ويتمنون التشبه بهم.
وكون الدولة الريعية لا تفرز فقط طبقة سياسية وبيروقراطية أقل ما يقال عنها إنها طفيلية وغير منتجة (وغالباً ما تكون كذلك طبقة فاسدة تمارس اللصوصية دون رادع) وانما كذلك تقف مثل هذه الدولة كعقبة أمام الموهوبين والمنتجين وذلك بوضع مختلف العراقيل بوجه هؤلاء مما قد يدفعهم الى الكف عن محاولة الإصلاح أو مغادرة البلاد الى غير رجعة.
وهدفي من تقديم هذا التحليل هو بالتأكيد ليس تبريراً لما يحصل في العراق اليوم من هدر غير مسبوق للمال العام ومن فساد لم يشهد العصر الحديث له مثيلاً وإنما هي محاولة لفهم خطورة التحديات التي تواجه البلاد وذلك من منظور علم النفس الاجتماعي. فمن الضروري إدراك أنه ليس هناك حلولاً يسيطة أو حتى حلولاً مضمونة النتائج للمأزق العراقي (وهنا أنا لا أتطرق الى المشاكل الاجتماعية الهائلة الناتجة عن الإرهاب والتعصب الطائفي والأثني). فالطبيعة الريعية للدولة العراقية تشكل مشكلة هيكلية لا توفر الفرصة لتكوين نماذج إجتماعية صحية بل هي تمنع ظهور وتطور مثل هذه النماذج وبهذا تؤدي الدولة الريعية الى تدهور مستمر في اللحمة الاجتماعية وفي القدرات الإنتاجية. والخروج من دوامة التدهور لن يتم الا بتغيير المسار الاقتصادي بشكل جذري من الريعية الى إقتصاد السوق وهذا مشروع للأسف هو فوق طاقة الطبقة السياسية العراقية بتركيبها الحالي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي


.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا




.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني