الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا انتصرت -المدنية- على -المكية- في السيرة النبوية؟

خالد شوكات

2005 / 11 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل يحتاج الله تعالى إلى مجرمين وقتلة من أمثال الزرقاوي، يقتلون غيلة الأطفال والنساء والأبرياء، ويعيثون بإسمه جل وعلا في الأرض فسادا ويسفكون الدماء، ليحقق عدالته في الأرض ويثبت شريعته بين الناس، أم هو القادر لو أراد على جعل البشرية جمعاء مؤمنة موحدة دون إراقة قطرة دم واحدة ظلما وعدوانا، وهو القائل لحكمة يعلمها في محكم تنزيله "ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، كما قال أيضا " لكم دينكم ولي دين".؟
ثم هل يمكن لإنسان سوي عاقل، أن يتصور أن الله – والخلق عياله- يفرح برؤية أرواح المدنيين – وغير المدنيين- تزهق ظلما وعدوانا تحت مبرر نصرته، أم تراه يسر لتفجير أجساد البشر العزل القادمين إلى فرح أو ميتم، أو الذاهبين لقضاء حاجة في السوق أو بحث عن لقمة عيش، بزعم إعلاء كلمته، أم تحسبه يغتبط، تخلد إسمه في السموات والأرض، لجرائم كمشة من مصاصي الدماء، تحولت ماهيتهم إلى ذئاب بشرية يتلذذون بأكل لحوم إخوانهم، ويرجعون أفعالهم الخبيثة إلى إرادته تبارك وتعالى؟
وهل يظن الزرقاوي و أمثاله ممن صورت لهم أنفسهم المريضة الاستهانة بالنفس البشرية ورسمت لهم الجرائم محامد يتقرب بها إلى الخالق، أن الله بحاجة إلى أفعالهم الدنيئة لبيان قدرته، أو أنه عاجز – حاشاه- عن إعلاء كلمته دون مساعدتهم، بل إن الله – وأمره بين الكاف والنون- لا يحتاج دولا أو حكومات أو جيوشا من الأصل، ناهيك عن عصابات وميليشيات إجرامية، لتحقيق انتصاره، فهو ليس بحاجة إلى نصر يحققه على البشر الذين هم من خلقه، وهم من يحتاجون إليه رحمة وعدلا ورضوانا؟
إن العقل عندما ينفلت من عقاله، والجهل عندما يستبد بأهله، والايمان عندما يتحول إلى مدخل للشرور يتلبس صاحبه الغرور، يمكنه أن يصور الإرهاب جهادا في سبيل الله، والجرائم أعمال بر وتقوى، والقتل وسفك الدماء صدقات، وتفجير الأبرياء وزهق الأرواح وسفك دماء الأطفال والشيوخ والنساء، وغيرها من الموبقات، زكوات وفضائل وانتصارات.
وعلى هذا النحو من الانحراف المدمر في الفكر والسلوك، يمكن أن يتحول الله من خالق بر عادل رحمان رحيم قادر على كل شيء، ومن كلمة حب وعدل وسماحة ورحمة وتآزر وتعاون على الخير بين بني البشر، إلى مغرم بإسالة دماء خلقه، متعجل على تشتيت أجساد الضعاف من عياله، مستعين بمرضى النفوس والعقول وبمن ملأ الكره والحقد والانتقام والسواد الحالك قلوبهم، من أشباه الزرقاوي ومن آمن بمنهجه التدميري، ليفرض كلمته ويبين للناس شريعته.
يفسر بعض المسلمين وغيرهم جهلا، كلمة السيد المسيح (ع) "إذا ضربك أحدهم على خدك الأيسر فصعر له خدك الأيمن"، بأنها دليل ضعف وخنوع واستسلام، وهي في الواقع دليل قوة وتبصر، فالظالم إذا قلده المظلوم في وسيلة الجور أصبح مثله، والإنسان الحقيقي لا يجب أن يتحول إلى حيوان في وسيلة الدفاع عن نفسه وحقوقه، وعندما لا تقلد من لطمك في اللطم تظهر له إلى أي حد هو ظالم وسيء ولا إنساني.
والمفترض في الأديان الإلهية، أنها جاءت لتنقذ الإنسان من نفسه العدوانية، وتوجهه نحو المحبة والعدل والسماحة، وفي القرءان الكريم إنما بعث الرسول (ص) رحمة للعالمين، أي للبشر جميعا، مسلمين وغير مسلمين، فهل يمكن أن تندرج جرائم الزرقاوي وابن لادن والظواهري، وسواهم ممن سار على درب قتل الأبرياء الجماعي، في العمارات المدنية وفي قطارات الأنفاق والحافلات، في سياق هذه الرحمة؟
إن النظرة القاصرة للسيرة النبوية التي تحول الأصل إلى استثناء والاستثناء إلى أصل، هي التي أنتجت على مر أربعة عشرة قرنا ونيف من الإسلام، الكثير من المذابح والجرائم والدم المسفوك المهدور بإسم الله ورسوله (ص)، والله ورسوله من هذه الانحرافات براء، فالأصل في الإسلام هو "الدعوة" والاستثناء هو "الدولة"، فإذا ما تحقق الأصل دون حاجة إلى الاستثناء، كان العمل بموجب الاستثناء باطلا عقلا وشرعا وفقها.
لقد امتدت سيرة الرسول محمد (ص) ثلاثة وعشرين عاما، من بينها ثلاثة عشرة عاما مكية، وعشر سنوات مدنية، والثابت من هذه السيرة أن الرسول (ص) لم يمارس العنف السياسي إلا في السنة الثانية للهجرة مع معركة بدر، وأنه خرج من مكة مهاجرا خائفا على نفسه وأصحابه دون أن يدعو إلى الرد على الاضطهاد بالعنف، أو دون أن تبدو في نيته إقامة دولة وهو في طريقه إلى دار الهجرة.
ولا شك أن ما تعرض إليه الرسول (ص) وصحبه (رض) خلال المرحلة المكية من الدعوة، يدعو كل إنسان عادي إلى الرد على العنف بعنف مماثل، لكنه مع ذلك أصر على المنهج السلمي في تبليغ رسالاته، ولم يثبت عليه (ص) أنه دعا إلى انتقام أو حقد أو كراهية، رغم الكم الكبير من الإهانات وحملات التكذيب والتسفيه والحط من الشأن..لقد كان محمد (ص) طيلة الحقبة المكية مثالا للصبر والتسامح والسلم، ومن هذه الحقبة ظل كثير من دعاة المقاومة السلمية يتعلمون، من بينهم بلا شك الداعية الهندي الكبير المهاتما غاندي.
لقد كان الاضطهاد القرشي مثالا للاضطهاد السياسي والفكري والعقائدي والاقتصادي في كل زمان ومكان، فعلى أيد القرشيين تعرض محمد (ص) لكافة أنواع الحصار والإيذاء الشخصي والجماعي، وقد توج هذا الاضطهاد بالتخطيط للتصفية الجسدية والطرد الجماعي، وعلى الرغم من كل هذه الابتلاءات كان جوهر الدين المصر على السلم، من باب القناعة لا العجز، واضحا للرسول الكريم (ص)، فالدعوة المسالمة إلى التوحيد كانت هي المهيمنة، ومطلب "خلوا بيني وبين الناس"، أي مطلب حرية الاعتقاد الديني، كان هو الحاضر الأساسي، وليس ثمة في القرءان أو السيرة أي حدث يمكن أن يخالف هذا الرأي أو يبرهن على وجود نية في تحويل الإسلام إلى مشروع "دولتي" "امبراطوري" سينغمس لاحقا في كل ما انغمست فيه المشاريع المماثلة على مر التاريخ.
إن قياسا بين سيرتي السيد المسيح (ع) والرسول محمد (ص)، قد يساعد على فهم الالتباس التاريخي الذي أظهر بعد الدولة ظهيرا للدعوة فيما سيعرف بالمرحلة المدنية، ذلك أن السيد المسيح (ع) قد ظهر في أرض كانت في غالب الزمان إما إقليما لدولة أو جزءا من إقليم لدولة، وهو ما جعل السيد المسيح غير معني بهذا الأمر الذي يساعد الناس على تنظيم شؤون دنياهم، فكانت رسالته دينية محضة، وهو القائل "دعوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله".
أما في حالة الرسول محمد (ص)، فقد كان الأمر مختلفا، حيث ظهر في مجال أرضي وزماني لم يخضع لدولة قط، وكانت التطورات الاجتماعية والاقتصادية للعرب تصب في اتجاه انضاج الحاجة إلى وجود دولة. هذا إلى كون قدوم الرسول (ص) إلى المدينة قد تزامن مع استعداد الأوس والخزرج إلى تتويج ابن سلول ملكا عليهم، بما يعني إقامة دولة، مما سيقدر المهاجر أنها ستتضارب في مصالحها مع الدعوة التي جاء يبحث لها عن نصرة، ومما سيضطره أيضا إلى مجاراة النسق السياسي، والتصدي لإقامة الدولة الجديدة وفقا لبنيات تخدم الرسالة الدينية ولا تتصادم معها.
والرأي عندي أن إقدام محمد (ص) على إنشاء دولة في المدينة، لم يكن ثمة شيء في سيرته المكية السابقة يشير إلى أنه مزمع على إقامتها، لم يكن أصلا من أصول الاعتقاد الإسلامي، وأنه كان استثناء طارئا أجبرت الظروف المعاشة حينها النبي (ص) على تأسيسه، أما إذا ثبت أن المجال مفتوح للدعوة السلمية، وأن الدولة القائمة لا تصادم حرية الاعتقاد أو تمنعه، فإن تحويل الاستثناء إلى قاعدة، تبرر جرائم ضد الانسانية لا حصر لها، فلن يكون سوى ضربا من ضروب الانحراف عن الدعوة الدينية الحقيقية، التي هي إحياء للناس، لا إماتة لهم، ورحمة بالناس لا سفكا لدمائهم واستهانة بأجسادهم وأرواحهم، وعبثا بأعراضهم وأرزاقهم وأطفالهم ومعاشهم وأخلاقهم وحريتهم.
إن إعفاء الإسلام من جرائم الزرقاوي وابن لادن والظواهري وكل من حدثته نفسه بقتل نفس بغير حق، وتبرئة ذمة العقيدة المحمدية السمحاء، من آثام الفرق الضالة المنحرفة المتطرفة، واجب شرعي، على العلماء والفقهاء الناطقين بإسم الديانة الإسلامية أن ينهضوا به، تكريسا لجوهر الدين الذي أثبتته المرحلة المكية من السيرة النبوية، ووعيا بالطبيعة الاستثنائية التي ميزت المرحلة المدنية، بما هي مرحلة دولة وسلطان ناصرت مرحلة النبوة والإيمان.#








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت


.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق




.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با