الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بين البغدادي وسيسيل ...

رشا ممتاز

2016 / 4 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اعتدت على الذهاب اسبوعياً لحضور العروض المسرحية المجانية للفرق الناشئة في باريس بصحبة صديقتي الفرنسية ذات الابتسامة الساحرة سيسيل .
وفي أحد العروض المسرحية الساخرة , سخر البطل الشاب من شخصية المسيح وحواريه بشكل فيه مبالغة ولاني ادرك ان سيسيل مسيحية متدينة فحاولت ان لا اضحك على المشهد رغم براعته احتراما لمشاعرها...
ولكني فوجئت بها تنفجر فى نوبة من الضحك على المشهد الساخر حتى دمعت عيناها فاشعلت ضحكاتها فتيل قنبلة الضحك التي كنت اخفيها !
استغربت جداً من سلوك سيسيل وبعد خروجنا سألتها لماذا لم تغضب من المسرحية وتغادرها رغم ان موضوعها كله ساخر من الدين المسيحي بل وضحكت كما لم اراها تضحك من قبل ؟! رغم كونها متدينة بل وحريصه على حضور قداس الأحد وعلى تقديم خدمات في الجمعيات الخيرية التابعة للكنيسة ؟
أجابتني سيسيل باندهاش من سؤالي وما علاقة تديني بمشاهدتي لعمل مسرحي ؟
رؤية الكاتب للمسيح وللدين تخصه وهو عرضها فى قالب فني ساخر وانا ضحكت على رؤيته للشخصيات و طرافة المشهد ولكن هذا لا ينفي احترامي لرؤيتي لنفس الشخصيات وتقديسي لها ..
من حقه ان لا يؤمن ومن حقي ان أؤمن ! ومن حق كلانا ان يعرض وجهة نظره كيفما شاء , واضافة بنبرة صوت مرتفعة واثقة فنحن فى دولة علمانية فلنشكر الرب !
لم يفارق ذهني هذا الحوار المقتضب وطالما تذكرته كلما سمعت عن ضحايا ازدراء الاديان أو حوادث الطائفية والتعصب فى بلادي فهو يجسد لي بوضوح الخط الفاصل بين تدين العصور الوسطى الموجود عندنا وتدين ما بعد التنوير والحداثة وشتان بينهما .
فتدين العصور الوسطي أو التدين القروسطي هو تدين سلبي كاره للحياة , يتسم بالحساسية الدينية المفرطه التي تلغي العقل وتحول الانسان الى كتلة من الغضب وشرارة من الانتقام والعدوانية كلما شعر أن هناك شبهة المساس بمقدساته وتدفعه لارتكاب الجرائم فى سبيل الدفاع عنها وكأنه مفوض للدفاع عن السماء وكأن الدين ملكه الشخصي وليس فكر عام يخاطب الجميع و من حق الاخر نقده كما من حقه تقديسه !
اما تدين ما بعد التنوير والحداثه أو التدين العلماني فهو تدين إيجابي محب للحياة , عقلاني متسامح يرى الدين قد جاء من أجل الإنسان وبالتالي فالإنسان هو القيمة العليا التي لا يجوز المساس بها , ومعيار التدين هو الارتقاء والانفتاح والاحترام والتسامح فكلما كان الانسان اكثر رقياً وتسامحاً وتقبلاً للنقد واحتراماً لحق وحرية الاخر كلما كان اكثر تديناً وقرباً من الله .
لم تفتخر سيسيل بعلمانية دولتها شاكرة الرب من فراغ , فلم يكن حال اوروبا المتحضره المتسامحة دينياً كما هو حالها اليوم في ظل نظامها العلماني المتصالح مع كافة العقائد , بل كانت تضاهي حالنا تخلفاً وقمعاً في عصورها الوسطى الغابره , وكانت قوانين إزدراء الدين والتي سميت وقتها بمحاكم التفتيش تقام بشكل دوري للحكم على عقائد الناس والتفتيش فى نواياهم والتخلص من الخصوم السياسيين ! كان المشكوك فى ايمانه وولاءه يتهم بالهرطقة ويعزل ويبتعد عنه الجميع كما لو كان مريضاً بالطاعون ! وتصادر ممتلكاته قبل محاكمته و حرقه أو نفيه فى أحسن الاحوال !
ففي بدايات القرن الثاني عشر اجتمع المجمع الكنسي بشكل عاجل وأصدر قرارا يعلن فيه حظر ومنع قراءة كتب أرسطو وشراحه من الوثنيين الكفار ويقصد بهم ابن سينا والفرابي سواء فى الحلقات العامة أو الخاصة واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الغزو الفكري العربي الوثني الكافر المتمثل فى افكار الفلاسفة العرب وعلى رأسهم ابن رشد !
وفي عام 1228 حذر البابا غريغوريوس التاسع من هذه البدع الدنيويه المستجده لخطورتها على الايمان المسيحي , قائلا عبارته الشهيرة لن يكون للايمان اي قيمة إذا كان بحاجه للعقل البشري من أجل مساعدته !
وتصاعدت المواجهات واحتمدت كلما زاد انتشار الفكر الفلسفي الارسطي الوافد فلن يسمح كهنة الكنيسة لهذه الفلسفة الجديدة بالدخول ومنافسة عقائدهم في السيطرة على عقول الناس , فعقول الناس ملكهم وحدهم ولن يقبلوا ان ينافسهم عليها أحد .
واندلعت المعارك الصريحة على المكشوف , دفاعاً عن المصالح الكهنوتيه المتسترة خلف الدفاع عن الرب تارة والحفاظ على الايمان النقي تارة اخرى ! و منع مطران باريس جميع اطروحات الفلاسفة العرب بل ومن تأثر بهم ومنعت مناقشة القضايا الدينية فى كليات العلوم الدينويه تحت ذريعة عدم الاختصاص! وازدادت الرقابة الدينية توحشاً وصادرت الكتب والمؤلفات وحاكمت الاساتذه والكتاب واستمرت المعارك الضارية لقرون قبل أن تحسم للأصلح أى للعقل والمنطق .
ولكن الدين لم يخسر المعركة كما يظن البعض على العكس تماماً , فقد ربح حريته من سيطرة الكهنوت ووصايتهم عليه , وأصبح الدين عقلانياً لا يتناقض مع العلم والمنطق , متصالحاً مع الإنسان , متطوراً , متسامحاً مع الاخر , متقبلا للنقد ومستوعباً لجميع الافكار.
وهذا ما يخشاه الكهنوت الإسلامي اليوم فما حدث بالامس البعيد فى اوروبا فى اشد عصورها ظلاماً وانحطاطاً يحدث اليوم فى بلادنا !
يخشون على مكانتهم ومصالحهم المخفية تحت واجهة الدين ليحكمون قبضتهم وسيطرتهم على القطيع..
لا يهمهم الدين فى شئ ولا الايمان ولا الله ولا الرموز الاسلامية وانما كل تلك الامور ما هي الا ذرائع من اجل شئ واحد ووحيد الا وهو التسلط التام على عقول العامة حيث لا سلطان على العقل الا الكهنوت ... ثم يقولون لك ببراءة لا كهنوت فى الإسلام !
يقفون جميعاً كحائط صد أمام العقلانية والتنوير, تماماً كموقف كهنة العصور الوسطى في اوروبا , لانهم يريدون الإيمان المتعصب , يريدون الإيمان القبيح العدواني المتطرف , حتى تستمر قبضتهم وقدرتهم على تحريك الجموع واستنفارها عن طريق التلاعب بمشاعرهم الدينية فيحفظون مكانتهم السياسية وكلمتهم العليا فى البلاد !
يمتنعون عن ادانة داعش الوجه القبيح للاسلام بينما يحاكمون ويكفرون إسلام البحيري الذي يجمل الاسلام !
يهابون النقد ويسنون القوانين من أجل ان يسود (إيمان) ابو بكر البغدادي "العابس" بينما يقمعون (إيمان) صديقتي الجميلة سيسيل "المبتسم "!
و بعد ان تطرح بذور الكراهية والتعصب التي ذرعوها قنابل تحصد الارواح ,وبعد كل حادث إرهابي فى الغرب , يرسل كبير كهنتهم بيان الاستنكار الملطخ بدماء الابرياء مؤكداً على كون الحادث لا يمثل الإسلام و رافعاً اسطورة... الوسطية !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذه رشا ممتاز المحترمه
سناء بدري ( 2016 / 4 / 5 - 07:15 )
تعجبني كتاباتك ومقالاتك فهي من السهل الممتنع التي تجيب على الكثير من الاسئله.اتابع كل ما تكتبين واتعلم لاننا مع كل اشراقة شمس اذا لم ننهل ونقراء ما يكتبه الاخرين معتقدين اننا بلغنا الكمال هنا الكارثه
تحياتي ومودتي


2 - الاستاذه سناء البدري
رشا ممتاز ( 2016 / 4 / 5 - 12:14 )
اشكرك سيدتي على المتابعة والاهتمام

واتمنى التواصل على الفيس بوك مع حضرتك

https://www.facebook.com/rasha.momtaz


3 - اعذريهم سيدتي
صلاح البغدادي ( 2016 / 4 / 6 - 12:52 )
في شرقنا الاسلامي فقدنا كل شيء
الحضارة..الثقافة..الموسيقى..حقوق الانسان.واخر مفقود هو العقل
لم يتبقى لدينا الا:
تقديس ماهو غير مقدس
واحترام ماهو غير محترم
لم يتبق لدينا سوى شحذ الهمم وتكثيف الجهود واستحضار كل مقالات وكتب السلف الصالح والطالح...لنفسر هل (الرتق) و(الفتق) هما الانفجار الكبير الذي قال به العلماء
هل ذو القرنين نبي ام لا
هل زواج بنت جحش مكتوب في اللوح المحفوظ قبل مليار سنة
وهل ثروات المبشرين بالجنه من غزواتهم ام هي استحقاق رباني
وهل حديث (من تآسى بالجاهلية فليعضض.....ابيه)..صحيح ام لا
لم يتبقى لدينا الا ذلك،فلماذا تحرميينا منه سيدتي
سيسيل من كوكب اخر ونحن سكان هذا الكوكب
فدعينا نعيش في كوكبنا
تحية لك وليسيسيل
ملاحظة..للامانة فان العشرة المبشرين لم يرد اسم اي واحد منهم في وثائق بنما للاثرياء المتهربون من الضرائب والغاسلي اموال الجريمة



4 - تحية وتأييد للزميلة رشــــا مــمــتــاز
غـسـان صــابــور ( 2016 / 4 / 6 - 16:20 )
الزميلة الرائعة رشــــا مــمــتــاز
لا يمكنك أن تتصوري لذة قراءتي لكلماتك الواضحة الصريحة الشجاعة... وفد كتبت لك شكرا وتأييدا بمقال على صفحات هذا الموقع بنهابة الأسبوع الماضي.. وكم أنا آسـف وحزين ويائس أن الأنتليجنسيا العربية والإسلامية, لا تدعمك ولا تدعم الزميلة الرائعة فاطمة ناعوت, بمحاربتكما للعتمة والجهالة والغباء وإرهاب التعصب الإسلامي, وانتشار أفكار خلافته وحربه على النور والكفار...
كلي تأييد لكل ما تكتبين, في سبيل تطور الأديان وقبولها للنقد.. وفي سبيل انتشار العلمانية الصريحة الواضحة, بالبلدان العربية والإسلامية.. وخاصة المساواة الكاملة ــ دون أي استثناء ــ بين المرأة والرجل.
مع تحية إنسانية صادقة.
غـسـان صــابــور ـــ لـيـون فــرنــســا



5 - شكرا عزيزي غسان
رشا ممتاز ( 2016 / 4 / 8 - 11:12 )
اشكرك استاذ غسان على مقالك وقد قرأته واحتفظت به

كما اشكرك على الدعم الدائم


6 - شكرا عزيزي غسان
رشا ممتاز ( 2016 / 4 / 8 - 11:40 )
اشكرك استاذ غسان على مقالك وقد قرأته واحتفظت به

كما اشكرك على الدعم الدائم

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah