الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخميني والأنتلجانسيا الفرنسية

هادي اركون

2016 / 4 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



تظهر الحداثة كثيرا من التخاذل في قراءة مخالفيها وسبر مقاصدهم ونواياهم وتوجهاتهم ؛وتسعى بمقتضى مثالات غير مدروسة جديا ،إلى تعاطف إيديولوجي أو عملي غير مسوغ مع رافضيها.ويبدو أن هذا التخاذل من السمات المائزة للحداثة ، خاصة في لحظات ارتجاج الرؤية ،وسوء تقدير الصراعات الجيو-سياسية وسوء تأويل مقاصد الآخر.
فكيف وفرت فرنسا ما بعد ثورة 68 ،شروطا ملائمة لقائد ديني يستعمل منجزات الحداثة السياسية والفكرية والتقنية مثل الخميني ،لإنهاء نظام متمسك بمكتسبات الحداثة رغم كل مساوئه السياسية والاقتصادية مثل نظام الشاه؟
لماذا انبهرت الأنتلجانسيا الفرنسية ، الموغلة ، ظاهرا في النقدانية والتفكيكانية ،بالخميني وثورته ،رغم انتماء فكره إلى نظيمة وتقاليد تجاوزها الغرب منذ عصر النهضة على الأقل ؟ لماذا تخلى ميشيل فوكو وزملاؤه عن حسهم النقدي ،ولم يقرأوا المسكوت عنه في خطاب الخميني و لم يستشرفوا الممكنات العملية في ضوء المعطيات النظرية الموجودة طي فكر الخميني ومناصريه العقديين ؟كيف تلتقي الحداثة الناقدة مع التقليد الجذري ،ولم تجف بعد آمال الثوريين ؟
تكمن معضلة فرنسا آنذاك ،في عدم التمييز بين المضطهدين واللاجئين والمعارضين ؛ فكل معارض ،مقبول بموجب حالته ، بمعزل عن مشروعه ومقاصده وفكريته وموقفه من الحداثة ومكتسباتها القيمية والفكرية والسياسية . ففرنسا ملزمة بموجب تقاليدها الحقوقية والسياسية والثقافية ،باحتضان كل المتمردين وكل الثوار،بغض النظر عن خطاباتهم وطموحاتهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية والإيديولوجية.وهكذا يتم تغليب "أخلاق القناعة " على "أخلاق المسؤولية "،والاكتفاء بالتعاطف المبدئي ،في موقف يقتضي استقصاء الحقائق وإعمال العقل النقدي ونقد ايديولوجيا الآخر أسوة بنقد الذات.كان التفكيك من السمات المائزة للفكر الأوروبي آنذاك ؛إلا أن التفكيك لم يعمم ،فحصر في الفكر والإنسية الأوروبية دون الفكريات الطرفية . ففيما يغرق المفكر الأوروبي ،في تفكيك الميتافيزيقا الغربية ونقد الحداثة الكلاسيكية ومجادلة الماركسيات ،فإن المثقف الشرقي ،يعمل معاول الهدم في المنجز الحداثي ،ويحمل الحداثة مسؤولية تردي الأوضاع وتسيد الاستبداد في تربته الفكرية والسياسية ،وينافح عن تراثه و إطاره الفكري والقيمي(أنور عبد الملك ومالك بن نبي وحسن حنفي ... الخ) .
لقد انبهرت الأنتلجانسيا الفرنسية ، الباحثة والراغبة في الثورة ،بالخميني ،وبالغت في أمثلته ،ولم تكلف نفسها عناء التنقيب عن أوراقه السرية والعلنية.
فلئن بالغت الأنتلجانسيا الفرنسية ،في نقد الفكر البورجوازي والحداثة الكلاسيكية ،فإنها تخلت ، عموما ، عن حسها النقدي وعن يقظتها الفكرية إزاء خطاب يتوسل أدوات الحداثة لنسفها فيما بعد .
تقتضي اليقظة النقدية ،عدم الاكتفاء بالمعلن،واستقراء المسكوت عنه والمضمر في الخطاب وفي المطالب،ومراعاة البعد التاريخي والثقافي للظواهر.عارض الخميني نظام الشاه ،استنادا إلى صور وميثات المتخيل الشيعي .فالخميني يقرأ التاريخ من موشور المتخيل ،والحادثة التاريخية من منطلق القيامة و مبادرات الفاعلين التاريخين استنادا إلى تصنيفات مخيالية وآمال مهدوية .ويبرع في استثارة متخيل الشهادة ،والتوحد بالرموز الشيعية لدى الجموع المتشبعة بالرموز الشهادية وبأمثولة الحسين. فكيف يقبل المثقفون الثوريون المنادون بتحرير الفكر والفرد من نير الدوغمائيات والتقاليد البورجوازية والميتافزيقا الغربية ،"الرضوخ" للدوغما الشيعية والميتافزيقا الإسلامية ،في إحدى تجلياتها الأكثر ارتكاسا ؟
لقد انبهر المثقفون الغربيون بقدرة المتخيل على الاستثارة وعلى التعبئة وعلى التجييش ،في مقامات تقتضي رؤية ما وراء التعبئة وتحدث فوكو، في لحظة ذهول فكري وسياسي ، عن الروحانية السياسية .إلا أنهم لم يستشكلوا مباني ومعاني هذا المتخيل ،ونوازعه الرئيسية .
لقد رحبت فرنسا ما بعد ثورة 1968بالخميني ووفرت له كل الظروف الملائمة،لتكريس زعامته ،وتثبيت مكانته السياسية والروحية ،وفرض اختياراته على كل الأطراف السياسية في ايران والشرق الأوسط .فقد تحولت نوفل لوشاتو إلى ما يشبه القيادة العامة للخميني وأنصاره من المثقفين المتعلمنين ،وإلى محج لمشايعيه من المتدينين.
ومن المفارقات العجيبة ،انبهار فرنسا المتمردة على كل النظم ،برجل ديني شيعي ،متمسك بإطاره النظري وبمنظومة فكرية مختلفة ،كليا ،مع الأساسيات القيمية والفكرية والأخلاقية للحداثة.ولم يجد بعض الثوريين التروتسكيين أو الماويين ،بأسا من تفهم انثروبولوجيا وثيولوجيا الخميني ،والتعاطي ،إيجابيا ،مع تصوراته السياسية ،كأنه يقدم بديلا غب-حداثيا لمشاكل العالم .
يكاد الماوي أو التروتسكي يسقط استيهاماته عن الإمبريالية على قائد سياسي وديني ،مسكون بمثالات غيبية وإملاءات فقهية وتصورات قيامية.وبناء على هذا ،فهو لا يرفض الغرب لأسباب سياسية أو عملية ،بل يرفضه لأسباب فكرية وإيديولوجية وأخلاقية بالدرجة الأولى .
(لكن الخميني رجل دين.وتترتب على هذه الصفة ثلاث مراتب عملية : 1-مرتبة التكفير 2-مرتبة الفقه 3-مرتبة الحقيقة المطلقة. .في الأولى كان على الخميني أن يتعامل مع القوى العلمانية بوصفها نتوءات مارقة ،وأن ينظر إلى الوطنية من زاوية العمامة . ) 1-
لم يعارض الخميني نظام الشاه ،بسبب ارتهانه للنفوذ الأمريكي واختلالات سياسته الاقتصادية ،بل لانتهاجه سياسة تحديثية مجافية لأشواق المؤسسة والمراتبية الشيعية.
مما لا شك فيه أن معارضة الخميني للشاه ،ترجع إلى سياسته التحديثية ،المشدودة إلى التحديث خارج إملاءات وشروط المؤسسة الدينية .وما أثار الخميني وأتباعه ،هو إقدام الشاه على جملة من الإصلاحيات ،نذكر منها ما يلي :
- إقرار الثورة البيضاء سنة 1963 ،
-إقرار حقوق المرأة(حق التصويت عام 1963،قانون حماية المرأة سنة 1975) ،
-الاحتفاء بالذاكرة والتاريخ الفارسيين،كما في احتفالات مرور 2500 عاما على النظام الملكي الفارسي سنة 1971 .
فرغم كل اخفاقات الأنتلجانسيا الفرنسية ورهانها على قضايا سياسية خاسرة أو ملتبسة ،فإنها لم تتحقق من ماهية الخمينية ،ذات المصادر والاستلهامات المختلفة عن كل ما هو معروف في التاريخ الحديث.فلئن أخفق المثقفون ،غالبا ،في استقراء حقيقة الثورات ذات الاستلهامات الحديثة ( الثورة الفرنسية والثورة الروسية والصينية ... الخ)،فإن نجاحهم في استقصاء حقيقة ومآل الثورات ذات الاستلهامات التراثية(المتخيل الشيعي والتمرد العلوي ولاهوت الإمامة ) ،أبعد عن التحقق .
إن نقد الشاه محمد رضا بهلوي لا يبرر،التشيع للخميني ،خاصة أن خطابه موغل في اللامعقول السياسي والديني وحامل لبذور الكلانية ؛ومن المعلوم أن للخطاب روابط متينة بالسياسة العملية ، وهذا ما تبين بعد انتصار الثورة وانفراد الخميني بدواليب القرار السياسي والفكري في طهران وإقصاء كل التيارات الفكرية والسياسية المساهمة في الثورة .
تنازل الكثير من المثقفين العلمانيين الفرنسيين عن علمانيتهم وتحررهم ، وتحولوا إلى منبهرين أمام قائد كارزمي ،يلزم زواره بالجلوس على الأرض واحترام مشهدية الشيخ والمريد وفرض انثروبولوجياه ضدا على تقاليد الضيافة كما ترسخت في التقاليد الفرنسية .
كيف ابتلع الخارجون من ثورة 68 ،كل كبرائهم الثورية ، وتحولوا إلى مريدين أمام قائد كارزمي ،يفرض جوا قروسطيا ،على زواره ؟بل كيف ارتضت بعض الصحافيات ،ارتداء الحجاب بمحضر القائد الديني في وقت ارتفعت فيه سقوف مطالب الحركة النسوية وشهدت الثورة الجنسية احتداما غير مسبوق ؟ألا يكشف هذه الخدر الفكري والثقافي أمام رمزية الخميني ،عن رغبة عميقة في الاعتقاد لدى كثير من المتياسرين ومن المتعلمنين والثوار؟ كيف استكانت فرنسا المتحررة من الأسرة والكنيسة والتقاليد البورجوازية ،بمحضر قائد تمثل انثرولوجياه ،النقيض الفعلي للحداثة ( تقاليد الضيافة ،الابستام ،والنظر إلى وجه الآخر ، استعمال الكراسي و الطاولات ،رفع الكلفة ، ....... الخ)؟ .
مما لا شك فيه أن الخميني استعمل بذكاء ودهاء ،كل منجزات الغرب ،لتحقيق أهدافه ،وليعزز مواقعه السياسية في صراعه ضد نظام الشاه وضد مناوئيه ومنافسيه من القوى الإسلامية( محمد كاظم شريعتمداري ومجاهدو خلق ...) والعلمانية(حزب تودة وفدائيو خلق ).
اعتمد الخميني استراتيجية مزدوجة في مقامه الفرنسي ،قوامها خطاب معتدل متعلمن موجه للغرب ،وخطاب راديكالي موجه إلى الشاه. وفيما تمكن الخميني ومناصروه ،من تحييد القوى السياسية الغربية ،عبر استعمال بلاغة ديمقراطية وخطاب شبه معلمن ، فإن القوى السياسية الغربية ، ولا سيما حكومة جيسكار ديستان وجيمي كارتر ،قد أبانت عن سوء فهم لعقل وذهنية الإسلام السياسي ،وللتشيع السياسي في نسخته التقليدية أو نسخته شبه المعلمنة(خطاب بني صدر وصادق قطب زادة وإبراهيم اليزدي ...).
(واذكر أيضا جدالات مع بني صدر،رئيس تحرير"انقلاب اسلامي"في حينه،عندما حاول ان يقنعني بأنه يتعين تغطية شعر المرأة لأن العلم أظهر ،كان علي أن أعرف ذلك ،أن شعر الأنثى يرسل اشعاعات الكترونية تربك الرجل ،وسألته ،بالمناسبة ،إن كان متأكدا ان شعر الرجل لا يفعل الشيء نفسه.) 2-
لم يتعمق في استقراء حقيقة الخمينية إلا قلة من الباحثين ،بسبب قلة الدراية بالمتخيل والفكر الشيعيين وتحولات الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر وعلاقة التشيع المعاصر بالسلفيات السنية (خطاب المودودي وسيد قطب وحسن البنا) .
فالخمينية نتاج متخيل شيعي وفكر سياسي متفاعل مع الفكر السني ومعارضة سياسية مستوحية لأساليب وطرق وآليات التيارات السياسية الغربية .
ما أسباب رخاوة الأنتلجانسيا الفرنسية وتخاذلها أمام الخمينية الصاعدة ؟
يمكن إرجاع ذلك الموقف إلى ما يلي :
-التضامن المبدئي مع بلدان وشعوب العالم الثالث ومعاداة الإمبريالية خاصة في صفوف اليسار الكلاسيكي والجديد؛
-الاكتفاء بالمعلن والظاهر دون استقراء المخفي والمبطن في خطاب الزعماء الإسلاميين؛
-عدم الدراية بخلفيات الفعل التاريخي ومحركات الفاعلين التاريخيين في ثقافة غير متشبعة بالفكر التاريخي والنقدي مثل الثقافة الإسلامية؛
-الاكتفاء بالتحليلات السياسية والاقتصادية والجيو-استراتيجية وإهمال التحليلات الثقافية والاجتماعية ؛
-عدم الدراية باشتغال المؤسسات الإسلامية التقليدية وكيفية تحكمها في المتخيل الاجتماعي وبنائها المستمر لمثالاته وحقائقه،
-انتهاء التفكيكانية أو الهدمية والنقدانية إلى مناصرة التقليد وتيارات ما قبل الحداثة وإلى الانبهار الرومانسي بالشرق وأساطيره(إسلام بعض المثقفين والفنانين في حقبة السبعينات ...) ،
-تراجع الاستشراق وعدم بلورة علوم متخصصة في تاريخ وواقع المجتمعات الإسلامية بعد استقلالها،
- سيادة النسبانية الثقافية والافتتان بالمقدس والميثي والمشاهد شبه الصوفية (سمت الخميني وجلوسه تحت شجرة التفاح).
تكتفي الأنتلجانسيا الفرنسية إما بالمبدئيات في مواقف تقتضي الفحص المدقق لنوايا ومقاصد ورؤى الآخر ،وإما باصطناع صورة مغايرة للآخر .وهكذا ،صار الخميني الرافض صراحة للديمقراطية والفكر والقيم الغربية ،سياسيا ،يمكن التعامل معه والإنصات إلى خطابه والخضوع لمقتضياته الأنثروبولوجية .كما صار من الممكن ،تفضيله عن الشاه ،رغم أن الشاه تحديثي ،وقريب من القيم الفكرية والسياسية الغربية رغم كل مساوئه.
والغريب أن لا يلتفت الكثيرون من نقاد الكلانية ،إلى بذور الكلانية في الخمينية ؛ففيما يشددون النكير على الكلانية الشيوعية والنازية والفاشية ،فإنهم يتوددون ،إلى كلانية كمونية ،سرعان ما استحالت إلى كلانية عملية قوامها المجازر الجماعية والاستبداد السياسي والأحادية الثقافية والتشدد المذهبي والتمدد الإيديولوجي والسياسي (تصدير الثورة ) .
(ان الأنطولوجيا التاريخية في مساءلتها للثورة تصدر عن إثيقا مضادة لكل وعي استراتيجي :فالإستراتيجي يفكر في الثورة ،ويقيس تداعياتها وما يستتبعها ،من منظور ذرائعي نفعي ،في حين أن أفق الأنطولوجيا التاريخية يظل معاديا لكل تسويغ برغماتي .) 3-
وبدلا من إنعام النظر في الخلفيات النظرية للخمينية وترقب النتائج المحتملة لتلك الخلفيات بالذات ،استرشادا بوقائع التاريخ الإسلامي ،فضل الكثيرون التمسك بمواقع أخلاقية أو مبدئية أو عالمثالثية ،مما أوقعهم ،في مزالق إيديولوجية وسياسية كبرى.فالمثقف الفرنسي يخون رسالته الثقافية ،فيما يعتقد أنه مخلص لمثالاته ولدوره "- التنويري" .
وفيما يفرض التاريخ إعادة النظر في تلك المواقف الرخوة ،والاشتغال على فكر ومواقف ونفسانية الآخر سنيا كان أم شيعيا ،بالغت الحكومات والأنتلجانسيا الفرنسية ،في المجاملات والبحث عن التسويات والترضيات ،مع فكر لا يقبل التسويات إلا كتكتيكات في انتظار التمكن والسيطرة على العالم .فمن الواضح ،أن درس الخميني ،لم يستوعب جيدا،لا من قبل الأنتلجانسيا الحالمة أو المذهولة ولا من قبل النخبة السياسية الباحثة دوما عن مكان في فضاء سياسي مترجرج .
إحالات :
1-(هادي العلوي -فصول من تاريخ الإسلام السياسي،مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ، نيقوسيا،قبرص،الطبعة الأولى 1995،ص.453)،
2-( فريد هاليداي ،ما بعد الأخوندية (ملاحظات أولية عن مستقبل ايران) –أبواب العدد10 ،1996،
ص،35-36)،
3-(محمد الشيكر ،ميشال فوكو والثورة الإيرانية ، منشورات الزمن ، العدد70،يناير 2016،ص.104)

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب