الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
بنية القلق والموث في رواية - غرف الموت - للروائي حميد المصباحي
عبد الغاني عارف
2005 / 11 / 24الادب والفن
في الهوية السردية للرواية :
إن قراءة أولية لرواية " غرف الموت " ( ) تجعلنا نقول منذ البداية بأننا أمام نص روائي مغربي يكاد يتميز بكونه أول عمل يمكن تصنيفه في إطار " الرواية السياسية " بالمعنى المباشر للكلمة ... إنها رواية تتخصص كليتها في موضوع الاختيار السياسي ، وبمعنى أدق ، في الممارسة السياسية .
من المؤكد أن القضايا السياسية ، أو ذات الحمولة السياسية ، بمختلف تجلياتها ( تجربة النضال الوطني / تجربة المقاومة / تجربة السجن / تجربة الحركة الطلابية ... إلخ . ) تحضر ، بصورة أو بأخرى ، في كل الكتابات الروائية المغربية ، أو في جلها ، غير أن ذلك الحضور تتقاطع ضمنه تمظهرات تنتمي لحقول أخرى متباينة . وعلى العكس من ذلك نجد رواية " غرف الموت " تسعى إلى تقديم تجربة إبداعية لها خصوصياتها وذلك عبر بلورة حكائية لسيرة ذاتية / جماعية تحاكم مرحلة بأكملها ، بل وتعري مناطق الضعف في الاختيارات التي سادت طوال تلك المرحلة.
ويتأسس هذا الحكم الذي نصدره على " هوية " الرواية على تمييز منهجي مسبق بين الرواية السياسية والرواية الايديولوجية ، وذلك من منظور أن الرواية المغربية ، في عموميتها ، رواية ايديولوجية لكونها تقدم متناً تخترقه مواقف ومنطلقات تعكس ، في كثير من الأحيان ، القناعات الثقافية والعقائدية والفكرية لمؤلفيها ، ولكن دون أن تكون الممارسة السياسية هي محور اشتغالها السردي ، على عكس ما نجد في " غرف الموت " التي هي رواية تشتغل على مادة حكائية يمكن تلخيصها في عبارة "الانتماء السياسي " والتمظهرات السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية لذلك الانتماء .
في موضوع الرواية :
يمكن اختيار مفتاح نعتبره بؤرة هذه الرواية من خلال ما جاء في الصفحة 101 حين يواجــه "البطل" ذاته معترفاً : " كانت أصابعي ترتعش كأنها ترسم مصيري الغامض أو صورتي الباهتة وأن أحاول أن أتقمص دور البطولة في زمن الهزائم. " ( )
إنها المواجهة العنيفة والدامية بين ذات تعصف بها طموحاتها إلى أقصى درجات الخيانة ، ولو تحت عباءة بطولة مزيفة ومرهقة ، من جهة ، وواقع تتكالب فيه آليات الإحباط لتحوله إلى ركام من الهزائم التي لا تنتهي إلا لتبدأ فصول جديدة منها أكثر عنفاً وأقوى تدميراً .
من التناقض الصارخ بين بطولة كسيحة وهزائم ضاغطة ، ينسج الراوي مساءلة كاشفة لتجربة سياسية يصر روادها ، في الرواية ، على تغليفها بالصمت وتحويل مناطق الفشل فيها إلى انتصارات مموهة وعاجزة عن تقديم الأجوبة المقنعة عن أسئلة الواقع ، لأنها كما جاء في الصفحة 53 من الرواية : ( تجربة ضخمت أهدافها لكنها لم يتحقق منها شيء ) ..
وهكذا بقدر ما تكون الرواية استرجاعاً مؤلماً لتفاصيل تلك التجربة والوقوف على أحلامها المجهضة ونتوءاتها البارزة ، بقدر ما هي في العمق محاكمة إبداعية للتجربة ذاتها ، من أجل الكشف عما تحمله في ثناياها من بذور الفشل والانهيار الذي تعبر عنه النهاية المأساوية في الرواية والمجسدة في موت أغلب شخصياتها ، وإن كانت صيغ الموت تختلف من شخصية إلى أخرى .
والمحاكمة التي تنسج وقائعُ الرواية فضاءَها لا ترتبط فقط بتلك التجربة السياسية في بعدها التنظيمي والايديولوجي ، بل يتسع مداها لتبحث لها عن جذور في المرجعية التاريخية المؤطرة لها و التي تختزلها شخصية الفقيه الذي عض على شفته السفلى وهو يتمتم ( ص 15 ) : " قاومنا الاستعمار وطردناه ، وإذا به يمد حباله ليشنقنا بأيدي من ظنناهم إخواناً لنا ، بل إن منهم من لم يجرؤ على سب المستعمر ولو في سره . "
إنها محاكمة لأجيال اجتهدت في ارتكاب الأخطاء لتجد نفسها أمام واقع شرس : لا هي بقادرة على مواجهته لأنها لا تمتلك أدوات المواجهة ... ولا هي بقادرة على الانسحاب لأن منطق التاريخ وإرغاماته لا يسمح لها بذلك ، فتكون تراجيديا الاختيارات بدءاً من عادل الذي تم اعتقاله ، مروراً بعائشة التي أُصيبت بالجنون وانتهاء بعلي الذي أصابته رصاصة افترست ما تبقى في وجدانه من رماد أيام الالتزام وحب الوطن ، ليجد كل واحد نفسه في مواجهة " شوارع حقيقتها الوحيدة : سماؤها " كما جاء في الصفحة 25 .
في الاختيار السردي للرواية :
تقدم رواية " غرف الموت " تراجيديا سقوط التجربة المشار إليها آنفاً من منظور سردي يبدو أن الراوي يتحكم عبره في مصير شخصياته ويعرف عنها كل شيء ، بل ويتجاوز " حدوده " في لقطات سردية متعددة ليجعل الشخصيات تضطر إلى الاعتراف بما لا تود الاعتراف به أصلاً .
وقد ساعد على ذلك الهيكل الدائري للأحداث الذي وظفت فيه الذاكرة بصورة لافتة للنظر ، حيث تتحول الرواية ذاتها إلى مجرد خلاصة لما يتذكره أحمد من خلال قراءته لمذكرات علي التي سماها " على حافة الموت " و التي سيصحح أحمد صيغتها في الصفحة الأخيرة من الرواية ليقول : " إنه الموت ذاته " .
إننا إذن أمام تجربةٍ للكتابةتندرج في إطارما تسميه بعض الدراسات النقدية" نموذج السرد الاستذكاري" ( ) و الذي يعتبر مهيمنة سردية في أغلبية النصوص الروائية ، وذلك لسبب واضح مفاده أن " القصة لكي تروى لابد وأن تكون قد تمت في زمن غير الزمن الحاضر بكل تأكيد ، لأنه من المتعذر حكي قصةٍ أحداثُها لم تكتمل بعد . وهذا ما يفسر ضرورة قيام تباعد معقول بين زمن حدوث القصة وزمن سردها .. "( )
غير أن هذه العودة إلى الماضي في الرواية والتي يمكن أن تنطوي على توظيف مقصود لذلك الماضي ، تجعلنا نتساءل : هل يتحكم فيها مجرد الضرورة الفنية التي يستدعيها متخيل النص الروائي في عرض وبناء وقائعه لتقديم قراءة معينة لتجربة تمت و انتهت في زمن مضى ، .. أم أن هناك هاجساً إيديولوجياً يفرض هذا الاسترجاع ، ولو في صوره المؤلمة ، أو على الأقل في صورته التي انتهت ، من منظور العلاقة المتعارف عليها في تأطير زمن الرواية ، و التي يمكن النظر إليها وفق ثلاثة أزمنة مرجعية هي: ( )
- زمن القصة : هو زمن المادة الحكائية في شكلها ما قبل الخطابي . إنه زمن أحداث القصة في علاقتها بالشخصيات والفواعل ( الزمن الصرفي ) .
- زمن الخطاب : وهو الزمن الذي تعطى فيه القصة زمنيتها الخاصة من خلال الخطاب في إطار العلاقة بين الراوي والمروي له ( الزمن النحوي ) .
- زمن النص : وهو الزمن الذي يتجسد أولاً من خلال الكتابة التي يقوم بها الكاتب في لحظة زمنية مختلفة عن زمن القصة أو الخطاب و التي من خلالها يتجسد الزمنان : إنه " زمن الكتابة " وهو ثانياً ، زمن تلقي النص من لدن القارئ ، في لحظة زمنية مختلفة عن باقي الأزمنة ، وإن كانت تتم من خلالها أيضاً ( زمن القراءة ) . ومن خلال تعالق زمن الكتابة بزمن القراءة نجدنا أمام ما نسميه زمن النص ، كما يتجسد من خلال العلاقة بين الكاتب والقارئ على المستوى الدلالي ( الزمن الدلالي ) .
أردنا من هذا الاستطراد التأشير على أن رواية " غرف الموت " حين اختارت ، سردياً ، الاشتغال على مادة حكائية تنتمي ، من حيث زمنية الإنجاز ، إلى الماضي فإنها توظف تلك المادة لتكون عنواناً صريحاً لحاضر ما تزال تطوقه نفس الأسئلة التي واكبت قلق الشخصيات طوال الوقائع التي شكلت بنية الرواية ، من جهة ، ولتجعل الزمن الدلالي ، من جهة ثانية ، يكشف عن حقيقة جارحة وهي أن مصير تلك الشخصيات ، بكل حمولته المفجعة ، هو مصيرنا جميعاً ما لم نأخذ المسافة الضرورية بين ذواتنا وبين ما يسكنها من أحلام مرشحة لأن تتحول إلى أوهام قاتلة إذا لم يتم وضعها على السكة الحقيقية للتاريخ ، سكة المقاومة المستمرة لكل أشكال المسخ والتشويه والتحريف ...
ولعل حدة التداخل بين أزمنة إنتاج هذا النص الروائي ( زمن القصة زمن الكتابة ) هي التي أدت بمؤلفها إلى القول : " شخوص الرواية سياسيون مغاربة ، وهم باستمرار منفعلون وغاضبون ، لم يتركوا لي فرصة تأملهم ، والحقيقة أنهم قد أزعجوني وحرموني من نكهة التداعي الأدبي التي لم أستطع فرضها إلا في لحظات قليلة لم تتح لي فرصة تأملها.( ) .
في علاقة الرواية بالواقع
أشرنا سابقا إلى أننا بصدد رواية تشتغل في مادتها الحكائية على مرحلة من تاريخ المجتمع المغربي ، بل و على تجربة لها موقعها المتميز في تربة ذلك التاريخ ، فهل هذا يعني أننا بصدد رواية واقعية ؟ .. ألا تشكل الإحالات على أحداث فعلية وبمسمياتها المباشرة إلغاءً للبعد التخييلي المؤطر لجسد النص الروائي ؟.. كيف تتلاءم الحقيقة التاريخية مع الحقيقة الإبداعية من خلال " غرف الموت " ؟..
لعل أول ما يلاحظ هنا - ولو من منظور انطباعي - هو أن علاقة معطيات المتن الروائي ، بمرجعيتها الحقيقية في الواقع تطرح بالفعل إشكالاً مفتوحاً على أكثر من تأويل في اتجاه التأكيد على أن وقائع " غرف الموت " تجد لها امتداداً في التربة التي تحاورها الرواية كجزء من تاريخ المجتمع المغربي . و على الرغم من أن تقريرية بعض المواقف في الرواية تجعلنا نستنتج أنها تحيل على تجارب معينة بذاتها ، فإنه - من مظور خصوصيات الكتابة الإبداعية - لا يمكن أن نفهم ذلك التقابل المرآوي بين النص والواقع إلا بتوظيف ذلك التمييز الذي ترصده الدراسات النقدية في إطار ما تسميه " ثنائية الوهم والتخييل " بحيث يكون " الوهم ( أو التجربة العادية للبشر ) المادة التي يعمل فيها الكاتب ، ولكنه - بعمله فيها - يحولها إلى شيء مختلف ، يمنحها شكلاً محدداً ، وبتثبيتها داخل حدود قصصية ، فإنه يتمكن من التباعد عنها ويكشف لنا عن حدودها فيسهم في تحريرنا من أسر وهمها " ( ) .
وإذا أخذنا بعين الإعتبارهذه الحدود الفاصلة بين مستوييْ الوهم والتخييل ، ألا يكون إذن من حقنا أن نتساءل : هل التجربة السياسية التي تتحدث عنها الرواية هي فقط تجربة المجموعة التي تحيل عليها الرواية في الواقع ، أم أنها تجربة النخبة السياسية المغربية ككل ، و بمختلف أشكال الانتماء لتلك التجربة ، سواء من موقع الفعل المباشر فيها ، أو من موقع الاكتفاء بالصمت والتفرج على الماساة وهي تتشكل ويتسع أخطبوطها في قلب المجتمع ؟ ..
إننا إذ نستحضر مختلف الشخصيات أو القوى الفاعلة في هذه الرواية ( علي - أحمد - بهلول - عائشة - الفقيه - سليمان - قاسم - الحاج سليم ... إلخ .) ، نجد أن التقابلات التي يقدمها النص الروائي بين مواقفها تشكل في عمقها رسماً بيانياً لدرجات التوتر التي يعرفها الوعي السياسي ببلادنا وأشـكال التعامل مع هذا الوعي ، ويكون القفز من مرحلة إلى أخرى - تقدماً أو تراجعاً - تعبيراَ عن الفجوات التي يعاني منها الشعور بالانتماء والتذبذب في ضبظ بوصلة ذلك الشعور ، وهو ما ينطوي في النهاية على ما يمكن تسميته ، بلغة أدبيات النقد الواقعي ، بصراع المصالح ، حيث " يمكن وصف تطور المتن الحكائي بأنه أشبه بمرور من وضعية إلى أخرى ، نظراً لاتصاف كل وضعية بصراع المصالح أو بالصراع بين الشخصيات . إن التطور الجدلي للمتن الحكائي هو نظير السيرورة الاجتماعية والتاريخية التي تقدم كل مرحلة تاريخية جديدة كنتيجة لصراع الطبقات الاجتماعية في المرحلة السالفة " ( ) .
وبما أن الرواية ، عامة ، هي نسق من العلاقات ، بالمعنى الذي يحيل فيه النسق هنا على فكرة الصراع بين التناقضات ، فإن " غرف الموت " تستحضر بوعي ملحوظ ، من حيث بنيتها الإبداعية ، ذلك المفهوم الكولدماني الذي يعتبر الإبداع الروائي " رؤية للعالم " ، أي رؤية تتكون داخل جماعة أو طبقة معينة في احتكاكها بالواقع , وهو المقترب الذي يمكن أن نفهم ونفسر في ضوئه كثيراً من التحولات و الاصطدامات التي تزخر بها تربة الصراع في " غرف الموت " .
لنأخذ مثلاً هذه اللقظة الحوارية الواردة في الصفحة التاسعة :
" كان علي وبجانبه صديقه يمشيان ببطء . توقف علي وهو ينظر حوله ويكاد يصرخ ، فرفع رأسه إلى أعلى وهو يرد :
- الفقر ، الفقراء ... لماذا يمنعوننا من حبهم ويطردوننا . هذا أمر غريب ، أكاد أُجن ..
أوقف بهلول صديقه علي الذي كاد يقفز من مكانه وهو يهمس :
- نحن لسنا قادرين على حل مشـكلة الفقر الآن ، علينا التفكـير في مشاكل الشريحة التي ننتمي إليها الآن . "
إن الصراع إذن توجهه رؤية معينة لها جذورها في سلم الانتماء الاجتماعي ، وتتضح الصورة أكثر إذا عرفنا أن هذا الحوار دار في المراحل الأولى لانتماء علي للتنظيم الطلابي السري ، وبالتالي فالملفوظ الإيديولوجي المعبر عنه في الحوار السابق يعبر عن " رؤية خاصة للعالم " لتلك الشريحة التي ينتمي إليها علي ، من جهة ، وللمرحلة العمرية لعلي وأصدقائه وهم في بداية تكوين التنظيم السري ، من جهة ثانية .
بنية التمزق في رواية " غرف الموت "
يبدو من خلال تتبع مسار وتطور الشخصيات في المتن الحكائي لرواية " غرف الموت " أن الخيط الناظم بين أغلبها هو حضورها القلِق والمثقل بأسئلة الواقع، مما يسمح لنا بالقول بأنها تنتمي لبنية نسميها - مجازاً - بنية القلق والتمزق ، فهي كلها شخصيات تشعر بتصدع داخلي سحيق و تعاني من فراغ مفاجئ في سيرورة حياتها مما يجعلها تعيش مأساة مزدوجة : إنها ضائعة ، من جهة ، وواعية بضياعها ، من جهة ثانية .
وهكذا فمنذ الجملة الأولى من الصفحة الأولى من النص الروائي تواجهنا لحظة التوتر القاتلة التي سيعايش البطل / الأبطال لعنتها الصاخبة حتى آخر سطر من الرواية ... إنه الضياع المطلق . يقول الراوي :
" دخل الغرفة مشدوشاً إلى كل شيء ، يبحث عن شيء ضائع منه منذ سنين طويلة ، ينظر دون أن يرى وكأن بصره ينجذب إلى كل الجهات ." ( ص : 3 )
فعن أي شيء يتم البحث بالضبط ؟ ... أين تكمن مأساة هذا الضياع ؟ .. هل هو ضياع فردي أم أنه ضياع جماعي ؟.. وضمن أي شبكة من العلاقات الاجتماعية و التاريخية تتفاعل عناصر هذا الضياع ؟ ..
إنها أسئلة مفتوحة .. ولا شك أن قراءة خطية للرواية ستفتح إمكانية استنتـاج صيـغة ثـلاثية لواقـعة الضياع و التي يمكن تقديمها انطلاقاً من الجملة الأولى في النص والمشار إليها آنفاً كما يلي :
* ضياع في الزمان : " منذ سنسن طويلة ".
* ضياع في المكان : " إنه ينجذب إلى كل الجهات " .
* ضياع في الذات : " إنه ينظر دون أن يرى " ( التقابل بين النظر والرؤية ) .
ومن تجليات هذا الضياع ضمن ما سميناه " بنية القلق و التمزق " كون أول لقاء تقدمه لنا الرواية بين شخصيتين محوريتين ( علي وأحمد ) ، يتم خارج الوطن ، أي خارج التربة الحقيقية للصراع ، وبالتالي خارج مقومات الانتماء . ويبدو أن الفاعل الأساسي في التمزق الذي تعاني منه الشخصيات كلها ، هو ذلك الإحساس الداخلي الرهيب بالذنب : إنها شخصيات مهزوزة ( إذا استثنينا سميرة و إلى حد ما عادل ) ... شخصيات تشعر بالإثم والعراء يسكنها ، وبالتالي تكون كل اختياراتها ومواقفها محاولة مضنية للتخفيف من وطأة ذلك الإحساس .
فإذا تتبعنا مسار حياة علي نجد تحولات / ثغرات كثيرة تملأ اختياراته : فهو شاب طالب التحق بالجامعة ، ليس فقط للدراسة ولكن أيضاً هرباً من الغرفة الضيقة التي تسكنها عائلته و التي لم تعد تتسع لهم جميعاً ( كما جاء في الصفحة السابعة ) ... ينتمي لإحدى الحركات الطلابية اليسارية السرية ، يتنصل تدريجياً من انتمائه السياسي ، يترشح للإنتخابات ويصبح نائباً برلمانياً . وهنا بالضبط تبدأ معاناته وتمزقه بين ما كان يؤمن به وبين ما أصبح يمارسه وهو غير مقتنع به في العمق ، ومن تم فقد زمام التحكم في مصيره وأصبحت سلوكاته تعبيراً عن تكثيف مزمن لعناصر التمزق : فهو" يتعاطف " مع الحركات الإسلامية ، بل وينسق مع زعيمها في البرلمان بالنهار ... وفي المقابل يقضي الليل مخموراً مع نجلاء في إحدى الحانات الليلية ( ص: 125) ... إنها شخصية أزَّمها اختيارُها الفاشل ، شخصية تهرب باستمرار ، وبشكل لولبي ، من واقعها بل ومن ذاتها ( جاء في الرواية : امتعض علي وبدا كأنه يستعد للتهرب حتى من نفسه ) .. وفي طريق محاولته الهروب يحطم كل شيء ويتنكر لكل شيء : فقد تخلى عن مبادئه و تخلى عن زوجته وتخلى عن ابنه الذي مات قبل أن يولد وتخلى عن المنزل الذي جمعته فيه أواصر الانتماء السياسي مع رفاقه ، وكان شاهداً على مقتل أحد أصدقائه القدامى في التنظيم .
ومن الملاحظ أن علي كان يحمل معه بذرة تدمير ذاته منذ البداية : فقد تحاملت عليه زوجة أبيه وطُرد حين قام بزيارة أهله ، فازداد حقداً على المجتمع ( ص: 9)... و هو يتحرك تحت وطأة طفولة مؤلمة ، إذ " لم يسمع في حياته ، بل ومنذ طفولته كلمة حنان أو ود . لم يعرف من معجم الحياة غير الكلمات الجارحة والألفاظ المبكية " ( ص: 12 ) . ورغبة منه في الانتقام من هذا الماضي يبحث عن صيغة أخرى للإنتماء. وفي هذا الإطار يلاحظ أن انخراطه في المعركة الطلابية كان متسرعاً . وقد حكم عليه أحمد وبهلول منذ أن ارتبط بهم بالقول : " لننتظر قليلاً .. فالبداية المفاجئة تنتهي دائماً بكارثة " ( ص: 9 ) .
ولذلك لم يكن غريباً أن يصل في نهاية المطاف إلى الحالة التي أصبح فيها تائهاً ممزقاً بين اختيارات متعددة . يقول علي : " تمنيت أن أفقد ذاكرتي وأعود إلى الطفولة خالياً من كل شيء ، لأختار مصيراً آخر ورفيقاً واحداً : المرأة أو السياسة حتى لا تفترس إحداهما الأخرى " ( ص: 139 ).
إن " غرف الموت " تبقى ، من حيث عمق القضايا التي تطرحها ، منتمية لأرضية الصراع السياسي والإيديولوجي الذي يعرفه المجتمع المغربي وبذلك تبقى وفية للدور الذي تلعبه الكتابة الروائية في تعبيرها عن ايديولوجيا الواقع ، شريطة أن نستحضر كون " الرواية لا تعكس ايديولوجيات الواقع ، ولكنها على الأصح تندرج هي نفسها في الحقل الإيديولوجي لأنها مغامرة فكرية في خضم الصراع الإنساني ، وهي تقوم في هذه الحالة بمهمة مزدوجة : توظف الإيديولوجيات وتقتحم عالم الصراع الإيديولوجي أو البحث المعرفي ، وهي فوق ذلك كله تختلف عن الإيديولوجيا لأنها تملك في الوقت نفسه قوة تأثير ما هو إبداعي ." ( )
ولأنه كان يعيش في كل لحظة موتأ رمزياً مصاحباً له ، فإنه أمام وطأة الإحساس بالذنب لم يكن هناك بد من أن يصرخ ، محاولاً إرضاء - أو على الأقل ترميم - ما تبقى لديه من ذكريات الرفاق القدامى ، فيقول، بنبرة تبريرية يائسة:
" ... أنا لم أتخل عن مبادئي ، لكنني قررت الدفاع عنها والتعريف بها حتى من داخل البرلمان ، فلابد من تنويع أشكال العمل . " ( ص: 79 )... . وبالطبع سينوع أشكال العمل إلى الحد الذي عين فيه سفيراً في دولة أجنبية . ( )
على نفس الموجة من الضياع والتمزق نجد الشخصيات الأخرى تحيا تمزقها بصيغ متباينة :
* فعائشة تصاب بالجنون بعد أن تخلى عنها علي البرلماني وتركها في القرية ضحية لامبالاة قاتلة ، رغم أنها كانت مستعدة لأن تضحي بكل شيء من أجل حبها له . لقد أخطأت اختيارها منذ البداية فتحولت جمرة حبها لعلي وحماسها للإرتباط الأبدي به إلى حريق قتل في الرحم بذرة ذلك الحب ، من جهة ، وقذف بها في متاهات الجنون اللامتناهية ، من جهة ثانية ..
* وأحمد تعرض بدوره لتحولٍ خطير في حياته . وقد عبر علي عن ذلك التحول وهو يخاطب أحمد بقوله : " لم أتصور يا أحمد أنك ستضعف إلى هذا الحد ، فقد كنتُ قبل قليل أخجلُ حين أراك وأحس بالذنب لأنك كنت تمثل ذاكرة لي وللكثيرين من الأصدقاء إلى حد أننا ربطنا اسمك بمرحلة تاريخية .
ظل أحمد هادئاً ، أشعل سجارته وهو تائه كمن فقد هويته ." ( ص: 17 ) .
وستكون نهاية أحمد أكثر مأساوية ، إذ سيكون شاهداً مباشراً على مقتل صديقه علي . وفي محاولة منه للهروب من هذا الموقف الذي دمر جزءاً مهماًّ من حاضره وماضيه يقرر الرجوع إلى الوطن ، غير أن هذه الإمكانية بدورها تتعذر بسبب إغلاق الحدود بين شرق وغرب الوطن ، فالحرب الأهلية قائمة ، وبذلك تتعمق مظاهر التمزق لديه ليُحكم عليه بالبقاء خارج الوطن ويعيش ضياعاً مزدوجاً : ضياع مطلق على مستوى الجغرافيا وضياع مُتْعِب على مستوى الفكر .
ولعل سميرة ، بكل ما تحمله من رموز ودلالات في الرواية ، هي التي لم تترك فرصة كبيرة لينهشها التمزق ، على الرغم من أن معاناتها كانت عميقة ، ولذلك تبقى نقطة ضوء في مسلسل الهزائم المتتالية التي توقعها باقي الشخصيات .. إنها " صامدة ولو تآكلت .. إنها تواجه مصيراً محتوماً .. إنها تمارس صمودها وانتماءها مصرة على الاستمرار إلى ما لا نهاية . " ( ص: 19 ) .
أخيراً ..
يمكن القول بأن الصراع الذي تتشكل وقائعه في رواية " غرف الموت " ، بغض النظر عن محركاته من حيث الانتماء الاجتماعي ، هو صراع بين رؤى مختلفة - وإن كان يبدو عليها التجانس على مستوى السطح - .. صراع بين رؤية بهلول الذي آمن ، بصورة مطلقة ، بأن خلاص المجتمع يبقى في عدم التنكر للمبادئ و في العمل على الدفع بها إلى منتهاها الضروري .. وبين رؤية علي الذي أرغمه تمزقه الداخلي : تمزق الوجدان والفكر .. تمزق الفعل والذاكرة ..تمزق الاختيار والإرادة .. أرغمه هذا التمزق المفعم بالمرارة على القبول باختيارات تتناقض كلية مع المبادئ التي آمن بها ، مما حوَّل حياته إلى دوامة من الإحباطات التي تنتهي نهاية مأساوية بعد أن أصابته رصاصة في عنقه .. رصاصة يقول أحد المحققين أنهم لم يستطيعوا " تحديد المكان الذي أُطلِقت منه " ، ولكن المسكوت عنه في الرواية يقول بأن الرصاصة أُطلِقت بعد أن تمَّ التفكير في العودة إلى معترك الصراع وليحدث ما يحدث ...
.. وفعلاً حدث الذي حدث : فقد اغتيل علي ليبقى السؤالُ مستفزاً ، ماكراً وعنيفاً :
- ترى أيهما مات حقاً : هل علي الذي خان مبادئه واستقطبته إغراءات الواقع وارتمى في أحضان السلطة ليصبح جزءاً من بنيتها (؟( .... أم علي الذي تعب من تخمة الخيانة فاستيقظتْ فيه فجأة ظلالُ ضميره وعـرَّته أمام مرآة الذات ليجد نفسه يقول :
" تمنيت أن أتحول إلى ذرة رمل فوق أرض وطني أتيه وأتراكم كما الأشياء ، سأعود إلى وطني يوماً ، سأعود إلى وطني بعد أن تنكسر قلوب محتليه وتقذف بهم أيادي الحرية إلى البحر . " ( ص: 141 ) .
... وبين اسيقاظ الوعي والرغبة في اعتناق الوطن ، من جهة ، وسرعة الرصاصة التي اخترقت نسيج ذلك الحلم الجارف واغتالت علي ، من جهة ثانية ، تدافع الرواية عن اختيارها فتقول بلسان أحمد :
ومع ذلك فإن الحرية لن تتوقف وأنها جديرة بكل هذا الحب .. " ( ص: 18 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
- حميد المصباحي : " غرف الموت " ( رواية ) - الطبعة الأولى - صيف 1997 . طبع أدميس كرافيك - الرباط .
- يذكرنا هذا " المناخ" بتقاطع مع ما جاء في قصة "العين والنافذة " لمحمد الهرادي ضمن مجموعته القصصية " اللوز المر " - طبعة دمشق -1980 ، حيث نقتطف ما يلي : ( مازال المناضل يتفحص أوراقه ، وربما يمثل دور من يجر أحلاماً مهزومة ) .
- حسن بحراوي : بنية الشكل الروائي .الطبعة الأولى - 1990 - المركز الثقافي العربي - بيروت - الدارالبيضاء-
ص : 11 .
- المرجع السابق ..... ص : 121 .
- سعيد يقطين : انفتاح النص الروائي - المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى / 1989 - بيروت - الدارالبيضاء . .... ص : 49 .
- حميد المصباحي : من حوار أجرته معه مجلة " الاستمرار " التي يصدرها تنظيم حزب الطليعة بالمحمدية - العدد الخامس - دجنبر 1997 . ص : 23
- تيري إيجلتون : الماركسية والنقد الأدبي - ترجمة جابر عصفور - منشورات عيون / الدارالبيضاء 1986 -
ص : 26 .
- توما تشيفسكي / عن : نظرية المنهج الشكلي - ترجمة إبراهيم الخطيب - مؤسسة الأبحاث العربية - الطبعة الثانية . 983 - ص: 185.
- د. حميد لحمداني : النقد الروائي والإيديولوجي -الطبعة 1 - المركز الثقافي العربي - بيروت / غشت 1990 .
ص: 43 .
- إن هذا الانهيار في سلم الانتماء وتغير وجهته نجده مبثوتاً في أكثر من نص روائي مغربي ، وهو ما يسمح لنا مثلاً بإجراء تقابل بين شخصية علي في " غرف الموت " وشخصية " شعيب" في " الغربة " لعبدالله العروي ، شعيب الذي كان يمثل إيديولوجية المناضل الوطني الفاشل ، وعندما خاب في نضاله انطوى على نفسه وأصبح سلبياً بالنسبة للمجتمع .
( أنظر : حسن بحراوي / بنية الشكل الروائي . )
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان السوري باسل خياط: فخور كوني سورياً.. وحتى الآن لا أصد
.. الفنان السوري باسل خياط لـ-العربية-: تعرضت لمحاولات كثيرة من
.. أفضل ما قطر في 2024: الفنون البصرية والعجائب المعمارية والري
.. أحمد رزق ووفاء عامر .. الفنانون يواسون بدرية طلبة فى وفاة زو
.. كيف تفاعل مشاهير وفنانو سوريا مع سقوط بشار الأسد؟ | هاشتاغات