الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحق الطبيعي والحق المدني: مداخل مختصرة في علاقة ملتبسة

المهدي لحمامد
(Mehdi Lohmemad)

2016 / 4 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن انبثاق ما عرف بالأزمنة الحديثة Les Temps Modernes في نهاية القرن 15 وبداية القرن 16 نتيجة اكتشاف العالم الجديد (أمريكا)، وكذا سلسة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية لعصر النهضة، بالإضافة إلى الإصلاح الديني المتأثر بأفكار الحركة الإنسية، مهد الطريق إلى التقليص شيئاً فشيئاً من فكرة الحق الإلهي التي كانت تجد شرعيتها في أوربا القرون الوسطى والتي استندت إليها مجمل الأعمال الفلسفية آنذاك. وبذلك استطاع العديد من الفلاسفة اللاحقين وفي مقدمتهم ماكيافيل N. Machiavel من مساءلة هذه الشرعية التي كان يحوزها مُلاّك الحق الإلهي، وإن كان ذلك بشيء من التحفظ والبراغماتية (العملية)، وتتجسد أهمية الطرح الماكيافيلي في هذا الاتجاه كونه استطاع أن يخطوا الخطوات الأولى في إرساء ما سيعرف لاحقا بالسياسة الواقعية والتي تجد امتداداتها الواضحة وراهنيتها إلى حدود اليوم، ذلك أن ماكيافيل عمل على دراسة السلطة التي يمارسها الطاغية باعتبارها عملية مُحايِثة Immanent للعالم وليست خارجة عنه. والأكيد أن التنظير في مجال الحق قد اتجه أكثر فأكثر فيما بعد نحو إرساء مفهوم الحق الطبيعي خصوصاً مع باروخ سبينوزا، توماس هوبز، جون جاك روسو وجون لوك...
فإذا كان هوبز ينطلق من مراجعة تاريخية مفادها أن الإنسان عاش مرحلة من العنف والصراع الدائم سمّاها "حرب الكل ضد الكل"، فإن الحل حسبه هو استبدال هذا العنف بعنف آخر فوق الجميع يجعل الأفراد كلهم يرضخون له دون استثناء والمتمثل في "اللّوفياتان leviathan" (عنوان كتاب هوبز) حيث يتنازل الأفراد عن حقوقهم لصالح عقد اجتماعي يتم بمقتضاه ضمان الإرادة العامة والسلم الاجتماعي. ومع أن جون جاك روسو قد سار في نفس الاتجاه إلا أنه يستند لمراجعة تاريخية مختلفة ضمّنها في كتابه "أصل التفاوت بين الناس".
والحال أن التفكير من خلال ما يمكن أن نسميه "باراديغم الحق الطبيعي" لم يبدأ إلا بعد مخاض عسير أُفْقِد فيه الحق الإلهي شرعيته لصالح الحق الطبيعي باعتبار هذا الأخير يتضمن جملة من الحقوق الأساسية، الأصلية، والتي لا تفاوض حولها، ولا يمكن التنازل عنها كونها حقوق يكتسبها الإنسان بمعزِل واستقلال عن كل شيء (مؤسسات، جماعات، قرابة...). وعلى هذا الأساس جاز لنا القول أن التنظيرات الأولى في مجال الحق الطبيعي فسحت المجال لتنظيرات أكثر تطوراً، تلكم المتعلقة بالحق المدني.
والحقيقة أن تناولنا لهذه العلاقة الشائكة بين الحق الطبيعي والحق المدني يجعلنا أحوج ما نكون إلى طرح السؤال وإعادة طرحه حول الشكل التنظيمي الذي تم من خلاله تقعيد الحق الطبيعي، أو دعني أقول الشكل الذي تَرَتّب فيه الحق الطبيعي ضمن باراديغم الحق المدني. إذا جاز لنا أن ندقّق في هذه العلاقة فيمكننا أن نجد بداية أنها علاقة إخضاع الحقوق الطبيعية المتمثلة أساساً في حق البقاء أو العيش وما يتبعه أم ما يترتّب عنه من حقوق، إلى تقعيد اجتماعي وأخلاقي وقانوني، أي بشكل من الأشكال عملية تمدين La civilisation الحق الطبيعي على اعتبار أنه معطى عام يستند إلى مسلمة مجردة تتمثل في حرية الفعل والقول. فانتقال الحق الطبيعي إلى مجال "المدنية" لا يتم إلا بعد نحت مفاهيم جديدة من قبيل الشرعية، الحرية، القانون، العدالة، المساواة، الإنصاف... وكذا إعادة التفكير في مجمل المفاهيم المشكّلة لنموذج التحليل الذي يستند إليه الحق الطبيعي.
ويبدوا في هذا الاتجاه أن عودتنا للطرح الكانطي - وإن كانت مخلّة بميتودولوجيا التأصيل الفلسفي - من الأهمية بمكان، حيث أن هذا الأخير بقدر ما كان صورياً متعالياً عن الواقع وذلك من خلال اعتباره الحق يسير جنباً إلى جنب وفق قانون كوني للحرية أي بالموازاة مع الواجب الأخلاقي، بقدر ما عبّر عن طبيعة هذه العلاقة الملتبسة بين كلا الحقّين، ذلك أن مشروع كانط للسلام الدائم كان مستنداً إلى تصور قبلي للعلاقة بين الطبيعة والمدينة، ولكن هذه العلاقة - حسب كانط دائما - تستند إلى شرط أخلاقي ولا تحتكم إلى الإلزام، وهو ما كان محلّ نقدٍ من طرف العديد من الفلاسفة نذكر منهم جاك دريدا J. Derrida الذي علّق على هذه المسألة بالقول أن الحق لا يكتسب صرامته إلا عندما يكون مُلزماً، وأيضا حينما يربط بين الإلزام المتبادل كونياً وحرية كل واحدٍ وفق قانون كوني خارجي أي طبيعي، وهذه القيمة الخارجية للحق تميزه عن الأخلاق، فالحق لا يتوفر على جانب داخلي لأن موضوعاته مطالبة بالتجلي خارجيا.
وهنا نتساءل في معرض الحديث عن هذه العلاقة غائرة الأبعاد، أليست العلاقة بين الحق الطبيعي والحق المدني هي نفسها التي يعبِّر عنها الانتقال من الحق إلى القانون ؟ ونضيف هنا أن الإعلان الذي تمخض غداة الثورة الفرنسية 1789 يمنح لهذا السؤال أحقّيته في الطرح خصوصاً وأنه قد مكنّ من إقرار العديد من الحقوق الطبيعية عبر إدماجها في "سيرورة المدنية" التي كانت جارية آنذاك على جميع الأصعدة، ومثال ذلك المادة 11 من إعلان 1789 كون "حرية تبادل الأفكار والآراء هي أثمن حق من بين حقوق الإنسان" . ويبدو أن أندري لالاند يوافق مبدئيا على هذا المضمون القانوني المتعلق بالحق المدني حين قدم تعريفه للحق Recht/ Right/ Droit باعتباره ما يكون مطابقاً لقاعدة محددة.
الأكيد أن هذه العلاقة التي نحن بصددها قد أخذت أبعاد أكثر تجريداً مع هيجل بحيث انعدمت حدودها، وأصبح الحق الطبيعي والحق المدني كلاهما متجسدين في الديالكتيك الذي بلغ أوجه مع الدولة البروسية، التي رسمت معالم ما يسميه هيجل "بزوغ الشمس الأبدي". بل إن هذه العلاقة في مراحل لاحقة قد تم تجاوزها مع كارل ماركس K. Marx مثلا كونها شكلية وتخفي أبعاداً طبقية، ومن ثم فمساءلة جذورها باعتماد مراجعة تاريخية قائمة على المادية التاريخية أفقدت كل معنى لوظيفة كل تلك الحقوق على اعتبار أنها في واقع الأمر دافعت عن الوضعية المادية للطبقات المسيطرة، وهنا يطرح ماركس السؤال حول ما الحاجة الفعلية لحق الحرية بالنسبة للذي يوجد في علاقة تبعية كلية لرب عمله؟ وما جدوى الحق في الملكية بالنسبة لمن يعيش على الحد الأدنى لشروط العيش التي تمنحها الطبقة المُسيطرة ؟ أو ما الحاجة للحق في العمل لمن لا يمكن له أن يجد عملا ؟ وبالتالي فماركس يمنح للعلاقة بين كل هذه الحقوق بعداً مادياً اجتماعيا يتمثل في مجموع العلاقات الاجتماعية ويتجاوز التعريف والعلاقة التجريدية (المثالية) المرتبطة بالفرد المعزول، وبالتالي فما ينبغي تجاوزه حسب ماركس هو في واقع الأمر مفهوم الحق في الحد ذاته، ولكن ليس عبر استبداله بالواجب كما رأى ذلك أوجست كونت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتلة مخدّرون أم حراس للعدالة؟.. الحشاشين وأسرار أول تنظيم لل


.. وكالة رويترز: قطر تدرس مستقبل المكتب السياسي لحركة حماس في أ




.. أوكرانيا تستهدف القرم.. كيف غيّرت الصواريخ معادلة الحرب؟| #ا


.. وصول وفدين من حماس وقطر إلى القاهرة سعيا لاستكمال المفاوضات




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - وفد من حماس يصل إلى القاهرة لاستكم