الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحاجّة في القرآن

الحسين الطاهر

2016 / 4 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مقدمة:
ظهر القرآن قبل اربعة عشر قرنا في منطقة لم يكن لاهلها حظ وافر من التعليم او الثقافة. و حيثُ ان المخاطِب و المخاطَب كانا متقاربينِ في مستواهما الحضاري البسيط، فربما لم يلاحظ -حينها- احد منهما المشاكلَ المعرفية التي في القرآن مما قد يُلاحظه ابنُ حضارتِنا. و ربما لاحظها البعض، و كانت ملاحظتهم سببا في عدم ايمانهم و قلّة عدد المسلمين، قبل ان تُسلم يثرب لاسباب سياسية اجتماعية -حسب السيرة- فيؤسس المسلمون قوة عسكرية غالبة*1؛ فبعض هذه المشاكل تتعلّق بكيفية الاقناع، اي بالطريقة التي أتُّبِعت و الحِجج التي سيقت في القرآن، لاقناع الناس بوجهات نظر دين التوحيدِ الجديد*2.

نستطيع تناول أمثلة بسيطة من آيات القرآن، نستشفُّ منها وجهة نظر أهل مكة و نَتَّبع طريقة محاورة القرآن لهم. و لا ننسى انه اذا أُريدَ لحجج القرآن ان تُستعملَ في الحوار عند مجتمع معقّد حضاريا كمجتمعنا اليوم، فعلى اصحابها ان يُسايروا مستوى التعقيد الفكري الحالي فينبذون "طريقة القرآن" في المحاجة و حججه المستخدمة في المُحاورة، الى طريقة معاصرة تُناسبُ اليوم و تصلحُ له، مهملةً ادواتٍ لا تصلحُ لوقتنا مهما أصرّ البعضُ فكرروا عبارة "دائمة الصلاحية" اي انها "تصلح لكل زمان و مكان"*3.
لن نتناول هنا مسألة مدى توافق القرآن مع العلم الحديث، او مع "الحقيقة" كما قد يستدلّ عليها الفلاسفة. لكننا سنناقش افكارا وردت في القرآن بحججٍ من نفس النمط الذي استخدمه القرآن في مجادلاته. و لن يحصر هذا المقال القصير كل ما يمكن ان يُقال، لكنه سيطرح فكرةً معيّنة تُفهَمُ عبر امثلة مُنتقاة، نستدلُّ بها و ان لم نحصرها.


عن النبي ابراهيم:
نذكرُ مما حكى القرآن عن النبي ابراهيم قصتين. تتعلّق الاولى بهدم ابراهيم للاصنام، حين قام بتحطيم اصنام قومه و لمّا جاءوا يسألوه عن ذلك اتّهمَ كبير آلهتهم بفعل ذلك، و تحدّاهم ان يسألوا الاصنام عن الأمر معرّضا بعدم قدرة الاصنام على النطق [الانبياء 57-63]. و نعلمُ - كما لا بدّ ان ابراهيم و محمد كانا يعلمان- ان الاصنام ليست الا صورا تحلّ فيها أرواح الآلهة او بركتها، و حيث ان لكل اله عراقي قديم تماثيل عدّة (هي اصنام قوم ابراهيم) في معابد عديدة، مُعترفٌ بقدسيتها كلها من قِبَل الجميع، فلا نتوقّع ان يعتقدَ سكان العراق الاقدمين ان "الصنم" هو الاله بذاته و شخصه، و لم يكن استفتاؤهم للآلهة الا كمثلِ "الاستخارة" عند المسلمين اليوم*4. فالمسلمُ يقوم بطقوس معيّنة ثم يسأل الله و يتوقع من الله ان يجيبه، و طريقة الله في الاجابة قد تكون انشراحا في القلب -ربما يتخيّله المُستخير- او فتح القرآن على صفحة معيّنة و تفسير ما فيها من كلام -و ربما تكون اللعبة هنا لعبة للصدفة- .

ان تحطيم ابراهيم للاصنام ليس قتلا للآلهة وفق اعتقاد العراقيين القدماء، و لم يؤمن هؤلاء بأن آلهتهم تُجيب السائل ان سأل، الا بالطريقة التي يؤمن بها المسلمون اليوم بنفس الأمر. و ان قيل: كيف لا تردّ الآلهة على المعتدي على قدسيتها ان كانت موجودة حقا؟! فالجواب لن يكون الا قصة من نوع قصة القرامطة و الكعبة، و كيف سكت الله عن الاعتداء على حرمة بيته*5.
وجدنا ان ابراهيم يحتجّ على المشركين بأن آلهتهم لا ترُدُّ ان كلموها، و لا تُجيب ان سألوها، فدلّل بذلك على انها لا وجود لها. و لا نستطيع منع انفسنا من التساؤل: هل سيجيبُ الله -اله ابراهيم؛ اله القرآن- سؤالك او سيردُّ عليك جوابا ان كلّمته او استفتيته؟

اما القصة الثانية عن ابراهيم، فتتعلّق به و بالذي حاجّه في ربّه، و هو وفق التراث: النمرود الذي ادعى الالوهية. تقول القصة القرآنية ان ابراهيم قال للملك ان الله هو الذي يُحيي و يميت، فردّ عليه الملك بأنه هو مَن يُحيي و يُميت؛ حيث انه -كما جاء على لسانه في التراث الاسلامي- يستطيعُ قتل اي رجل يُريد فيأخذ منه الحياة كما يستطيع العفو عن اي شخص محكوم بالاعدام فيهبه الحياة، فرجع ابراهيم -في القرآن- يحتجُّ بأن الله هو من يأتي بالشمس من المشرق، متحدّيا الملك ان يأتي بها من المغرب، فبُهت الملك و لم يحر جوابا [البقرة 258]. و ان اهملنا الحقيقة التي تقول ان لا ملك من ملوك العراق القديم ادعى السيطرة على "حركة" الشمس اصلا، بل كانت هذه هي مهمّة أوتو السومري المعروف باسمه الأكدي "شمش" على الدوام، فاننا لا نستطيع ان نهمل السؤال الذي يخطر على بالنا: و من قال بان رب ابراهيم هو الذي يأتي بالشمس من المشرق؟ فلماذا لم يدّعي الملك انه هو من يأتي بها من المشرق و يتحدّى اله ابراهيم بأن يأتي بها من المغرب؟ فهل كان الله حينها موقفا دوران الارض ثم عاكسا اتجاهه، مُنهيا الحياة على الكوكب -و هي نتيجة طبيعية ان انعكس فجأة اتجاه دوران الارض التي تلفّ على محورها بسرعة 1600 كم-ساعة تقريبا عند خط الاستواء- ؟
استعمل ابراهيم حجة مع الملك الذي الّه نفسه لو استعملناها مع الله لنتجت نفس النتيجة، فيا تُرى أيحق لنا ان نسأل السؤال التالي: ان شمش يأتي بالشمس من المشرق فان كان الله الها حقا فليأت بها من المغرب؟ و هل سيبهت عباد الله فنطالبهم بالايمان بشمش؟


النبي محمد و المعجزات:
اذا تجاهلنا ما ورد من معجزات نسبت للرسول في التراث الاسلامي، و ما قيل عن ان القرآن نفسه هو معجزة الرسول الكبرى، فأن ما جاء في آيات القرآن ينفي ان تكون للرسول معجزات ماديّة قام بها على غرار من سبَقه من الانبياء. جاءت قصص كثيرة في القرآن تحكي عن معجزات الانبياء السابقين، من موسى الى هود، و من عيسى الى صالح، فلما طلبت قريش من محمد ان يثبت نبوّته بمعجزة اجابهم بالرفض لان الله يعلم انهم لن يؤمنوا حتى لو فُتح لهم باب يدخلون منه الى السماء ليروا بأعينهم ما يخبرهم به النبي محمد [الحجر 14]. و حين اصرّت قريش على طلب المعجزة رفض القرآن ذلك بحجّة ان الاقوام التي سبقتهم كذّبت بالمعجزات حين ارسل الله الانبياء بها [الاسراء 59]. و مع رفض قريش للاسلام و طلبهم ان يعذّبهم الله كما عذّب من قَبلهم - حسبما يروي القرآن - ان كان دين محمد حقا، فكثيرا ما روى القرآن ان الاقوام السابقة طلبت المعجزة فأعطاهم الله ما طلبوا، و لمّا لم يؤمنوا عذّبهم بكفرهم، نقول مع طلب قريش للعذاب عارضهم القرآن بحجّة ان الله لن يعذب قريش ما دام محمد يعيش بينهم [الانفال 33].

هل نستطيع الا ان نتساءل ان كان ما يدلّ على نبوة الانبياء هو معجزاتهم، فكيف يرفض الله ان يعطي آخر الانبياء معجزة ماديّة طلبها قومه منه؟! فقد ارادوا معجزة من محمد و كان ردّ القرآن انهم لن يؤمنوا حتى لو استجاب لهم النبي ! فان كان الله يحكم بعلمه الازلي فما الهدف من وراء ارسال الانبياء؟ بل ما الهدف من وراء الحياة الدنيا باعتبارها اختبارا للبشر ؟!
و حين كانت حجّة رفض اعطاء المعجزة هي تكذيب من سبق بها، فهل آمن فرعون بمعجزات موسى؟! هل آمن قوم صالح بناقته المُعجزة؟! و هل آمن اليهود بمعجزات المسيح؟! لم يؤمن احد بالمعجزات فاستحقوا العذاب بتكذيبهم لها، فما الفرق بين قريش و من سبقها من الاقوام؟ و اين "العدل الالهي المطلق" اذا هو فرّق بين الامم و الشعوب؟ ام ان الله لم يكن يعلم ان الامم السابقة ستكذّب انبياءه و سترفضُ معجزاتهم، و لم يستطع "توقّع" التكذيب و الرفض الا مع قريش حيث تعلّم من كل تجاربه الماضية الفاشلة؟
و اخيرا اخبر الله قريشا بانه لن يعذّبهم ما دام محمد -و المسلمون- فيهم و بينهم، و لا ادري ما العذاب الذي حلّ بقريش بعد حدث الهجرة الى المدينة؟ و نعود الى التأكيد على الاختلاف و عدم التناسق المنطقي بين ما روى القرآن من روايات عن الامم السابقة و بين ما استعمله من حجج للردّ على قريش، بما يتعلّق بهذه الجزئية.


لا اله الا الله:
يقول القرآن باستحالة وجود آلهة غير الله، فلو كان في السماوات و الارض اكثر من اله لعمّ الفساد بسبب الاختلاف المحتوم بين هذه الآلهة [الانبياء 22]. و هذه حجّة ضعيفة من اكثر من ناحية، و لا ندري ان كانت قريش قد تجاهلتها ام انها ردّت عليها بحكم ايمانها بتعدد الآلهة مع مشاهدتها عيانا لغلبة النظام على الكون. اما نحن فلنتناول هذه الحجة وفق سيناريوات نفرضها فنسير معها لنرى نتائجها.

لو كانت هناك آلهة كثيرة فربما كان لها اله أعلى تحتكِمُ اليه عند الخلاف و تقفُ عند حكمه بلا معارضة، بغير ان تنفي عظمته وجودها كآلهة. فحين كان "آن" كبير آلهة السومريين يُحكمُ سيطرته، لم يقلل ذلك من نفوذ الاله "انكي" على المياه العذبة، و لم يقلل من سيطرة "انانا" على خصوبة الارض، فلكل منهما مجال عمله، و ليس لـ "آن" سيطرة مباشرة على الخصب او المياه على الرغم من تحكّمه النظري بالالهين. كما ان الوقت الطويل الذي قضته انانا تعمل مع "زميلها" انكي لا شكّ ساهمَ في تقليل الخلاف بينهما و ايجاد طريقة مناسبة لحلّه حتى لا يحلّ الدمار في الكون و لا يعمّ الفساد. و نستطيع -اذن- صياغة "الفرضية" بالقول ان البشر كلّما اتسع مجال تفكيرهم و كثر تعاملهم مع غيرهم و طالت مدّة احتكاكهم بالآخرين، كلّما قلّت خلافاتهم او عرفوا -على الاقل- كيف يقومون بحلّها ان نشبت، فنرى الطفل الصغير يتشابك بالايدي و الارجل مع من هبّ و دبّ اذا ما اختلف معه، فاذا كبُر قلّ عراكه جسديا و اتجه نحو اساليب اخرى يحلّ بها خلافاته، و اذا ما كبُر و شبّ ثم شاب عرِف كيف يمنع العراك قبل ان ينشب، و كيف يتجنّب الخلاف قبل ان يستفحل. فما بالك بآلهة مجال تفكيرها اوسع من البشر بما لا يُقاس، قضت مع بعضها عُمرا بدأ مع بداية الزمان، و احتكّت ببعضها مرارا و تكرارا؟ اليس من المنطقي القول ان خلافاتهم -ان وجدت- فمحدودة، و انهم -لا شك- توصّلوا الى حلّها بطرق ترضيهم جميعا مع تكرار التجارب و تراكم الخبرات؟!

هذا مع تمسّكنا بالفرض الذي يقول ان "الفساد" بعيدٌ عن هذا الكون. لكن ماذا عن كل مظاهر الفساد التي نراها؟ قد يفترض البعض ان الاله الواحد الخيّر لا يُمكنُ ان يخلق كونا به هذا الكم الهائل من المشاكل و الشر. و ان كل زلزال يهدم بيوتنا، و كل عاصفة تمرّ بنا، و كل فيضان يجرفُ سياراتنا، بل ان كل الامراض و الموت و الحروب، ما هي الا خلاف ينشب بين آلهة لا تعنيها مصلحة البشر و لا يهمّها الا نفوذها الشخصي. فما هيجان البحر و اغراقه للسفن الا لغضب الهة البحر (و لنسمّها تيامت) من خالق البشر (و لنسمّه انكي)، و ما الامراض و الاوبئة التي تحصد الناس حصادا الا انتقاما يوجّهه الاله المسيطر عليها (و لنسمّه نركال) من انكي. و هكذا الامر مع الزلازل و الفيضانات و غير ذلك، فما كل هذا الا دليل على خلافات الآلهة التي لم تستطع حلّها.

اما ان نظرنا الى القضية من زاوية اخلاقية، فنستطيع اتّباع التصنيف الذي اعتاده البشر، اعني عزل الامور خيرِها عن شرِّها. و توصِلُنا هذه الفكرة الى القول بالهين متساويين في القدرة متعارضين في المبدأ الاخلاقي، احدهما ينصر الخير و عن الآخر يصدر الشرُّ، فكل فعل خيّر في الطبيعة، و كل نظام و جمال فيها، صادر عن اله الخير، بينما تُنسَبُ كل كارثة او اختلال في النظام، و كل قبح و عمل شرير الى اله الشرّ. غنيٌّ عن القول ان هذا المبدأ استُغِلَّ و تطوَّر في الديانتين الزرادشتية (في ايران) و المانوية (في العراق)*6.


اسقاط الالوهية:
احتجَّ القُرآنُ على المشركين بأنهم يعبدون آلهة لا قدرة لها، فهم يدعُون ما لا ينفعهم و لا يضرّهم مُتجاهلينَ عبادة الله القدير [يونس 18]. و هذا احتجاج من القرآن مردودٌ عليه برأينا وفق اقوال: اوّلها اننا نستطيع نسبة الضر و النفع لآلهة كثيرة ان اتّبعنا الفكر الغيبي، فالآشوريون الذين اتخذوا آشور الها قوميا لهم و تقرّبوا الى عشتار لتحميهم و تنصرهم، غلبوا شعوبا يصعبُ حصرها و أشادوا امبراطورية حكَمَت -او كادت- كل شعوب العالم المتحضِّر في ذلك الوقت -لاوّل مرة-. فمَن نصرهم غير آشور و من معه من الآلهة؟! فهي آلهة نفعت عابديها. و غيرها ألحقَ الضرر بالبشر، مثلما فعَلَ مردوخ بابل بسرجون الأكدي -وفق الاسطورة- حين غضب عليه.

و نردّ بقول ثانٍ على الحجّة المستخدمة حين نذكرُ ان محمد دعا الى عبادة اله لم يثبت انه ينفع او يضرّ، الا ان كان نفعُهُ هو لاعداء نبيّه لحكمةٍ لا يعلمها الا هو ! و الا فما تفسيرنا لاستيلاء الدّ اعداء النبي على دولة الاخير بعد وفاته بعقود قليلة حين انتصروا على ابن عمّه و اشتروا المُلك من حفيده؟! و مجملُ القول ان النفع -او الضرر- يتأكد بالتجربة، مما ينقلنا الى النقطة التالية.
لقد وعد اللهُ عباده صراحة -في القرآن- بالاستجابة لهم ان دَعوه، و لم يضع قيدا او شرطا للاستجابة [البقرة 186]، كما وعدهم بالنصر في الحرب ان هم نصروه [محمد 7]. و يروي لنا التاريخُ - و تبريرات المبررين- ان هذه الوعود و غيرها، لم تتحقق. فالدعاء لا يُجابُ منهُ الا ما تسمح به الصدفة او العمل الدؤوب، مما دعا المبرّرين الى وضع شروط لاستجابة الدعاء لم يذكرها القرآن نفسه، و لا ادري كيف كان تبرير النبي لاصحابه و للمشركين امامهم حين كانت الدعوات تُردُّ كأن هُبَل لم يسقط و لم يأتِ عهدُ الله. اما النصر فلا يتحقق الا ان نحن نصرنا الله، و لتجنّب سوفسطائية لا مفرّ منها ان ناقشنا كيفية نصرنا لله، فاننا سنفترض ان محمد و من معه نصروا الله كما اراد هو، فهُم نبيّه و اتباع نبيّه الاولين. اذن نصر المسلمون الله لعل الله ينصرهم، لكنه خذلهم في أحد، ربما لأن الاتقياء الصالحين الذين باعوا الدنيا و اشتروا الآخرة طمعوا في الغنائم و ضربوا بقول نبيّهم عرض الحائط؟ و هو خذلهم اول الامر في حنين، ربما لان كثرة المسلمين حينها اعجبَت المسلمين، و الله لا يحب -لسبب ما- ذلك؟ و اذ خذلهم الله في مؤتة، فانه تركهم -على ما اعتقد- و تركنا نحن ايضا في حيرة من سبب خذلانهم حينها ؟!

هل نسمح لانفسنا بطرح فكرة غريبة، ربما اعتقد بها في وقت ما احد حكماء قريش، و هي ان هُبل هو من نصر المشركين يوم أحد، و ربما ارادت اللات ان تُري المسلمين آية لعلّهم يهتدون، فهزمتهم في بداية معركة حُنين، ثم كفّت يديها عنهم حين رأت اصرارهم على "الكفر"؟ اما مؤتة فلنسمح لانفسنا بالقول انها نصرُ اله المسيحيين على اله المسلمين في اللقاء الذي جمع بينهما في غابر الزمان. و القصد مما سبق هو ان الله حين وعد بالنصر لم يف بوعده، بل كانت ملائكته التي زُعِمَ انها قاتلت يوم بدر غائبة يوم احد، و ظل النصرُ في الحرب -كما كان دوما- حِكرا على الجيش الاقوى ماديّا و معنويّا. و لا اظن ان من بين المسلمين من يرى في انتصارات اسرائيل على العرب تحقيقا لوعد الله، حيث ان الله ينصر الاولين لان اليهود ينصرونه بدرجة اكبر مما يفعل المسلمون.

لقد اسقط القرآن الوهية الارباب - الا الله- لانهم لا يضرّون و لا ينفعون، و قد وجدنا ان الله سيسقط معهم ان استخدمنا نفس الحجة القرآنية مخضعينه لشروطها. فكثيرا ما نسب العُبّاد افراحهم و اتراحهم الى آلهتهم، و كثيرا ما وعدت الآلهة اتباعها وعودا لم تفِ بها، و ان نظرنا بعين الحياد سنجد حُكم القرآن على الالهة ما عدا الله ينطبق على اله القرآن نفسه، فتكون حجّته لاثبات وجوده و نفي وجود "المنافسين" حجة ضعيفة في مقياسنا المنطقي الحالي.


خلاصة:
لا يهتمُّ هذا البحث بالتراث الاسلامي الذي كُتب بعد عقود كثيرة من كتابة القرآن، الا بما يقتضيه توضيح الصورة التي تعتمد -بدورها- بشكل اساسي شبه مطلق على القرآن. كما ان هذا البحث يُدرك ان نزول-قول القرآن كان ممتدا خلال سنوات طويلة، و ان تدوينه كان جمعا لشتات الآيات المتفرّقة، لكن ما استخدمناه هنا كان حججا متكاملة للقرآن يردُّ بها على مخالفيه، فنحن لم نتناول احكاما تطوّرت او افكارا تكاملت، و لذلك لا يأخذ البحث بنظرية "تفسير القرآن بالقرآن"، فما ورد من حجج اخرى في القرآن مستقلٌّ عما اوردناه، و عن بعضه بعضا. و ربما نحتاج لذكر أهداف هذا البحث، الا و هي: التعريف بمنطق سكّان جزيرة العرب قبل اربعة عشر قرنا، و تبيان تهالك هذا المنطق في عصرنا الحالي، و ان نظريةَ صلاح القرآن لكل زمان و مكان الغريبة نظريةٌ صعبة الاثبات على اقل تقدير، و اخيرا توضيح ان هناك من الحجج ما يستطيع الردّ على حجج القرآن، حتى في زمانه، الا انها لم تصلنا لأنها كانت حجج الخاسرين عسكريا. و ربما ستتكلم هذه الخلاصة عن نفسها في السطور التالية.

لقد عرف "المشركون" الاصنام رموزا تحلّ بها الآلهة، و لم يعبدوها على انها "شخص" الاله او "ذاته"، لكن القرآن احتجّ عليهم -في قصة تحطيم ابراهيم للاصنام- بأن هذه "الصور" لا تنطق و لا تُبصر، فدعاهم لعبادة الاله الواحد. المشكلة في هذه المحاجّة ان القرآن لم يدعُ الناس لعبادة اله ناطق يتكلّم مع البشر، و نتساءل هل اذا فعل احدنا امرا يُغضب الله، سيُكلّمُ الله "كهنته" من الصالحين ليخبرهم بشخص "المهرطق"؟ هل سينطق الله و يتكلم اذا هدم احدُنا بيتَ الله نفسه الذي جعله الله آمنا لضيوفه؟ بل هي حجّة مردودة على القرآن.
و اثبت القرآن على لسان ابراهيم ان الاله الحقّ يجب ان يكون قادرا على اماتة من يُريد و احياء من يُريد وقتما يشاء، اضافة الى قدرته على الاتيان بالشمس من المغرب بدلا عن المشرق، و يجب ان يستجيب للتحدّي -ان تحدّاه احد- اذا ما اراد ان يُثبت الوهيته، و الا فألوهيته ساقطة، حيث ان القرآن اسقط الوهية نمرود على هذا الاساس. نتساءل عن موقف القرآن ان استخدمنا نفس حجّته مع الاله الذي يدعو اليه، و بهذا التساؤل -ما دام للناس عقل و فضولٌ- نستبينُ قوّة حجّة القرآن.

كما نستغربُ اصرار القرآن على ان دليل نبوّة الانبياء هو معجزاتهم، ثم اصراره على رفض رفد النبي محمد بمعجزة ! تعَلَّل القُرآن مرّة بأن قريش لن تؤمن حتى لو رأت بعينيها ما يُخبرها عنه الرسول، و يبدو ان القرآن نسي هُنا ان المعجزة ما هي الا حجّة على الذين كفروا، فالله يهدي من يشاء و يُضل من يشاء لكن عدله يحتّمُ عليه ان يختبر موفّرا الحجج الكافية التي تُنير طريق الحق. كما تعلّل القرآن بأن الاقوام السابقة لم تؤمن بالمعجزات ! لكن الله -كما يُفترَضُ- يعلم الغيب كله، اي انه ارسل المعجزات و هو يعلم انها لن تُجدي، ثم رفض اعطاءها لمحمد لانها لا تُجدي ! ثم تعلّل اخيرا بأن ارسال النبي بالمعجزة سيقود الى عدم ايمان الكفّار بها مما سيؤدي الى العقوبة المدمّرة؛ عقوبة من نوع الريح الصرصر او قلب المدن عاليها سافلها، و اللهُ لا يُريد تعذيب قريش -خلافا لمن سبقها، لسبب ما- ! و لمّا أصرت قريش و طلبت العذاب بألسنة اهلها رفض القرآن ذلك لان محمد ساكن بينهم، ثم رفض لان فيهم من المسلمين من يستغفر. و تَرَكنا القرآن مُحتارينَ، لماذا لم يُعطِ محمداً آية خلافا -حسبما قرّر القرآن- لمن سبقه؟ فحججه مردودة به؛ بقصص انبيائه التي اوردها، و بصفات الهه التي اخبرنا عنها.

يُدلل القرآنُ على وحدانية الاله بمنطق لا يقطع حبل النقاش، فالله واحد لان الآلهة الكثيرة ستتصارع فتُفسدُ الكون. و نقاشنا يعتمدُ على ان ما ذكره القرآن ليس شرطا، فقد تعلّمنا -من الخبرة- ان الصراع من المُمكن ان يُحلَّ بما لا يؤدي الى الفساد على الاطلاق. فالآلهة -حسب تعريف القرآن لله، او حسب التعريف السائد الذي من الممكن الاخذ به اليوم- تعلمُ كل شيء، و نحن نعرف اننا كلما تعلّمنا اكثر عرفنا كيف نحلّ صراعاتنا. و الآلهة مطلقة الحكمة، و نحن نعرف اننا كلما كنا اكثر حكمة كلما قلّت صراعاتنا. و الآلهة خيّرة، و نحن نعرفُ ان مجتمعا من "الاخيار" سيضع -دوما- الصالح العام نصب عينيه، فيحارب الفساد و يُحاذر الافساد. و لا نريد المضي قُدما الى تشبيه الآلهة المتعددة بدولة ديمقراطية حقا، تستقل فيها المؤسسات الحكومية عن بعضها فيقلّ بذلك الفساد، و لا نريد تشبيه حكم الاله الواحد بدولة دكتاتورية نموذجيّة، يُمسكُ بزمام الامور فيها شخص لا شريك له فيعمُّ الفساد. لا نريد استخدام التشبيه السابق لانه سيفتح الابواب الى الاستمرار بالمثال المُعطى الى اكثر من حدوده المرجوّة، اي انه من الممكن مطّه و الاستمرار في استخدامه -كأي مثلٍ آخر يُضربُ او قياس- ليدُلّ على ما لا نقصد، و لم يخطر لنا على بال.
و اذا ازلنا الفرض بأن الكون متقن يسيرُ على احسن ما يُرام، فسنرى العالَم بعيون جديدة. ان ما حولَنا جميل و قبيح، منظّم و عشوائي، خير و شر، بعضه الاول و بعضه الثاني، او هو على الاقل له صورة مثالية معيّنة في اذهاننا تخرقها احداث ليست في الحسبان، او هو شكلٌ قبيح و نظام قاسٍ وقح تولدُ فيه نماذج من مثالية لا تفتأ ان تموت. فالبحر الساكن الجميل يضطرب، و الشمس التي تبعثُ الدفيء و الحياة قد تفور بانفجارات تدمّر هذه الحياة. او هي الحمم اللاهبة نسبحُ فوقها للحظات لا يفصلنا عنها الا غشاء رقيق ثم تهتاج متفجّرة على هيئة براكين ثائرة مدمّرة. و خلاصة القول ان في العالم مشاكل قد تنبيء عن تعدّد الآلهة التي تديره، و فيه تعارض قد يُنبيء عن ارادات مختلفة لآلهة متصارعة، فاذا استخدمنا العناصر التي استعملها القرآن لاثبات وحدانية الاله، فنستطيع استخدامها بلا تغيير لاثبات تعدد الآلهة، مما يجعل حجّة القرآن في هذا الموضوع لا تناسب منطقنا و طريقة تفكيرنا.

ثم اتّجه القرآن الى طريقة ثانية لاسقاط الآلهة الاخرى، فقال بعدم وجودها من حيث انها لا تنفع و لا تضر فلا تستحق الوجود، او ان وجودها و عدمه سواء؛ فهي -بذلك- لا تستحق العبادة. لكننا حين عرضنا اله القرآن امام نفس الحجة خرجنا بنفس النتيجة، حيث لم يثبت نفعه و لا ضرره، الا ما نستطيع نسبته الى الآلهة الاخرى ايضا. فلم يتميّز تاريخ عباده عن تاريخ غيرهم من الامم بشيء، و لم تحصل لهم احداث اعجازية في محاور التاريخ، بل حتى الوعود الالهية التي وردت في القرآن مما يمكن استخدامه لاثبات "النفع" لم تُنفّذ. بعبارة اخرى، كل ما نُسِب الى الله من ضرر او نفع، نُسِب بدافع الايمان لا المنطق، فكل عابد يستطيع نسبة نفس مظهر القدرة لمعبوده، و الحجة الايمانية تستوجب التصديق اولا و لن تقنع غير المؤمن، فهي -بذلك- مردودة.
لم يكن من ضمن أهداف البحث التقليل من شأن القرآن بالمُطلق، ففي بعض القرآن بلاغة مُذهلة، و في بعضه محاولة اصلاح اجتماعية واضحة، و في بعضه فائدة لاستشفاف الحالة الفكرية لسكان منطقة معيّنة في فترة زمنية محدّدة، لكن الاعجاب بالبلاغة و الاصلاح و الفوائد الاجتماعية لا يعني ان نوقف الاصلاح، و لا ان نسكت على ما يضر مجتمعنا اليوم من افكار، و لا يعني بالتأكيد ان نقبل كل ما ورد في الكتاب، غثّه و سمينه، فنسير عليه. ان المنطق القرآني اقنع البعض في حينه، و ربما سادَ في زمان ما لانه منطق المُنتصِر، و مرّ زمان و تغيّرت امور، و منذئذ توالت محاولات التطوير و الاصلاح تحت اسم التفسير و الفقه و غيرهما، الا ان الشقّة اصبحت بعيدة اليوم بين طريقة التفكير المعاصرة و طريقة التفكير القرآنية بكل محاولات تفسيرها، و هذا هو اهم ما هدفَ الى توضيحِه هذا البحث.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*1 انتشار الاسلام: أعطى الاسلام اهمية كبيرة للغزو و الجهاد، لانه بذلك انتشر اعظم انتشار له في زمن الرسول. فبعد خمس سنين من الدعوة، لم يكن عدد المسلمين كبيرا، حيث لم يهاجر الى الحبشة الا 15 شخصا في الهجرة الاولى، بينما نجد عدد افراد الجيش -بقيادة النبي- 10 آلاف حين فَتَح مكة، بعد توالي الغزوات و الحروب الاسلامية. و اذا لم تكن هذه الارقام دالّة على ادعائنا، فان القرآن نفسه يسندنا بقوله "اذا جاء نصر الله و الفتح، و رأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا" فربَطَ بين الانتصار و الفتوحات، و بين انتشار الاسلام و ازدياد عدد اتباعه.

*2: قريش و "الكفار": استمرّ النبي في مكة لسنوات طوال يدعو الناس الى الكفر بآلهتهم يُسفِّهُ دينهم و يُريدُ قلب النظام الاجتماعي و الاقتصادي المُستقِرّ، و رغم ذلك تحمّلت قريش الأمر فلم تقتل "الكافر"، و لم تُلاحق المسلمين ما عدا العبيد ممن ملكتهم قريش اصلا و كانت ترى انها حرّة في التعامل معهم و التصرّف بهم كما تشاء. و يا تُرى هل يتعامل المسلمون بنفس الطريقة اذا ما جاءهم مَن يستهزيء بدينِهم و يكفر بمقدّساتهم؟ ام ان الكافرين من قريش كانوا اكثر رحمة و تسامحا و احتراما للحريات من المسلمين؟

*3: هل يصلح القرآن لكل زمان و مكان: لا نعتقد ذلك، حيث ان فيه آيات لا يفهمها و لا تعني شيئا لسكّان بعض المناطق، كما ان فيه آيات تبدو سخيفة لسكّان العالَم في وقتنا الحالي. مثلا الآية "أفلا ينظرون الى الابل كيف خُلِقَت" لا تعني شيئا لسكّان الاسكيمو الذين لم يروا جَمَلا في حياتهم ! بينما نرى ان الآية "و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون" لا تهمُّ اغلب الناس المتمدنين في عصرنا الحاضر، فمَن من هؤلاء يعتقد حقا ان الحمار كائن جميل قد يُتَّخَذُ زينة تُستعرَض ؟! بل ان الحمار قد يُضربُ مثالا للقُبح لا الجمال !

*4: اعتقاد قدماء العراقيين بالآلهة: و لنأخذ الاله نانا على سبيل المثال - و اسمه الاكدي الاشهر هو سين- ، فهو اله القَمَر، و كان مركزا عبادته مدينتي أور و حرّان، و له اساطير تشخّصه و تجعلُ له الآباء و الابناء. فهل تتوافق هذه الحقائق مع الاعتقاد القائل بأن صنم الاله هو الاله نفسه؟! فلـِنانا تمثالين رئيسيين، و هو في نفس الوقت اله القمَر، كما انه يظهر في الاساطير المعبّرة عن الفكر العراقي القديم مُشخّصا بشكل أقرب للانسان منه لتمثال جامد، و ما تمثالُه الا رمزٌ له او صورة.

*5: القرامطة و الكعبة: لقد هجمَ القرامطةُ -في القرن الرابع الهجري- على الكعبة في موسم الحج، فقتلوا الحجيج، و سلبوا الكسوة، و خلعوا باب الكعبة، و قلعوا الحجر الاسود من مكانه، و حملوه معهم الى بلادهم (البحرين) و ابقوه هناك لاكثر من عشرين عاما. و لم نر الله يحرك ساكنا.

*6: المانوية: أسسها النبي ماني- ببابل- في القرن الثالث الميلادي فنُسبت اليه، و ماني نبيّ عراقي تأثر بالديانتين المسيحية و الزرادشتية، و اعترف بما سبقه من انبياء، و آمن بالثنوية؛ مبدأ صراع الخير و الشر، او النور و الظلام، و فسّر العالَم وفق هذا الصِراع، و جعلَ الانسان عاملا حاسما فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 93- Al-Baqarah


.. 94- Al-Baqarah




.. 95-Al-Baqarah


.. 98-Al-Baqarah




.. -من غزة| -أبيع غذاء الروح