الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تجارب الإدارة الذاتية العمالية
سامح سعيد عبود
2016 / 4 / 19المجتمع المدني
الإدارة الذاتية هي أسلوب لإدارة مكان العمل، يقرر فيه العاملون السياسات المتعلقة بالإنتاج، و ساعات العمل، و الأجور، و مهمات الافراد، ولوائح العمل، و قرارات العمل المختلفة بصورة جماعية و ديمقراطية، بالتوافق أو بالأغلبية، بعكس أسلوب الإدارة التقليدي المنظم بشكل هرمي، حيث يتلقى فيه العاملون الأوامر المتعلقة بالإنتاج من قمة الهرم الإدارى، كما في النظام الرأسمالي أو منشئات الدولة.
أما المنشئات المستعادة فهى منشئات أغلقها ملاكها الرأسماليون، أو تخلت الدولة عن إدارتها بالبيع للمستثمرين، وطردوا عمالها للبطالة، فقام العمال باحتلالها، وأستعادوها للتشغيل مرة أخرى تحت إداراتهم الذاتية والديمقراطية، ولصالحهم، والملاحظ إنه سرعان ما تتحول تلك المنشئات لتعاونيات، وهى تجربة آخذة فى الانتشار عالميا، وتكررت تاريخيا فى روسيا وايطاليا وفرنسا وأسبانيا والولايات المتحدة واليونان، إلا أن أبرز البلاد التى عرفتها مؤخرا هى الأرجنتين عقب أزمتها الاقتصادية فى التسعينات من القرن العشرين، و حالات الإفلاس والاغلاق التى شهدتها العديد من المنشئات هناك.
و سبب تصاعد الظاهرة مؤخرا هو لجوء أصحاب الأعمال الرأسماليين و الدولة بشكل متزايد في الفترة الماضية إلى تصفية أعمالهم و منشئاتهم الإنتاجية والخدمية، وبيع كل الأصول التي يمكن الحجز عليها لصالح دائنيهم، أو للمشترين الجدد الذين يشترطون تقليص العمالة، و تعديل شروط العمل لصالحهم على حساب مصالح العمال، مما يعنى اختفاء أو تقلص مصدر دخل العمال في الوقت الذى تتزايد فيه نسبة البطالة بشكل كبير، وكذلك استحالة حصول العمال على مستحقاتهم المتأخرة لدى أصحاب الأعمال، أو ايجاد فرص عمل بديلة فى ظل الكساد والركود المتصاعد عالميا. ففي ظل هذه الظروف تنشأ حركة احتلال المصانع وإدارتها ذاتياً كحل طبيعى و عفوى من العمال للمشكلة التي وجد كثير من العمال أنفسهم فى مواجهتها.
و تأتى أهمية هذا الموضوع فى ضوء مئات المنشئات الرأسمالية فى مصر التى تفلس شهريا ، وتغلق أبوابها فى وجه العمال ليتحولوا إلى وضع البطالة والتهميش، والتى وصلت إلى 6 ألاف مصنع، مغلق كليا أو جزئيا، وفق آخر بيان متاح منذ سنوات، وفى ضوء شركات ومنشئات القطاع العام التى يتم بيعها بأرخص الأثمان، ليتحول بعضها لآراضى بناء، و يتم تخريد آلاتها، وطرد عمالها بالمعاش المبكر والفصل، والتى ترفض الحكومة استلامها مجددا بعد أن صدرت أحكام قضائية ببطلان عقود بيع بعضها، وضرورة استرداد الحكومة لها، لكن إنه فى حين أن تجارب الإدارة العمالية للمصانع والمنشئات التى يحاول ملاكها إغلاقها بحجة الإفلاس، وتحولها لتعاونيات فى اليونان والأرجنتين على سبيل المثال تستمر ، إلا أن التجارب المصرية، ما ان تستمر بضعة سنوات حتى تنتهى دون أن تتطور لأسباب متعددة تخص الواقع المصرى، وهو ما سنعرضه فيما يلى:
كانت أولى هذه التجارب المصرية، فى مصنع المصابيح الكهربائية مدينة العاشر من رمضان، فى العام 2004، وسط ظروف بالغة الصعوبة، حيث انتخب العمال لجنة لإعادة تشغيل المصنع وإدارته على مدى عامين ونصف العام، بعد أن قرر مالكه رامى لكح غلقه، لاستيلائه على قروض من البنوك بلغت 133 مليون جنيه بضمان المصنع، وهرب بالأموال خارج البلاد، تاركًا 250 عاملًا يواجهون البطالة، إلَّا أن العمال أثبتوا أنهم على قدر عالٍ من الكفاءة والتنظيم يمكّنهم من تشغيل المصنع، وخلال عامين ونصف العام استطاعوا حل الكثير من مشكلات الإنتاج، حتى تجاوز المصنع أزمته وصولًا لتحقيق الأرباح.
بعد ذلك جاءت محاولة عمال الشركة الدولية للمنتجات الورقية ومواد التعبئة "انكوباب"، في يناير 2011، و على الرغم من حصول العمال على قرار التشغيل الذاتي إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، حيث فرضت وزارة الداخلية حراسة من قوات الأمن المركزي على المصنع، ومنعت العاملين من التواجد حتى بمحيطه.
تلى ذلك تجربة عمال شركة النوبارية لإنتاج البذور "نوباسيد"، في 2011، فقد قرر العمال إدارة الشركة بأنفسهم وذلك في مواجهة قرار تصفية الشركة من جانب المستثمر، وأداروا الإنتاج بديمقراطية وشفافية واستطاعوا تحقيق أرباح.
وتلتها تجربة مصنع "قوطة" للصلب عام 2012، وهي التجربة التي أصبحت بمثابة نموذج لمحاولات الإدارة الذاتية في مصر، ويُعد أبرز ما فيها، استبسال العمال في الدفاع عن مصدر رزقهم، وانتخابهم لمجلس إداري عمالي منتخب منهم، وما أظهروه من تضحية حيث جمع عمالها ألف جنيه من حوالى 400 عامل، و تبرعوا بنصف مرتباتهم من أجل شراء المواد الخام (البليت) وتسديد الديون البالغة 17 مليون جنيه لشركة الغاز و6 مليون جنيه للكهرباء. وكما تلقوا مساعدات من عمال نقلوا إليهم الخبرة والدعم في معركتهم الطويلة التي استمرت لمدة عام ونصف حتى حصلوا على التفويض اللازم لإدارة مصنعهم، و أرسلوا بدورهم رسالة تضامن مع عمال مصنع “فيو مي” باليونان إزاء ما يتعرضون له من ظروف عمل مشابهة لنفس ظروفهم، وهي هروب صاحب المصنع وبدء العمال اتخاذ إجراءات الإدارة الذاتية.
شرع عمال شركة طنطا للكتان والزيوت، في تشغيلها ذاتياً في مارس 2013، ، كرد فعل على تجاهل الحكومة عن تنفيذ الحكم القضائي بعودة الشركة لملكية الدولة (وعودة عمال الشركة المحالين للمعاش المبكر لها من جديد)، إلا أن إدارة الشركة الموالية للمالك السابق فصلت التيار الكهربائي عن المصنع، وعرقلت تشغيله، مما دفع العمال للاعتصام داخل مقر اتحاد العمال لمدة 35 يوم، انتهت بفض اعتصامهم بالقوة من قبل أمن الاتحاد. و قد أتى ذلك فى سياق إنه فى عام 2011: قضت محكمة القضاء الإدارى باستعادة الدولة ملكية سبع شركات بيعت فى زمن الخصخصة بثمن بخس وسط شبهات فساد، وهى طنطا للكتان و شركة النوبارية للبذور «نوباسيد»، و غزل شبين الكوم، و النيل لحليج الأقطان، و النصر للمراجل البخارية، و عمر أفندى وشركة سيمو للورق. لكن الدولة ترفض استلام الشركات وإعادة تشغيلها.
و قام عمال «مصبغة العاشر» واسمها الرسمى الشركة الاقتصادية للتنمية الصناعية، بتجربة تطبيق الإدارة الذاتية، بعد هروب المستثمر من مصر فى أزمة ديون للبنوك، وتراجع إنتاج المصبغة و دخلها. فاتفق مديرها العام مع اللجنة النقابية على تطبيق تجربة «الإدارة الذاتية».
و بلاشك إن الإدارة الذاتية كانت البديل الأفضل من تصفية المصبغة وتشريد العمال، لكن تظل المشكلة فى الديون المتراكمة على المالك الذى لم يسدد ديونه لبنك القاهرة ، واستطاع الهروب للخارج. هكذا ظل العمال يتحملون ما تركه من أعباء تبدأ بديونه لبنك القاهرة حتى ديون المصبغة لشركات الكهرباء والمياه والغاز والتأمينات.
و بدأ عمال فرع البدرشين بمصنع "القاهرة للزيوت والصابون" في جمع توقيعاتهم للمطالبة بالتشغيل الذاتي للمصنع، وتوجه عدد من العمال المعتصمين بالمصنع بشكواهم لوزارة القوى العاملة، ضد صاحب المصنع اعتراضًا على توقف العمل بالمصنع و قابل العمال، مسئول المفاوضة الجماعية بالوزارة الذي هاجم موقف العمال، الذين طرحوا عليه مطلبهم الوحيد؛ ألا وهو تشغيل المصنع، وأكدوا أن هناك عملية تخسير واضحة من جانب صاحب المصنع ومجلس الإدارة، حتى يتمكن من تصفيته.
يلاحظ من التجارب السابقة المتفاوتة بين النجاح والفشل هو إنها تلقى مقاومة و رفض من الدولة بأجهزتها الأمنية والبيروقراطية المختلفة، وإن تأثير ذلك يتفاوت حسب مستوى إدارة العمال فى كل تجربة لمعركتهم لاستعادة منشآتهم للتشغيل على حدى، والحقيقة التى يجب أن يعيها العمال إن الدولة منحازة بطبيعتها للرأسماليين لا العمال، ولا يعنيها تهمشيهم و لا بطالتهم، وإنها مضطرة لخصصة منشآتها الخدمية والإنتاجية، لخضوعها لشروط الدائنين الخارجين، ورغبتها فى جذب الاستثمارات التى ثبت وبعد أربعين سنة من تلك السياسات، أنها انتهت لتقلص فرص العمل والتهميش الواسع الناطق على عكس ما يدعون، برغم كل ما تقدمة الدولة من تسهيلات واعفاءات ضريبية وجمركية، و على حساب حقوق العمال. فالدولة تحارب انتشار تجربة الإدارة الذاتية، لأنها ستجعل من العمال قوة حقيقة فى مواجهة الرأسماليين الذين تمثل مصالحهم. و هى تدرك خطورة ما يطالب به العمال وتعتبره مناقضاً تماماً لتوجهاتها الاقتصادية واتفاقاتها مع المؤسسات الدولية التي ترفض بوضوح أي تدخل للدولة في عملية الإنتاج.
أن الدولة تخشى بشدة من اتساع تجربة الإدارة الذاتية للمصانع من قبل العمال، لأن إعادة تسليم الشركات لرجال الأعمال ستتعذر في حال تزايد أعداد الشركات التي يديرها العمال ذاتياً، ونمو ثقة العمال في أنفسهم وفي قدرتهم على تسيير العمل وتوزيع العائدات فيما بينهم بعدالة، ومن ثم تسعى لتحجيم التجربة وعدم انتشارها.
و على الجانب الآخر، فضعف الوعى الطبقى للعمال، و المحدود فى تحسين شروط العمل والحياة، لا التحرر من العمل المأجور نفسه، و ضعف ثقتهم فى أنفسهم و قدرتهم على إدارة مصنعهم، بالإضافة إلى العادات التي اكتسبها العامل لمقاومة صاحب العمل من تباطؤ وتأخير متعمد، إلخ، تظل موجودة عند قطاع من العمال لفترة من بدء التجربة حتى يستقر الوضع، ويدرك العمال بأنهم أصحاب العمل، لا تابعون له، فيتخلون عن وسائل المقاومة السابقة الذكر، فتزداد إنتاجيتهم وينجحون رغم الصعوبات المحيطة بهم.
و مما لاشك فيه أيضا هو وجود صعوبات وعراقيل قانونية و بيروقراطية تحول دون تقنين وضع العمال لحمايتهم مما يجعل تجربتهم معرضة للفض فى أى لحظة بحكم القانون كعودة المستثمر للمنشأة التى مازال يملكها و مطالبته بتسلمها من الإدارة العمالية، وهو عين ما حدث فى تجربة المصابيح الكهربائية، بحكم القانون بعد أن تحسنت أحوالها، وسددت ديونها، وحققت أرباح، وفي معظم الأحوال يتم الحصول على حق بتشغيل المصنع مؤقتاً بسماح من أجهزة الدولة يمكن أن تسحبه فى أى لحظة، ، مما يجعل العمال يشعرون أنهم في مرحلة انتقالية لا تتسم بالاستقرار.
إضافة إلى ذلك هناك عقبات عملية أكثر صعوبة. فاضطراب أحوال الاقتصاد تعني أن المصانع بالفعل تعاني من صعوبة فى تسويق منتجاتها أو في تحقيق عائد يغطي تكاليف الإنتاج، وفي كثير من الأحيان يضطر العمال إلى ممارسة العمل لساعات طويلة دون راحة وفي مقابل أجور متدنية.
ختاما أعتقد إنه حتى تنجح حركة الإدارة الذاتية للمنشئات المغلقة لدينا، لابد وأن يستلهم العمال الخبرة الارجنتينية، حتى لا تظل الحركة خاضعة لرغبة عمال منشـأة بالصدفة، وبمعزل عن مجمل التجارب أو المحاولات الأخرى، التى يمكن أن تدعمها، وتتعاون معها فى سبيل النجاح المشترك.
فمع تطورات تلك الحركة العمالية العفوية فى الأرجنتين التى شهدت محاولات عمالية دؤوبة و متكررة لاحتلال المنشئات المغلقة واستعاداتها للتشغيل، رغم مقاومة الدولة الأرجنتينية، شهدت حركة إدارة العمال الذاتية للمصانع تأسيس عدد من المنظمات العمالية ركزت جهودها فى هذا الطريق، منذ سنة 2000 ، كان أهمها منظمتان أساسيتان تعملان على تنسيق جهود العمال المتعلقة باستعادة المصانع:
الأولى هي "الحركة القومية للمصانع المستعادة" والثانية هي "الحركة القومية للمصانع المستعادة من قبل العمال". ولا يفصل بين المنظمتين سوى طريقة تعاملهما مع الأحزاب السياسية. فبينما تذهب المنظمة الأولى إلى تعر يف نفسها ككيان سياسي، ومن ثم فهي تنافس في الانتخابات، ونجحت بالفعل في الحصول على مقعد برلماني واحد، فإن الثانية تعتبر نفسها حركة عمالية صرفة تقدم الدعم والتأييد لعمال المصانع دون توجه سياسي معين. بيد أنه من الناحية العملية ليس ثمة فارق كبير بين عمل المنظمتين من حيث مساعدتهما لاستعادة العمال للمصانع للحيلولة دون إغلاقها وتشريدهم، ومطالبتهما بتعديل قانون الإفلاس حتى يسمح بإنشاء تعاونيات عمالية تحل محل الملاك المفلسين، عند إعلان حالة الإفلاس بدلا من بيع أصول المصانع لسداد المديونيات والمستحقات. و سعت المنظمتان إلى تكثيف المطالبات بتعديل قانون الإفلاس بما يسمح بمنح الأولو ية لاستمرار العمل في المصانع المفلسة على الوفاء بمستحقات الدائنين، وهو ما نجحوا فيه فى النهاية فيستطيع العمال التقدم للمحكمة بطلب تشغيل منشأتهم، على أن يلتزموا بتسديد ديونها، و تحويلها لتعاونية عمالية بعد السداد، بشرط اثباتهم إن الاغلاق تم بسبب سوء إدارة الملاك السابقين للمنشأة و محاولة افلاسها المتعمد.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لقاءات الجزيرة الجماهيرية من ولاية تكساس.. تأثير وجود المهاج
.. كواليس مؤتمر رئيس الوزراء ووكيل الأمم المتحدة على هامش -الم
.. تجمعات لخيام النازحين في حلفا الجديدة بولاية كسلا في السودان
.. اعتقال ضابط إسرائيلي بإطار قضية التسريبات الأمنية.. ما التفا
.. هاريس وترامب يحاولان استقطاب الأقليات في ولاية ويسكونسن