الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عهد قديم وعهد جديد-14- أصنامهم فضة وذهب

طوني سماحة

2016 / 4 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أصنامهم فضة وذهب، عمل أيدي الناس
لها أفواه ولا تتكلم. لها أعين ولا تبصر
لها آذان ولا تسمع. لها مناخر ولا تشم
لها أيد ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي، ولا تنطق بحناجرها
مثلها يكون صانعوها، بل كل من يتكل عليها (مزمور 115: 4-8)

لم يتغير العالم فجأة من عبادة الأوثان الى التوحيد. لا بل، عاش التوحيد وحيدا، يتيما وغريبا على أرض فلسطين لما يقارب الألفي عاما قبل أن تتبناه المسيحية وتنشره في العالم القديم. من البديهي لنا، نحن سكان القرن الواحد والعشرين، أن نرى في التمثال صنما مجردا من الحياة، لكن الحال لم يكن كذلك على مدى آلاف الأعوام. فالإنسان الأول لم يستطع فهم الظواهر الطبيعية حوله، لذلك نسبها الى قوى خارجية تمثلت بالشجر والحجر.

إن كانت الثورتان الفرنسية والأميركية قد طبعتا العالم الحديث بأهمية الحدث الذي أوجدتاه والمتمثل بنشر قيم الحرية والعدالة والمساواة، إلا أن الثورة الموسوية هي الحجر الأساس في حركة التنوير الذي حرر الفكر البشري من قيود الخرافة. قبل موسى وحتى بعده، بقي الانسان أسير الاساطير يعبد آلهة هي صنع يديه وينسب الى الحجر والشجر والحيوان قوى خارقة ليست فيه ولا منه. قبل موسى وبعده، بقي الانسان يخلق آلهته ثم يقوم بعبادتها إلى أن أتى التشريع التوراتي وأعاد الأمور لنصابها الصحيح قالبا الموازين رأسا على عقب، فأفرز إلها خالقا يصمم الانسان على صورته ومثاله وليس العكس. فصل العهد القديم بين عالم الروح وعالم المادة، وحرر الخالق من قيود الزمان والمكان والضعف والجوع والموت والمرض والشهوة، حيث سجنه التصور البشري لقرون كثيرة. مفهوم الله قبل موسى وإبراهيم ليس هو ذاته ما بعدهما. آلهة الشعوب القديمة كانت تشبه البشر الذين خلقوها أي أنها كانت تأكل وتشرب وتنام وتمارس الجنس وتتقاتل فيما بينها، بينما الله، كما أعلن عنه موسى، هو قيمة روحية يبدع ويخلق ويحب ويفكر ويصمم ويعمل. عندما يخلق هذا الإله الموسوي، نراه يبدع الانسان على صورته ومثاله وبالتالي يكون الانسان شخصا حرا، مفكرا، مبدعا، خلاّقا، مسؤولا، ومحبّا. لكن موسى لم يتوقف عند هذا الحد في تعرفينا على هذا الإله، بل نراه أيضا يقدّمه لنا بصفته القاضي الذي يحكم على خليقته والذي يطالبها أيضا باحترام قوانينه. لقد قبل الكثير من النقاد صورة الاله الموسوي المحب (والذي أبدعت المسيحية في تقديمه للناس على هذه الصورة) لكنهم لم يستطيعوا قبوله جالسا على كرسي القضاء. لذلك علت الأصوات تنتقد هذا الاله عندما حكم بالقضاء على شعوب كنعان، علما أن هذه الشعوب، أقل ما يقال فيها، أنها كانت تقدم أطفالها ذبائح لآلهتها، وكان كهنتها يستدرون عطف آلهتهم بممارسة الجنس والبغاء في هياكلهم من أجل الحصول على حصاد وفير، ناهيك عن كل أصناف الفساد الذي كان يعشش في وسطهم. وقد قمنا في مقال سابق عنوانه "الحرب على كنعان، إبادة جماعية أم دينونة؟" بتسليط الضوء على فساد الكنعانيين. وهنا أسأل النقاد "إن كانت همجية داعش واخواته تستفزكم اليوم، كيف لكم أن تدافعوا عن شعب قرر الله إبادته لأنه أقل ما قيل فيه أنه كان يذبح أطفاله ويرميهم في النار إكراما لتمثال من الخشب أو الحديد؟" ومن الملفت للنظر أنه، خلافا لكل ما يروجه النقاد عن انحياز الله لشعبه المختار، قد تم سبي الشعب اليهودي وإبادته على أيدي الاشوريين والبابليين والرومان بمباركة الله ذاته. فالله الجالس على كرسي القضاء أباح إبادة الشعب الكنعاني وبارك السبي اليهودي عندما سار اليهود على خطى جيرانهم الكنعانيين.

لم تتوقف حركة التنوير الموسوية عند المناداة بالانقلاب على عبادة الاوثان، بل تعدتها لتطال مختلف مجالات الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية والإنسانية. فالإنسان في ظل الشريعة الموسوية هو غير الانسان في ظل الثقافة الكنعانية او أي ثقافة أخرى عاصرتها. لقد أتى التشريع الموسوي بقوانين ما زلنا نتأثر بها حتى اليوم شئنا أم أبينا، ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر الوصايا العشرة. في ظل الثقافات الأخرى القديمة، مثل الثقافة المصرية او البابلية الاشورية، كانت المعرفة محصورة بطبقة الكهنة والاشراف. مع إدخال التوراة الى الحياة اليهودية العامة، أصبح كل يهودي مطالبا بمعرفة مضمون هذا الكتاب. فالله في العهد القديم، لم يتوجه يوما الى النخبة اليهودية فحسب، بل وجه رسالته الى عامة الشعب مخاطبا الفرد قبل الجماعة. كذلك الامر، أدخل الكتاب المقدس شرائع لم تكن شائعة في عصره طالت نواحي مختلفة من حياة الشعب آنذاك، منها إعادة النظر في دور الملك والكاهن والمواطن والعبد. إن شاء الله، سوف نستمر في المقال القادم بتسليط الضوء على الدور التنويري الذي لعبه الكتاب المقدس في حياة الانسان آنذاك على المستوى الفردي والاجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ملاحظات
صلاح البغدادي ( 2016 / 4 / 29 - 06:12 )
الاستاذ طوني..تحية
1-الاله الابراهيمي في الدين الاول والثالث اله دموي..ولولا المسيحية التي رسمته محبا لكنا في ورطة شديدة.
2-ابادة شعوب لانها تعبد اصناما..حيلة للاستيلاء على ارض واموال ونساء الاخر،ويوجد الان وفي هذه اللحظة(3) مليار بين بوذي وهندوسي واديان اخرى فلماذا لايبيدهم الاله..وكثير منهم يعبد القرود والبقر والتماثيل.
3- لم افهم اشارتكم الى داعش...هل تقصد انها عقاب الهي.
4-الاخلاق قيم انسانية موجودة قبل وبعد موسى،ولاعلاقة للاخلاق بالوصايا العشر.
...تحية


2 - ملاحظات
طوني سماحة ( 2016 / 4 / 30 - 01:21 )
عزيزي الاستاذ صلاح البغدادي المحترم
شكرا للتعليق ولابداء وجهة نظركم،
لو كان هدف الاله الابراهيمي في الدين الاول اراقة الدماء من اجل اراقة الدماء ، لكنت اتفقت معكم. لو كان الكتاب المقدس يعطي الامر بابادة الشعوب كافة لعبادتها الاوثان، لاتفقت معكم. لكن عندما يدين الله (إن كان الله موجودا حقا، وأنا أومن بوجوده) شعبا ما بسبب الافراط بفساده، يكون ذلك حقا له وهو الخالق. فالإله الابراهيمي لم يدن شعب كنعان لمجرد أنهم يؤمنون به. بل وبالعودة لشهادة المؤرخين، نجد أنهم وصلوا في شرورهم الى نقطة اللاعودة. على سبيل المثال، كانوا يذبحون اطفالهم لتقديمها ذبائج لآلهتهم كما كانوا يمارسون الجنس والسكر والاغتصاب في عباداتهم أفرادا وجماعات. سيدي صلاح، قد تكون الابادة الكنعانية احيانا رحمة بأولئك الاطفال الذين لم يولدوا بعد وكانوا سوف يرمون لاحقا في أتون النار. أما بالاشارة الى داعش، لم اقصد قط أنها دينونة، بل كل ما قلت أنه إن كان الانسان السوي يستاء من تصرفات داعش ويدعو لعقاب هذه المنظمة، فلم يعد مستغربا ان يدين الله شعب كنعان الذي كان يمارس مثل هذه التصرفات بحق أبنائه.


3 - ملاحظات
طوني سماحة ( 2016 / 4 / 30 - 01:34 )
أستاذ صلاح - تتمة
نعم سيدي، الاخلاق قيم انسانية موجودة قبل موسى وبعده، لكن عندما ذكرت الوصايا العشرة ذكرتها على سبيل المثال وليس الحصر. لكن حتى الاخلاق لا ننسين أنها نسبية. فذبح الاطفال وتقديمهم للآلهة كانت لا تسيء الى اخلاق شعوب كنعان، فيما كانت بالنسبة لكاتب التوراة مرفوضة تماما. حتى اليوم وفي المجتمعات الغربية لا يوجد اتفاق موحد على القيم الاخلاقية. ففيما يقبل البعض بالمثلية، يرفضها الآخرون. أنظر الى اختلاف القيم بين الشرق والغرب. ما زال البعض في الهند وبعض بلاد الشرق الاوسط يقبل بالزواج المدبر فيما الغرب برمته وبعض الشرق يرفضه. هناك من يقبل بالمساكنة فيما يرفضها الآخرون. عندنا مثل لبناني يقول -الكذب ملح الرجال وعيب علي ما بيكذب- ان خلفية هذا المثل تبيح او على الاقل تتهاون مع الكذب بينما يرفض الغرب اعتبار الكذب فضيلة
سيد صلاح، أرجو ان اكون قد اجبت على اسئلتك بوضوح. بأي حال، تسرني مشاركتك وكن على ثقة أني احترم رأيك، بغض النظر عن اختلافنا او اتفاقنا
ولك مني كل الاحترام

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah