الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسئلة الملعونة في الثقافة العربية

سامي عبد العال

2016 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تبدو المجتمعات عاريةً كأشجارِ الخريف عندما تفتقد الأسئلةَ الضرورية لحياتها. الحياة بدون أسئلةٍ مجرد أوقات تصادفُ أخرى بلا آفاقٍ للمستقبل. من هنا كان السؤال خارج التوقُّع، كما لا يُطرح إلاَّ بمهامٍ أكثر جذرية. إنَّه يصوب سهامه المارقة نحو الحقائق التامة. المثير أنَّ هذا مصدر إزعاجه المتواصل في تاريخ الفكر الإنساني. فليس منحى الاستفهام جارياً على نحوٍ هادئٍ ومقبولٍّ. لأنَّه حين يطْرقُ بابَ الحقيقة، يجد صدُوداً مغلَّظاً. فيصبح السؤال مأخوذاً بتوجه حفري ومنفتح بقدرَ ما يتمكن. هو يستهدف المسكوت عنه ثقافياً دونما تباطؤ،...ينقب، يُحدّد، يؤشِّر. لذلك يشتبك ضمن حركته مع أيَّة سلطة تعارض وجودَّه. وهذا سبب الارتياب فيما يفعله كلُّ استفهام حقيقي.
في الثقافة العربية تلاحق اللعناتُ السؤالَ حين يفتش عما يتوارّى، عما يتخفى عن كثب. ولدينا هواجس مفرطة تجاه من يتساءل حتى لو كانت أسئلته بريئة. ولا نخطئ إذ نعترض على التعجب من الأسئلة. فنقول "هو السؤال حُرُم". وأصل العبارة هكذا: "هل تمَّ تحريم الأسئلة؟". ولكن خُففّتْ الفكرة تجنباً للتعبير الأكثر قسوة: " لقد تمَّ تحريم الأسئلة" أو "الأسئلة حرام". هذا التهذيب اللغوي يقلبُ الدلالة إلى همسٍ، وأحياناً إلى غمز يوميٍّ: أنَّه من الأفضل عدم التساؤل حيث لا نقدِّر العواقب. فأحياناً يُحظر الاستفهام تحت قعقعة التقاليد العامة "من تدخل فيما لا يعنيه نال ما لا يرضيه". و "ما لا يعنينا" قد يكون تقليداً مسكوتاً عنه، أو امتيازاً لفكرة أو بنية حقائق دون غيرها. وبفضل هذه المكانة تصبح لها أنياب تنهش من يحاول أنْ يستفهم.
وكالعادة يتأسس ذلك على النص الديني: " يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياءٍ إنْ تبد لكم تسؤكم". ومع أن القضية مقيدة بالإيمان الغيبي إزاء موضوعات الأسئلة. غير أنَّها مفتوحة بما لا تتحدد بسهولة. وبإمكان النص رمي الدلالات خارج نطاقه وبعيداً عن شروطه الخاصة بحكم الصورة التي يأخذها. ولاسيما أنَّ الثقافة العربية تتمدّد في جميع أبنيتها بالنماذج الدينية حصراً. وهي ذات الثقافة التي تأوّل النصوص لصالح مركزيتها. بل وتتخذها آليةً دفاعيةً لتأكيد أسباب وجودها التاريخي في الحياة اليومية. ولهذا كانت كل سلطة معرفية أو دينية أو سياسية في المجتمع العربي تتحصن بتأويل ثقافي للأسئلة المطروحة عليها. فيبدو انعدامُ الأسئلة شيئاً مقبولاً ومبرراً عبر مواقف الحياة مقابل عدم التعرض إلى الضرر. أي: هذه العلاقة من المساومة والخنوع لسلطةٍ مقابل الافلات من عقابها.
إجمالاً يرتبط تاريخُ اللعنة بسلطةٍ عُليا تقوم بهذا العمل. في مقابل شناعة السلوك الذي يستحق اللعنة بناءً على تقديرها. كما حدثت جذرياً بطرد إبليس من الجنة لعصيانه أمر الإله. حتى ورد ابليس اسماً متبوعاً بلقب الملعون. ثم جاءت كل لعنة تستعيد هذا المنطق: سلطة ما تطرد معارضيها من ظلالها الوارفة. خروج إلى العراء حيث الحرمان من الكنف. وتصبح اللعنة أداةَ ملاحقة وفعلَّ قهرٍ يواصل مطاردتهم. إنَّ نموذج الشيطان أتاح لعنة قابلة للتكرار كلما سنحت الفرصة. اشهر اللعنات غضب الرب على شعبه(شعب بني اسرائيل) كما ورد في العهد القديم. فبلبل ألسنتهم وأجرى عليهم لعنة الشتات في الأرض.
أمَّا الأغرب فأنْ تتزحزح اللعنة من موقف لا هوتي إلى موقف ثقافي تجاه أسئلة نراها خطيرة. بحيث يمثل الاستفهام مساحة محظورة من التفكير. ليس أكثر من موقف أعمى نمر عليه عرّضاً كحالة عجز طبيعي لا تثير أية دهشة. لهذا كانت عطالة الأسئلة أبرز نتاج وجودي لمعارفنا وأفكارنا. لأن الأسئلة تقف عند حدود اللعنة ولا تتخطاها. فأسئلة السياسة ملعونة، أسئلة السلطة ملعونة، أسئلة الحرية ملعونة، أسئلة الاختلاف الديني ملعونة، أسئلة الحقيقة ملعونة، أسئلة المرأة ملعونة. إنها حدٌّ فاصل إنْ تجاوزناه كان ثمة تكفير ثقافي يدفعنا خارج الحظيرة الاجتماعية.
إذن لا تخلو اللعنةُ من عملٍّ عام يتابع نشاطه القمعي إزاء التفكير الحر. يلعن: يسب كائناً سواء بشرياً أم مقدساً أم غيرهما. وإذا كان الأخير له عقابه الديني، فثمة آثار اجتماعية تلاصق اللاَّعن إلى نهايته. والملعون تعطي انطباعاً بالطرد، الازدراء. بسب اتيانه لأفعال غير مقبولة. من يحدد اللعنة وكيف تمارس عنفها في مجتمعات مغلقة closed societies بتعبير كارل بوبر؟
حساسية الأسئلة تصيبناً حتى تجاه أسئلة الأطفال. الطفولة قدرة حيوية خارقة على طرح الأسئلة من غير شروطٍ. هي تتميز بالمرونة الفائقة مع اختلاف المواقف. وتبدو ذات طابع أساسي رغم أنَّها تلقائية. الطفل القلق والشقي هو الكائن المتسائل دوماً بسببٍ وبلا سبب. لأنَّ الاستفهام لا يحتاج إلى تبرير. إنَّه حالة إنسانية ناجمة عن تفتح الوعي الناقد. مثله مثل الاندهاش، الشك، الفضول الآخذ في التزايد. خلال كل سؤالٍّ جوهري هناك نزق طفولي يتأرجح على أوتار الدهشة.
ولأننا مجتمعاتٌ عربية كهلّة فلا نواكب طفولتنا التي هي نحن. الحكمة البادية أن يتساءل الأطفال بجوار الكهول وكلاهما بجوار غيرهم. لا لشيء إلاَّ لإمساك روح الحياة السارية في جميع الأعمار. فهي ذاتها مصدر الأسئلة المحيرة. المجتمع الحي هو من يطرح الأسئلة. أما المجتمع الميت فهو يعيش وسط قبور من الإجابات الجاهزة. وما أكثر الإجابات المعلَّبة والفاترة بفرط تداولها. لذلك لدينا قدرةٌ هائلة على التحلُّل مثل الجيّف تحت وقع الأزمات. لأننا لم ننحت أسئلةَ المصير داخل كلِّ لحظة تمر بنا.
الأنكى أننا لا نعيش طفولتنا إلاَّ حنيناً بعد فوات الأوان، مجتمعاتنا بلا طفولة لأنها بلا أسئلة. فالأطفال يولدون شيوخاً. وليست الأكفان التي ألبسها الإخوان- في فترة مرسي- للأطفال إلا تأكيداً للمسألة. وهذا يشبه قمع الأسئلة لدى نشئ السلفية حينما يعجزون عن إحياء الموتى في صورة السلف الصالح. أيضاً الأمر يوازي انتزاع براءة هذه الكائنات المتسائلة حينما يدرب الدواعش أطفالاً على الجهاد والذبح والقنص.
وبالتالي من المهم للثقافة الحيوية أن تتساءل باستمرار. وأية ثقافة لا تعي نفسها نقدياً ستظل مشكلاتها طي الكتمان. ذلك نظراً لعصور وضعتنا تحت أغطية متعددة: تقاليد الدين، استبداد السياسة، طغيان الطائفة، الاستعمار، التخلف.
من ها فإنّ وضع الأسئلة يحدد ثلاثةَ أمور:
1 - تجاوز الاستفهام لمعطيات طرحه، لأنَّه يرمي بدلالته نحو المستقبل القادم. ونحن أُناس نعيش أيامنا قطعةً قطعةً بلا انتظار ولا ادخار زمني إبداعي للغد. فهل هناك دولة عربية في زمن الدواعش والإرهاب المعولم تعرف مستقبلها؟ وكيف سيأتي نهار جديد هي تنتظره؟ على جانب آخر لا ننشغل كثيراً بماهية القادم، أدواته، أشكاله، ولا لماذا نترقبه. نحن نقول "دع الملك للمالك" في ضربة نرد ثقافي لا تنتهي إلى شيءٍّ واضحٍ. وغدت التعبيرات الجارية هروباً من الواقع المأزوم خوفاً من مواجهته. فيمسي القول الديني" اعقلها وتوكل" مبرراً لإهمال المشكلات وتفلتاً من ابتكار حلول جديدةٍ. والسؤال بوصفه مطرقة غليظة قد يحدث استفاقة لكنها لا تلبث أن تخبو. فالإجابات سالفةُ التكوين قبل الاستفهام. كما قد لا نشق على أنفسنا بحفر الطرق الوعرة.
2- خطورة مسار السؤال الذي يذهب بعيداً. حيث يحاول البحث عن المجهول، عن الأسرار الخفية للأنظمة المتباينة معرفياً وسياسياً واجتماعياً. في الثقافة العربية تنقطع الأسئلة طويلة الأمد، فهي تهدف إلى التبرير الآني للأوضاع القائمة ليس إلاَّ. فقط إذ يُتحرَر الاستفهام من ذهنية القطيع يفتح أعيننا على المختلف. لهذا كثيراً ما تُجهِض الأسئلة عن القيام بأدوارها. هناك تساند(تواطؤ) خفي بين إبقاء الوضع كما هو في المجتمع وبين الإجابات. فالواقع يبرر نفسه في إطار حقائق مهيمنة. وليس أمامه سوى أن يقمع أي سؤال مضاد. وحتى إذا حاول هذا السؤال حلحلة الوضع سيكون رد الفعل أكثر عنفاً. لأنه في تلك الحالة يهدد محيطاً واسعاً من تبرير لا يرى غير نفسه. هنا تعد الإجابة ولو كانت خاطئة أشرس من أي سؤال وربما تنقضي مئات السنوات لزحزحتها.
3- وجود سلطة ما متوجسةً، قلقة من احتمالات نشاطه المؤثر. وما أكثر التوجس من أي استفهام يسبب إحراجاً عاماً أو خاصاً. ذلك يفسر كثرة السلطات في واقع لا يعرف إلاَّ الغلبة والقسوة من السياسة إلى الاخلاق مروراً بالدين وبغيرهما. الثلاثة تفترض انكشافاً لقضايا وموضوعات لم تكن لتبدو من أولِّ وهلةٍ. والثقافة العربية في أغلبها آليةٌ وممارسة غارقتان في الغموض. وهو لا يأتي صدفة، إنه ليس ترسباً خارج التاريخ. هو ظاهرة وجود في صلب الحياة اليومية.
هكذا كانت اللعنات بعدد أفراد المجتمعات العربية. باحتمال أنَّ كلَّ فرد معرض للإصابة بفيروس الاستفهام. كلما يولد شخص تولد بجواره لعنة تستعد لالتهامه في أيِّ وقت. بينما الأسئلة بطبيعتها نشاط يضعنا في مرمى الخطورة. لأنَّه يأتي بصيغة الانتهاك، وضمن التحليق بعيداً إلى درجة التمرد، و إثارة الشكوك بلا توقف. و بالتالي فالأسئلة لها خاصية دائرية circular. بمعنى إذا كانت محظورة فإنها تلحق اللعنة التي حُظرت بسببها تجاه من يتهرب منها. تظل تطارد المجتمع بأكمله لأنها لا تنتهي ولن تموت. فما أن تسنح الفرصة، أدنى فرصه، حتى تظهر بشكل أكثر إلحاحاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تزايد القلق بشأن صحة الرئيس الأمريكي بايدن والبيت الأبيض يحا


.. الخلافات في الداخل الإسرائيلي.. تشابكات تعقد المشهد بسبب حرب




.. تركيا تغلق الحدود مع سوريا عقب اندلاع أعمال عنف في البلدين


.. حصانة الرئيس.. بايدن يعلق على قرار المحكمة العليا بشأن ترامب




.. كلمات صمود لطفلة من غزة تتشح بعلم فلسطين