الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل أستعان أنجلس بمقدمة بن خلدون في تفسير تخلف مجتمعاتنا؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2016 / 5 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل أستعان أنجلس بمقدمة أبن خلدون
في تفسير تخلف مجتمعاتنا؟



لعل الكثير لايعلم أن عبدالرحمن بن خلدون بقدر ماكان سياسيا، وتعرض لٌلإضطهاد أيضا، فإنه بنفس القدر نفسه كان مجهولا في عصره من ناحية إنتاجه الفكري، فعندما كتب مقدمته لم يولها المجتمع أي أهمية، فأصبحت مجهولة لمدة سبعة قرون، فلم يكتشفها إلا المستشرق الفرنسي دوسلان، فتعجب منها، فقال بأن هذا رجل ومفكر كبير، و قد وضع أسس لعلم جديد سماه ب"علم العمران"، وقد سبق أوغست كونت الفرنسي الذي اعتبرته أوروبا آنذاك بأنه مؤسس ل"علم الإجتماع"، لكن لم يسمع مسلمو تلك الفترة بإنتاج أبن خلدون ولا بأفكاره وتنظيراته، وكيف أنه نبه إلى إنحطاط الحضارة الإسلامية، لكن للأسف مسلمونا اليوم يعيشون على تنبيهات أوسفالد شبنغلر بسقوط وإنهيار الحضارة الغربية وعلى أمل إنبعاث جديد للحضارة الإسلامية، وكأنهم لايعلمون أن ثقل الحضارة، بدأ ينتقل اليوم إلى جنوب شرق آسيا، في الوقت الذي أصبح فيه حتى الإسلام ذاته مهددا بفعل ممارسات وتشويهات تيارات أيديولوجية توظف هذا الدين لأهداف سلطوية، كما غاب أيضا عنهم أن الغرب واع لمختلف التنبهيات الآتية من مفكريها على عكسنا نحن الذي غرقنا في الخرافات والدروشة في عهد بن خلدون، ولازلنا نعيش في نفس الدروشة والإنحطاط السائد في العصر الخلدوني للأسف الشديد، و لا يمكن أن تقوم لنا قائمة إلا بالقطيعة الجذرية مع هذا العصر.
يعود عدم إهتمام المسلمين بما أنتجه أبن خلدون إلى عدة أسباب، ومنها أن بن خلدون قد خرج عن مألوف المجتمع الغارق في تخلفه وإنحطاطه آنذاك، وسيطرة فكر ديني خرافي عليه، لأن المسلمون قد دخلوا عصر الإنحطاط، أما هو فقد كان حالة شاذة، عندما يعلمن تفسير الظواهر الإجتماعية والسياسية، ويبعدها عن التفسيرات الدينية والميتافيزيقية، ولم يكن يجتر الكتب الصفراء القديمة التي طغت على المجتمعات الإسلامية آنذاك .
ولعل الكثير لا يعلم أن بن خلدون قد أوحى بنظرية "الدائرة المغلقة" في مقدمته عندما تتبع ظاهرة نشأة الدولة وسقوطها في البلاد المغاربية، فقد عرف تاريخ بلداننا المغاربية منذ إعتناق شعبها الإسلام ظاهرة تتكرر دائما، وتتمثل في تمرد البدو أو الريفيين على الدولة القائمة وإستغلال الدين في ذلك، لكن بعد إقامة هؤلاء دولة جديدة، ينغمسون في ملذات الحياة ويقومون بنفس ما كانوا يتهمون به أصحاب الدولة السابقة من إنحراف عن الدين والعقيدة، فيتكرر تمرد آخر بنفس الشكل والأسلوب وبإستغلال الدين، وتعاد الكرة من جديد بعد تحطيم كل ما سبق من إنجازات من قبل، مما أدخل هذه البلدان في دائرة مغلقة، تسودها الإضطرابات والفوضى وعدم الإستقرار، وقد فسر ابن خلدون جيدا هذه الظاهرة بالنسبة لكل بلاد المغرب الكبير، أفلم يحن لنا اليوم أن نقوم بقطيعة مع هذه الظاهرة بإقامة دولة ديمقراطية دون أي إقصاء كان، مع الحسم النهائي في عملية إبعاد الدين عن الإستغلال لأغراض سياسوية وسلطوية، ليسود الإستقرار التام، ونحول الصراع السياسي من صراع عنيف إلى صراع سلمي ديمقراطي، ويوجه الإنسان المغاربي طاقاته كلها إلى عملية البناء والتنمية بدل العنف والحروب، خاصة أنه بذلك سيشعر أن الدولة هي دولته، وليست بايلك غريبة عنه، لأنه يرى أن المستفيد والمتحكم فيها مجموعة فقط، وينظر إليهم كغرباء عنه.
وماتوصل إليه بن خلدون يشبه تقريبا نفس النظرية التي سيقول بها فريديرك أنجلس بعد سبعة قرون من الطرح الخلدوني دون أن نعلم إن اطلع انجلس على مقدمة بن خلدون فعلا أم لا، وكي نوضح المسألة أكثر، فقد وقع كل من ماركس وأنجلس في مأزق عندما حاولا تطبيق نظريتهم حول التطور التاريخي للمجتمعات من شيوعية بدائية ثم عبودية ثم إقطاع فرأسمالية ثم إشتراكية وشيوعية على المجتمعات غير الأوروبية كالمجتمعات الإسلامية، فوضعوا نظرية خاصة بهذه المجتمعات أطلقوا عليها "نمط الإنتاج الآسيوي"، فيرون أن إتساع الأرض وجدبتها في الشرق الإسلامي دفعت التجمعات السكانية الريفية إلى الانعزال، فتمكنت من تحقيق اكتفائها الذاتي بجمعها بين الزراعة والحرف، فبقيت منغلقة على نفسها لا تسودها أية علاقات تبادلية تجارية بين مختلف هذه التجمعات، كما لاحظ ماركس انعدام الملكية الخاصة في هذه المجتمعات، فالأرض مشاعة كما رأى ذلك بأم عينيه عند زيارته الجزائرفي القرن19م. وما دامت الملكية الخاصة منعدمة في هذه المجتمعات، فإنه لا وجود لحركية تاريخية بسبب إنعدام الصراع الطبقي الذي هو محرك للتاريخ .
ومادام لا وجود لحركية التاريخ في هذه المجتمعات، فهو الذي يفسر جمودها وعدم تطورها وبقائها متخلفة، واعتبر كل من ماركس وانجلس إن العلاقات الاجتماعية الوحيدة السائدة في هذه المجتمعات هي علاقة الحاكم المستبد الذي يجلب الخراج بالقوة من عامة السكان، وقد سميت هذه المجتمعات ب"مجتمعات ماقبل نشأة الإقتصاد الرأسمالي".
ويبدو أن هذه النظرية يمكن أن ينطبق جزء منها فقط على المناطق الزراعية في العالم الإسلامي كمصر والعراق، مما جعل انجلس يطور نظرية نمط الإنتاج الآسيوي إلى نظرية "الدائرة المغلقة"، وذلك في دراسة نشرها عام 1894 في مجلة Die New Zeit، بقوله أن هذه المجتمعات الشرقية، تتميز بديناميكية وحركية، لكن في دائرة مغلقة لا تخرج منها، ويستند أنجلس فيما يبدو إلى نظرية العصبية القبلية لابن خلدون معطيا لها طابعا اقتصاديا محظا، فيقول أنجلس أن البدو ينظرون إلى ثروة الحضر بالحسد والطمع، فيتهمونهم بعدم الالتزام بالشريعة الإسلامية بسبب البذخ والترف الذي يعيشون فيه الحضر، فيتحد البدو تحت قيادة مهدي بقبعة دينية لمعاقبة أهل الحضر المنحرفين عن مبادئ الشريعة في نظرهم، وأن هدفهم هو التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية وإعادة مايعتبرونه النقاوة للعقيدة الإسلامية، لكن بعد ما يستولي هؤلاء المتمردون البدو على السلطة، يتحولون هم أيضا إلى حياة البذخ والترف وسلب ونهب الفائض الاقتصادي للسكان، مما يجعل هذه المجتمعات –حسب انجلس- لا تتقدم اقتصاديا، ثم تتمرد قبائل بدوية أخرى ضد البدو الذين تحولوا إلى حضر، وبنفس الطريقة وهلمَّ جرً، فتكرر نفس التجارب، مما يبقي هذه المجتمعات في دائرة مغلقة لا تتطور إلى الأمام .
ولازال مجتمعاتنا إلى حد اليوم تعيش نفس الوضع، وتكرر نفس الظاهرة سواء بالنسبة لإستغلال الدين في الصراعات السياسية، مما يؤدي إلى عدم الإستقرار الضرورية لإقامة تنمية، ونجد نفس الظاهرة بالنسبة للأفكار، فهي لاتحدث أي حركية ولا إهتمام كما وقع لأبن خلدون إلا إذا كانت مغلفة بالخرافة أو أتخذت طابعا أو تأويلا دينيا إنحطاطيا، وليس تأويلا تنويريا، ويمكن لنا القول أن مجتمعاتنا هي مجتمعات طفولية تهتم بالأشياء، ولا تهتم بالأفكار، فيجب الإعتراف أننا مجتمعات متخلفة لازالنا نعيش نفس العصر الخلدوني، فإن أراد كاتبا أو مثقفا أن يكون لكتاباته وكلامه صدى في المجتمع، يجب عليك الإنطلاق من عصبيات مجتمعاتنا وعنصرياته وكراهياته الدينية، كما كان يقع في عصر بن خلدون الذي حلل الظاهرة جيدا في مقدمته، وغن استسلم المثقف لذلك فهو في الحقيقة مساهمة منه في ترسيخ التخلف أوالكراهية أكثر في المجتمع بدل مايلعب دورا إيجابيا ويصمد ويقاوم، ولهذا لايحق إطلاق تسمية مثقف عليه، وقد وضحنا هذه المسألة في عدة مقالات، ومنها مقالتنا " المثقف التنويري في مواجهة إستحمار الشعوب" )الحوار المتمدن عدد4970 ليوم29/10/2015( .
فقد عاني أغلب مفكري مجتمعاتنا من ذلك، فهم مجهولون في مجتمعاتهم، وقد تحدث بن نبي كثيرا عن ذلك، عندما يشبه نفسه ببن خلدون، ويتكلم عن ماركس الذي وجد بيئة أوروبية مستعدة لسماع أفكاره، أما بن نبي فلا وجود لهذه البيئة، كما لم يجدها بن خلدون من قبله، والتي لو وجدها، لكان من الممكن أن تقطع مجتمعاتنا آنذاك خطوات عملاقة، فليس صحيح أن سبب ذلك هو الإقصاء الذي لقيه، بل يعود إلى عدم توفر هذه البيئة التي يتحدث عنها، فاليوم نسمع البعض يتحدث عن بن نبي، لكنهم في الحقيقة لم يقرأوه أصلا، بل يعتقدون أنه عالم دين يشبه بن باديس في الجزائر، فهو غير صحيح على الإطلاق، لكن يشيرون إليه بسبب تيارات أيديولوجية دينية أرادت أن تستولي عليه لتوظيفه، لكنها بعيدة عنه كل البعد، ولو عاد بن نبي لحاربها وحاربته، لكن بسبب هذا التوظيف السياسوي سمغت الناس بإسمه دون أن تقرأه أصلا، أما التيارات الأيديولوجية التي توظفه هي عبارة عن إستمرارية لمأزق مجتمعاتنا التي أشار إليها بن خلدون ثم أنجلس، والمتمثلة في إستغلال الدين لأهداف سياسوية، والذي يجب القطيعة معها للخروج من هذه الدائرة المغلقة، وتجتر هذه التيارات الأيديولوجية المستغلة للدين عادة الفكر الإنحطاطي في الحضارة الإسلامية، أو ما أسماها بن نبي "الأفكار المميتة"، ولهذا سمع ببن نبي بسبب هذه التيارات التي سيطرت على المجتمع، وتبرز بقوة، كلما تأزم الوضع أكثر في مجتمعاتنا، ولهذا أعتبرها المفكر المصري بأنها دلالة لأعراض مرض عميق في مجتمعات العالم الإسلامي، والتي لايمكن الخروج منها إلا بالقطيعة مع العصر الخلدوني كما سبق أن اشرنا، ومنها إبعاد الدين عن التوظيف السياسوي، وهي الفكرة التي أسس لها بن خلدون، ووضحها أنجلس، وذلك من خلال الإشارة إلى الصراعات العنيفة الدائمة بإستغلال الدين مما أدى على سقوط دول ومجيء أخرى في مكانها، فأنعدم بذلك الإستقرار وثبات الدولة وديمومتها وإستمراريتها الذي يعد شرطا ضروريا لتراكم العمل التنموي .

البروفسور رابح لونيسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التركمان والمسيحيون يقررون خوض الانتخابات المرتقبة في إقليم


.. د. حامد عبد الصمد: الإلحاد جزء من منظومة التنوير والشكّ محرك




.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة