الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة مؤلمة

هشام عبده

2016 / 5 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


رحـــــــــلة مــــــــؤلمة

هي رحلة الوعي ورحلة الحياة والوجود، ومن هنا كانت البداية مع اللحظات الأولى/ لحظة الولادة والتكون ( نطفة وبويضة) ومن ثم (الوعي) .
لحظة النطفة / لحظة الولادة ، كلتاهما رحلة والطريق مؤلم ، فهما خروج وانفصال موجع عن الرحم، حيث يبدأ القلق وفقد الأمان ، في هذه الرحلة تكون حياة الغابة أكثر قانونية ومنطقية وحرية ، لكن التصور هنا ليس رومانسياً يحمل رغبة في الهروب إلى الطبيعة بقدر ما هو تصوُّر وجودي يضع الإنسان أمام مسألة وعي وجوده، هذا الوعي الذي ينفتح على همجية البشر والحروب والدمار، الوعي بلحظة الاختيار، فكل إنسان يختار طريقه بصورة ما (رسم نافذة داخل نافذة أخرى) أو اختيار الانتحار (لإنهاء هذا البؤس والسأم والحياة التي تعيشها هكذا)، وإذا رأت الوجودية أن الإنسان صاحب تفكير واختيار، وعليه تقع مسؤولية وضع القيم الخاصة به فإن العدمية الوجودية تظهر هنا في الإحساس باللاجدوى ومن ثم اختيار الموت .
تغلب على النصوص لسابقة سوداوية الرؤية وإحساس بالعدمية ، فالفرد يعيش عزلته ،ولكنه مع ذلك بمفرده، ومع هذا العالم لا أحد معه ، والحياة نظام خانق بألف يد حول الرقبة ويغلب عليها حضور الموت لا يمكن أن يغيب في هذا الكون لحظة واحدة ، إلى درجة أن الموت يصرخ (لقد شبعت) .
ومن هنا تهيمن مفردات الموت المباشرة والمفردات المرتبطة به : الغرق، النهايات، الانتحار، الحرب، الرصاص، السقوط ، الانكسار، العدم ، السأم ، اليأس ، الضجر… إلخ .
يواجه الناس غالبا خوفهم من الموت برؤية فلسفية قوامها أننا نعيش حياتنا، وعندما يأتينا الموت فنحن هنا وهذا قدرنا ومصيرنا، وهكذا فنحن نعيش في الأغلب بعيدا عن هاجس الموت عبر رؤية تضع فكرة الموت على هامش اللامبالاة ، وهذه اللامبالاة تسجل نفسها في أعماق اللاشعور أو العقل الباطن عند الإنسان، فنحن في غالب الأمر نفكر في كل شيء في مشاريعنا وفي حياتنا ومتطلبات وجودنا مستبعدين فكرة الموت وهاجسه ؛ فالأنا تتجاهل الموت وترفض وجوده في الأصل، وغالبا ما نعيش ونسلك ونتصرف في واقع الأمر وكأننا نعيش مرحلة من الشباب تتصف بالديمومة والاستمرار، وهكذا تجري الأمور وكأن الموت لا يعنينا ، فمن يموت فهذا قدره ونحن علينا أن نعيش للحياة ونبتهج بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
إن العلاقة بين التفكير في الحياة والتفكير في الموت علاقة جوهرية وبالتالي فإن ما نرفضه من الموت نرفضه في الحياة ، وبعبارة أخرى قل لي كيف تفكر في الموت أقل لك من أنت ؟! ،لأن هذا التفكير ينعكس في حياتنا ويعبر عنها أصدق تعبير .
وإن الإحساس بالعدمية لا يعني – كما يرى جوتفريد بن– مجرد بث اليأس والخضوع في نفوس الناس، بل هو مواجهة شجاعة وصريحة لحقائق الوجود، وتلتبس المواجهة بالسخرية المُرة التي ترتبط بإدراك التحولات المصاحبة للحياة المعاصرة، حيث تهيمن الآلة والتكنولوجيا على حياة الإنسان، فيتحول إلى شيء أشبه بالرجل الآلي أو بالكمبيوتر، وحياته بيانات وملفات قابلة للحذف، ويعيش الخوف أمام نسيان كلمة المرور، وبالتالي البقاء خارج العالم وفقدان كل شيء دون تعويض .
وحيث تهيمن التكنولوجيا على الحياة فتختفي العلاقات الإنسانية، والأسرة تتسمر أمام شاشة الأجهزة الذكية التي تشكل كلاً منهم على طريقتها، في حين تسجل حياة الإنسان على طابعة، هكذا تنقلب المفاهيم وتبدأ النصوص محاولة لإعادة تأويل التراث وإعادة تأويل العلاقات والأفعال .
لو .. تفتح للشيطان لحظة حرة وتجعله غير عابئ بالنهايات، تتحول الأمومة إلى غضب وإحساس بالعنف بتلك الطريقة التي أنجبته بها، كيف للطفل أن يحترم أمه ، فيتكثف الإحساس الوجودي بالوعي المصاحب للألم حيث الحياة مشوشة مثل اللامعنى ،ومشوهة تترنح تحت وطأة السأم وكثير من الفزع عند اكتشاف الحقيقة، حقيقة أن هذه الحياة تنسلُّ ما بين الأصابع دون انتباه بسرعة وبلا متعة ، فتغدو البلاهة نعمة لأنها تحمينا من وعى الحياة ،وفهم الموت على وجه كامل، إذ يقود الوعي إلى الذعر .
الإنسان ينجب ويعمل لكنه لن يموت مرتاحاً مطمئناً، الفكرة تسقط وتنكسر، والسعادة زيف، والإعلان عن العيش بسعادة هو تلاعب في اللفظ يُخفي الحقيقة (لقد كنت سعيداً بالعيش معكم ،لكن الإشارة في هامش النص تقلب المفهوم ،إذ تقر بوجود تلاعب في الألفاظ في الأصل) ، بالتالي فإن كل ممارسات الحياة هي مجرد وهم وخداع من الإنسان لنفسه ،ولا يبقى غير اللجوء إلى الموت والاستسلام له .
جهنم تلائم هذا العالم الشيطاني – تلائمه تماماً، أعماقها العدمية تمت خياطتها على مقياسه المشوه ،إذا ما دخلتِ مساء إلى القبر/ لا تغلق وراءك الباب، فيصير القبر ملاذاً ومسكناً، ونار الجحيم للتدفئة ،والأمر مسألة وقت ويمكنك التعود على كل شيء .
والسؤال الجديد الذي يمكن أن يطرح نفسه هو هل نحيا مع الموت ؟ وهل نموت لحظة بعد أخرى ؟
والجواب هنا : نعم الموت هنا إنه قاب قوسين أو أدنى، إنه الموت الذي يوجد في أصل الحياة ذاتها ، فالجسد يعيش حالة موت حقيقية تتمثل في تراجعه وانهياره وتفككه تدريجيا مع الزمن ، أليس تلك هي حالة من حالات الموت، أو نقلة مرحلية في اتجاه الموت ، فنحن في كل الأحوال نعيش مع الموت وفي جواره ونستريح في ظله وفيه ، أليس علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة العلمية التي تقول بأن الإنسان يغير كل خلايا جسده بالمطلق باستثناء خلايا الدماغ ، أليس هذا موتا حقيقا وولادة متجددة للجسد بعد موت .
فجسدنا يموت ويحيا كل سبع سنوات ، فالموت إذن حقيقة حيّة في الجسد، حقيقة ترافق الجسد وتؤازره في آن واحد .
إن مشكلة الموت الحقيقية تتمثل في خوفنا إزاء النهاية ، فالموت هو النهاية والعدم، ونحن باستبعاد هذه النهاية نريد حياة لا موت فيها، وكأننا نريد للزمن أن ينسانا وللموت أن يتجاهلنا إلى ما لا نهاية. وإذا كانت الحياة تريد أن تكون كلية وشاملة أليس من حق الموت أن يكون كذلك؟ فلما خوفنا إذن من الموت ولما هو الجزع من لقائه ؟ ألا يعود هذا الخوف إلى واقع أننا ألفنا الاستمرارية في الوجود؟ نعم إنه لمن المؤكد لأن "الأنا" فينا يميل إلى الاستمرار في الوجود بعد أن رسخت فيه لذة الحضور ونمت معه روابط الانتماء إلى الحياة بكل ما فيها من أفراح مؤقتة وأحزان وألام . وهذا الارتباط يجعل الأنا في حالة من الرعب والخوف المجرد من الموت، لأنه يمثل قطيعة وجودية عدمية. ولكن هل يمكن لهذه الاستمرارية في الوجود أن تستمر دون نهاية؟ ألا يمكن لهذه الرغبة في الوجود أن تتعرض للتراجع والانهيار؟ إن القول في هذا السياق أن كل شيء يبحث عن نهاية هو قول لا يخلو من الحكمة.


هشام عبده








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس