الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استعارات التأسيس الديني: كما لو As If

سامي عبد العال

2016 / 5 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لربما كان نموذج الايمان الديني كـ "فعل وجود" هو الأضعف والأقوى معاً. الأقوى من جهة العمل وفقاً لآثاره دون تحسُب للعواقب. والأضعف لكونه يحمل عالماً ليس من ضمانةٍ له إلاَّ الفرد. وحدها أيةُ قرائن إيمانية لا تساوي عالَّماً متولِّداً عنها أو سابقاً عليها. إنّها الرغبة المسؤولة عن (تقديس) الغيب كأنك تراه لينسحب على ما يخرج من ذات المصدر وما لا يخرج. فيجيء الغيب مؤسَّساً تاريخياً، بل يأتي نظاماً للحياة. بالتوالي هناك: الغيب السياسي، والغيب المعرفي، والغيب الاجتماعي، والغيب النسوي والغيب الذكوري. مجتمعاتنا تعيش غيبيات أكثر مما تعيش في واقع. ولأن الغيب قريباً من الغياب فمازلنا نفتقد حضوراُ ملموساً لصالح غياب حضاري طويل. هذا الكهف العربي الاسلامي الذي لا يرى بارقة ضوء.
لا يكفي كلُّ ذلك الكون المتغير، كلُّ هذا التطور الخلاق بعبارة برجسون. إذ تترسب الغيبيات تراثاً قابلاً للترديد باتساع الأفعال الثقافية. إن نصوص ابن تيمة وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب وحسن البنا لها سلطة أكبر من أية دولة. تبدو دول العرب قاطبة دويلات بجانب نصوص هؤلاء في مخيلة الاسلاميين. فالقضايا السياسية والمعرفية الواردة في الموروثات نتيقن من صدقها بضمان غيبٍ ليس لها ابتداءً. لأن عالم الدين كله أصبح استعارة لحياة عقيدية أصيلة أصالة الإله. والنماذج بذلك التّعيُن آليةُ حقائق وإنتاج ليقين فوري بلا انفتاح. مع أنَّ الأخير(أي اليقين) في شتى الاحتمالات يحتاج عمليات نقديةً وبراهين ونقاشاً.
مناط ذلك هو التفكير الاستعاري الذي يوحد بين المعتقدات وبين عالم الأشياء. إنَّ الأساطير والوثنيات القديمة ضروب من استعارات تُخلع على الأشياء. وبهذا تتخلق الآلهة في أشكال ممسوخة مألوفة و غريبة. ورغم اختلاف العصور لم تتوار الاستعارات المقدسة ببقاياها السارية. قد تتسلل خفية مع النص الديني وأيديولوجياته. فهذا القاع المجازي غائر احساسنا بالأشياء. الأيديولوجيات الإرهابية أنظمة استعارية أشبه بالحفريات المنقوشة في الدماغ البشري. ومع التقدم التقني لا يُهال عليها التراب لكنها وثائق بدائية تخرج مع العنف الديني والصراع المذهبي.
للتو نظراً لعجز العقل عن معرفة الأشياء في ذاتها nomena كما يذهب كانط، فالإنسان ينَّشْط الاستعارات للقيام بهذا الدور. فهي مجازات لمعانٍ لا تحضُر عملياً بأسباب الطبيعة. حين يخفق الإنسان في بلوغ شيء يصوغه بواسطة استعارة تلامسه. هو لا يدرك ميتافيزيقا المقدس خارج مستوى الإدراك العادي، فكان عليه أنْ يطاله باللغة. هكذا الاستعارة ذات فاعلية تأسيسية في قضايا الدين والسياسة والمذاهب.
إذن خاصية التأسيس في الثقافة الاسلامية تُطرح بصيغة "كما لو" as if. فتجري المفاهيم والنصوص والأفعال والحقائق والهوية كأنَّها كذا. على أن نفتح عقب الــ" كذا" قوس الأخيلة والمعاني المرتهنة بطرائق التفكير حول العالم والتاريخ. هي كل شيء، ولا شيء يُستثنى إلاّ إنكارها فقط. فالدلالة المعجمية العربية للتفكير تؤكد على التعقل، التأمل بما هما دائران خلال نسق ثقافي مغلق. ليس فكرنا اجتراحاً نحو أفق مخالف لكنه اجترار القديم ومضغه حتى الاختناق. العقل لدينا من عقال البعير، الرباط الذي لا حلَّ منه. ليكون التزاماً صارماً بالاعتقاد السائد. فهو مقيدٌ بإرادة الجماعة؛ أي عقل مدجن في حظيرة يحرسها الفقهاء بعناوين مختلفة. ومن بإمكانه الإطلالة ولو سنتيمترات ستطاله تهمة ازدراء المقدسات.
من ثم يُستعمل النص الديني كأنَّه واقع فعلي يتمثل(ويمسرَّح) في شخوص وقضايا. اللغة مسرحية انطولوجية واسعة النطاق. وربما مفهوم ما( كمفهوم الجماعة المؤمنة) يجري كما لوكان "حقيقة" بينما هو محض تصور سردي. تماماً مثل العلاقة مع الأغيار، أية علاقة، تنعقد كأنها تسامحية، بيد أنها رغبة تنتهك الحد. بنفس الأسلوب تستعمل المجتمعات الاسلامية المصطلحات الحديثة كالديمقراطية والأحزاب والبرلمانات بالأسلوب نفسه. فهي ليست مؤسسات ولا أبنية سياسية لكنها خيال نفعي يدير الشأن العام. وفي أوقات الأزمة يدار بمنطق الغزوات كما كان السلفيون يسمون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بمصر غزوات الصناديق. لأن الاستعارة الدينية الجهادية أكثر تعبيراً عن غرائز الجموع.
مسرح الواقع لدينا أحد أصناف التمويه الاستعاري الزلق. لا يوجد واقع موضوعي لكن وقائع لسبي جماعي في شكل مصالح وغنائم. فكان منطقياً الهيمنة على اللغة كلاهوت اجتماعي مرتبط بقبيلة الإيمان. إذن التأسيس صناعة ثقافية تتدخل فيها طرائق التخيل وأنماط العيش الموروث. لعل الخيال الثقافي يلعب دوراً رئيساً في إفرازه بكامل تواجده الحي. وما من جماعة تدخل العمل السياسي إلا وتستعيد ذاكرتها الرعاعية.
ليس أقرب إلى الفكرة من استعمال نصوص الدين وقصصه كسرديات تقرب المعنى. فكل جماعة دينية تمتلك سرداً استعارياً لمعتقداتها أيا كانت. والاستعارات أقرب الأشكال البلاغية لضخ الحقائق عبر نصوص متداولة. إنَّ استعارات القوة والنقاء والخلوص والطهرانية تغلف تصورات الدين وتشكله في لا وعي المؤمنين. وهي أحلام تأخذ أصحابها إلى تحديد موضوعات الممارسة والتشوف إليها. لدرجة أن تلقي العبارات وترديدها يشعرهم بحلول روح عميق داخل أرواحهم. وكلما عاشوا في استعاراته التأصيلية كانوا على اتصال مع دراما النص. فالمعاني تغدو تمثيلية، هذا الصراع بين الأخيار والأشرار، بين المؤمنين والكافرين، بين الطوائف والنِّحل حتى يواكب الشحن الاستعاري للمفاهيم.
ارتبطت الاستعارات دوماً بمعطيات حياتية. فالسراب- مثلاً- امتلاء مجازي لمساحة من التصحر مع قيظ الظهيرة. وهو خيال بيئي حول أشياء قريبة من هذا التجسد. ويستعمل السراب كتعبير عن خداع يكمن في أحلامنا وأفكارنا وحجم العلاقة بالآخرين. كما أنَّ السحب استعارة للمياه التي ستمطر ترقباً للنماء والحياة الرغدة. وفي هذا تكشف كل استعارة كيف نفكر في ماهية الأسس؟ وهي تجري عادة بصيغة كما لوas if . المدهش أن الأسس تأتي بصيغ متعددة كضروب من المعاني القادرة على تأكيد الاستعارات ثانية. فلو قلنا إنَّ النص يتحدث عن حقيقة ٍ فإنه يعبر عنها بعبارات اليقين المباشر. ونظراً لأنه في النهاية لغة فلن نتمكن من امساكها تماماً. إذن سيواصل استعارته حتى تشكل الحقيقة كما يقول نيتشه استعارات داخل أخرى كجوفٍ لمرايا منعكسة هي اللغة ذاتها.
إنَّ الميتافور metaphor دالة على ما وراء الحركة بين مدلولين يتحول أحدهما إلى الآخر لرسم صورة مبتغاة. المثال الأبرز حينما نستعمل صورة الشمس كدلالة على القٍ شخص ما يأخذ مضامين العلو والسمو. هكذا كل المفاهيم الكبرى حول النصوص المقدسة والخلافة والحاكم والسلطة تسكنها استعارات شمولية بطريقة أو أخرى. إن الاستعارة حفرية في كيفية ارتحال المعاني وهجرتها تبعاً لنظام الاعتقاد السائد اجتماعياً. وهي من هذا الجانب تمثل جهازاً بلاغياً لتشغيل ماهية التصورات وآليات الخطاب المتداول.
والاستعارة مزيج من الصور الحسية والشعورية معاً. لأنَّها نتاج أساطير تدمج الأكوان والكائنات بشكل عجائبي. مثل العقل الجسدي، الجسد المتسامي، العاطفة الكونية، الإنسان الحيوان، النبات المؤنسن. تخليط لعناصر لا تجتمع معاً. كان المسلمون ومازالوا يعيشون في سراويلها إلى اليوم. فالخليفة هو أمير المؤمنين، ولي الأمر، ولا يجوز الخروج عليه، ولا يصح الدين إلاَّ بوجوده، واهب الأرزاق، وفالق الحَبَّ والنوى، طاعم الرعية وجالب الخيرات. قال عنه ابن تيمية: لاحتمال ستين عاماً من الظلم والاستبداد أهون من مبيت ليلةٍ واحدةٍ بدون سلطان. استعارة الإله في حاشية حاكم بقدرات خارقة. فيضيِّع الدين من جميع جوانبه لأجل البقاء في كرسيه. وهو كرسي العرش الشاغر دوماً إلاَّ من إله صغير يتلاعب برعيته. كل ذلك تحت كما لو. وبالتالي يتسيَّد السلطان بالفقهاء" كما لو" كان بأمر صحيح الدين. وكما لو كان ثمة قانون طبيعي يؤيد ديمومته.
ولهذا لن تحدث استفاقة للفكر الديني إلاّ بجعل "كما لو" موضوعاً مفتوحاً للفعل المتطور. فلئن اُشبعت هذه الصيغة بالخيال الرومانسي لقصص الدين وسير أقطابه وأصحاب المذاهب فإن ثمة أفعالاً تنتظرها راهناً. صيغة "كما لو" تفخخ الواقع الحياة لصالح خيال متشبث بحياة ماضوية بديلة. كانت سلفية مرةً ووهابية غيرها وإخوانية سواها وداعشية تالياً... إلى أخر التناسل الاستعاري. وتلك الصور أردية مستعارة بدلالة القداسة ليلبسها المسلمين المعاصرين تحت لافتة الدين. ومع أنَّ الدين لا يفرض بحكم روحانيته جسداً ثقافياً محنطاً اسمه السلفية أو الوهابية إلاَّ أننا نرى هؤلاء الأيديولوجيين مومياءات نصية من لحاهم حتى أخمص أقدامهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة


.. وجوه تقارب بين تنظيم الاخوان المسلمين والتنظيم الماسوني يطرح




.. الدوحة.. انعقاد الاجتماع الأممي الثالث للمبعوثين الخاصين الم