الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحاجة إلى ثقافة عربية متسامحة

عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب

(Abdeljebbar Lourhraz)

2016 / 5 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نود أن نشير ، منذ البداية ، أننا لا نسعى ، عبر هذا المقال ، إلى تبخيس ثقافتنا العربية الإسلامية أو التنقيص من شأنها ، و لا إلى التعبير عن رؤية تشاؤمية عدمية همها جلد الذات ، بل نسعى إلى التعبير عن فكرة مفادها أننا في حاجة ماسة إلى ثقافة متسامحة نكرسها ، كعرب و كمسلمين ، في وجداننا الجمعي ، تكون نابعة من فلسفة تنويرية شبيهة بتلك التي بلورها في أوروبا فلاسفة عصر الأنوار، و كرستها ، في أوطانها ، فيما بعد ، شعوب و حكومات العالم .
فكيف يمكن تحقيق هذه الحاجة على أرض واقع عربي تنخر جسمه الثقافي أصوليات متصاعدة و صراعات طائفية و مذهبية ، و يسود فيه ، و بشكل صارخ ، التعصب بدل التسامح ، و العنف و العنف المضاد بدل السلم و المسالمة ؟
للإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي ، وجب القول أن هناك بقايا وظيفية مترسبة علقت منذ قرون في وعينا تعود في أصولها لبنيات ثقافية و اجتماعية و فكرية و نفسية متجذرة ، ( 1 ) ارتبطت بالنزعة الأبوية الذكورية ، و بالعصبية القبلية ، و بغلبة الجماعة على الفرد ، و طبعت العائلة و القبيلة و السلطة بطابع انقسامي يقصي من دائرة وجوده الآخر الغريب ، ذلك الكائن الدخيل على ثقافتنا .
انقسامية صيرتنا كائنات آدمية مدمرة من الداخل ، مفتقرة لقيم تعايش تتغذى على ما هو مشترك فينا، و تنتعش و تستمر في الوجود و تحيى على ما هو مغاير فينا أو مختلف عنا.
انقسامية كانت وراء هذا التشرذم و هذا التجزيء الذي أذكى نيران الصراع الديني و الطائفي و الإيديولوجي ، و مزق نسيجنا الثقافي .
انقسامية جعلتنا أمة تبدو للأمم و للثقافات الأخرى و كأنها بدون عمق تاريخي و حضاري .. أمة عاجزة عن فعل أي شيء من أجل الخروج من ظلمات التكفير و العنف و العنف المضاد.
صحيح أن كل أمم العالم قد عاشت التعصب في تاريخها السحيق، مثلما عشناه نحن ، و لا زلنا نكتوي بنيرانه الملتهبة،( سقراط اتهم بإفساد عقول الشباب ، فحوكم و أعدم بتناوله السم ، و جان دارك ، عذراء أورليان ، اتهمت زمن محاكم التفتيش بالهرطقة ،فحوكمت و أعدمت حرقا، نفس المصير لاقه من بعدها و جوردانو برونو لتبنيه نظرية كوبرنيكوس حول دوران الأرض ( 2 ) ، و ابن رشد، هو الآخر ، اتهم بالزندقة فأحرقت كتبه .. و القائمة في هذا الباب طويلة .. ) ، لكن هذه الأمم لم تظل مكتوفة الأيدي ، بل تخلصت من هذا التعصب المقيت ، و ذلك من خلال تفكيك دوغمائيته و إخضاع أنظمته المتجذرة في لاوعيها الجمعي لمحك التفكير النقدي و العقلاني السليم المعتمد على المساءلة و المكاشفة و الحوار الهادئ الرزين ، و هي بفعلها ذاك ، استطاعت الخروج من هذه الدائرة اللاحضارية و نقل قيمها السلبية من مستوى اللاوعي إلى مستوى الوعي .
أما نحن، فقد بقينا سجناء قيمنا السلبية و غلونا في الاعتقاد بالأشياء بشكل مطلق، في عالم متغير باستمرار يرى الحقائق دائما نسبية تدفع إلى الإيمان الراسخ بالتعدد و الاختلاف و المغايرة .. إيمان يجعل من التسامح موقفا إيجابيا من الآخر .. ذلك الدخيل أو الغريب عن ثقافتنا، الموجود في صميم ذاتنا ( 3 ).
كما بقينا ، أيضا ، منذ اندحار ثقافتنا العربية الإسلامية مع الغزو المغولي و التتري رهن إشارة " دوغمائيات عقيمة " و " لامعقوليات خفية " معتقدين أنها من مخلفات سلفنا الصالح ، و هو منها براء ، منغلقين على أنفسنا ننتظر الذي يأتي ..
و لم يأت سوى الخراب و الدمار و هذا الانقسام الطامس لهويتنا الحضارية ( 4 )
ينبغي أن نعلم أن الثقافة ليست وعاء حاملا لقيم الأجداد و معتقداتهم و فلسفاتهم، بل هي منظومة منتجة للمعايير الموجهة للسلوك الإيجابي عن طريق ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية و التربية و التعليم العقلاني السليم و الرشيد. و معنى هذا أن سيادة التعصب و العنف في مجتمعاتنا يوضح ، بالملموس ، أننا قد فشلنا كمنظومة قيم اجتماعية و دينية و أخلاقية في تحقيق توازن نفسي و اجتماعي لهذا الكائن الإنساني الذي يسكن دواخلنا الذي نسميه بالإنسان العربي. ( 5 )
كما ينبغي أن نعلم أن العنف طاقة غريزية كامنة، يستوي فيها الحيوان مع الكائن الإنساني، تستيقظ عند حالات دفاعية أو هجومية. يمارسه الحيوان على ضحيته لحفظ بقاءه ( 6 )، أما الإنسان فإنه يمارسه بسبب الخوف و القهر المسيطران عليه. العنف بهذا المعنى ، هو صنيعة من صنائع المنظومات الثقافية التي تعيش أزمة خيارات ، أزمة تقديم بدائل جديدة في مشروعها الثقافي .
و الخروج من متاهة العنف يستلزم تأسيس مجتمع متسامح يقوم على التعدد و التنوع و التواصل و الحوار و إعمال العقل ، و على العلاقة الإيجابية البناءة مع الآخر القائمة على غض الطرف عن أخطاءه ، كما يستلزم ، أيضا ، تبني مشروع ثقافي تنويري مسالم ، نتوخى منه طرح أسئلة أنوارية على أنفسنا، شبيهة بتلك التي تولدت بفعل التفكير النقدي الكانطي ، لكشف أوهام عقلنا العربي السياسي و الأخلاقي المتماهي بالمطلق. فبفضل أدوات النقد التشريحية سنستطيع ، و لا شك ، اقتحام طابوهاتنا و استنبات حداثة فكرية سيؤسسها مثقفون عرب ( 7 ) يماثلون في عبقريتهم عبقريات كانط و فولتير و ديدرو و مونتيسكيو و لوك و ميكيافللي و هيردر و غوته و شيللر و ليسينغ و هيجل .
لنتعلم من جان لوك حين رفع في رسالته في التسامح شعار : " حريتي تنتهي عند ابتداء حرية الآخرين ، و فولتير ، حين عبر عن استعداده بالتضحية بحياته من أجل الدفاع عن حرية الرأي المخالف لرأيه، و مارتن لوثر ، حين حارب استخدام الإكراه في شؤون العقيدة و الإيمان .و إدغار موران ، حفيد هذه السلالة الأنوارية، حين اعتبر التسامح ضرورة من ضرورات الديمقراطية و مبدأ أساسيا لها إلى جانب مبدأ المساواة و العدل و مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ، و حكيمنا ابن رشد لما اعتبر أن " الحق ( الشريعة ) لا يضاد الحق ( العقل ) بل يوافقه و يشهد له " و لما تلمس العذر للآخر المتمثل في الفلسفة اليونانية حينما قال : " فما كان موافقا للحق قبلنا به و سررنا به و شكرناهم عليه و ما كان غير موافق للحق نبهنا عليه و عذرناهم " ( 8 )
ألا يعتبر تلمس العذر، هنا ، للآخر قمة التسامح !!!
إذن ، لقد بات من الضروري التفكير بجدية في العمل ، على المستوى الديني ، تقريب المسافات و تذويب الخلافات بين المذاهب الفقهية ، التي يعمل اختلافها على إذكاء روح التعصب المدمر ، و محاولة عقلنتها عبر إخضاع مسلماتها للمساءلة. فخلاص النفوس لا يكون أبدا من شأن المخلوق ، بل يكون من شأن الخالق سبحانه و تعالى ، و لا أحد قد فوض لفعل ذلك سوى الأنبياء و الرسل ، و إلا فقد اعتبر ، " مزدريا الجلالة الإلهية " كما قال جون لوك . ( 9 )
هوامش

( 1 ) يشير هشام جعيط إلى هذه النقطة انطلاقا من تحليله للبنية العتيقة للشخصية العربية التي تتأسس عليها الدولة العربية المتصفة بالوهن و اللاعقلانية و بالعنف بسبب ارتكاز هذه الأخيرة على العصبيات و العلاقات العشائرية . أنظر إلى " مفهوم الدولة عبد الله العروي . الطبعة التاسعة 2011 – المركز الثقافي العربي الدار البيضاء – المغرب ص : 196
( 2 ) " علماء النهضة الأوروبية. د . أيوب أبو دية أيوب عيسى. دار الفارابي . بيروت . لبنان ص: 89 . الطبعة الأولى 2011 برونو
( 3 ) " النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية " إدغار موران . ترجمة د . هناء صبحي. الطبعة الأولى. هيئة أبو ظبي للثقافة و التراث، كلمة، 2009 ص 93 )
( 4 ) تاريخ موجز للفكر العربي د . حسين مؤنس . دار الرشاد . الطبعة الأولى 1416 ه – 1996 م ص 330
( 5 ) " الثقافة العربية بين الاستبداد و التحرر " علي حسون لعيبي . محلة الجديد عدد 2 مارس – أدار – 2015 ص 140
( 6 ) " رسالة في التسامح " فولتير . ترجمة هنريت عبودي . طبعة أولى 2009 – دار بترا للنشر و التوزيع ص 48

( 7 ) تحدي الحكم الديمقراطي في البلدان العربية . نادر فرغلي . ضمن كتاب هل تتوافق الديمقراطية مع الإسلام . دار الفارابي – بيروت – لبنان . طبعة أولى 2009 إدارة عبد الله حمودة ، دينيس بوشار ، و ريمي لوفو . ص :345 . تنسيق جوديث كاهين و مشاركة مجموعة من الباحثين و قد ترجم عن الفرنسية من طرف رياض صوما . أصل الكتاب : >
( 8 ) " سوسيولوجيا العنف " . ابراهيم الحيدري . دار الساقي . الطبعة الأولى 2015 ص – ص 283. 284

( 9 ) " رسالة في التسامح " جون لوك . ترجمة منى أبو سنه . مراجعة مراد وهبة. المجلس الأعلى للثقافة . ج م ع . طبعة 1997 ص – ص 24 – 25








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رأي شخصي راديكالي
غـسـان صــابــور ( 2016 / 5 / 13 - 19:50 )
إن كنت حقا ترغب إدخال المسامحة والتسامح إلى شرائع وعادات وقوانين العرب والمسلمين. يجب قبل كل شيء تغيير أنظمة التعليم منذ الدارس الابتدائية, وتفريغها من تعاليمها الدينية المرعبة المخيفة التي تهددنا بجهنم وبئس المصير. وبالتالي تفريغ جميع القوانين من مستقياتها الدينية, واستبدالها بالقوانين المدنية التي تطبق بكل العالم المتحضر منذ مائتي سنة على الأقل.. بينما نحن ما زلنا نطبق قوانين داحس والغبراء الصحراوية ونجلد ونقطع الرقاب والأيادي, أمام الأطفال بالشوارع العامة...
يا صديقي.. ما عليك ســور الرحيل إلى المريخ.. أو إلى أية بقعة من العالم.. لا ترى ولا تسمع فيها ــ على الإطلاق ــ لغة الضاد.. إن شئت أن ترى بشرا يمارسون التسامح والعقل والحكمة.. والإنسانية الحقيقية, والتآخي بين البشر. مع أصدق تحية مهذبة..


2 - رأي شخصي راديكالي
غـسـان صــابــور ( 2016 / 5 / 13 - 19:51 )
إن كنت حقا ترغب إدخال المسامحة والتسامح إلى شرائع وعادات وقوانين العرب والمسلمين. يجب قبل كل شيء تغيير أنظمة التعليم منذ الدارس الابتدائية, وتفريغها من تعاليمها الدينية المرعبة المخيفة التي تهددنا بجهنم وبئس المصير. وبالتالي تفريغ جميع القوانين من مستقياتها الدينية, واستبدالها بالقوانين المدنية التي تطبق بكل العالم المتحضر منذ مائتي سنة على الأقل.. بينما نحن ما زلنا نطبق قوانين داحس والغبراء الصحراوية ونجلد ونقطع الرقاب والأيادي, أمام الأطفال بالشوارع العامة...
يا صديقي.. ما عليك ســور الرحيل إلى المريخ.. أو إلى أية بقعة من العالم.. لا ترى ولا تسمع فيها ــ على الإطلاق ــ لغة الضاد.. إن شئت أن ترى بشرا يمارسون التسامح والعقل والحكمة.. والإنسانية الحقيقية, والتآخي بين البشر. مع أصدق تحية مهذبة..


3 - رأي شخصي راديكالي Bis
غـسـان صــابــور ( 2016 / 5 / 13 - 20:40 )
يرجى النشر على مسؤوليتي :
إن كنت حقا ترغب إدخال المسامحة والتسامح إلى شرائع وعادات وقوانين العرب والمسلمين. يجب قبل كل شيء تغيير أنظمة التعليم منذ الدارس الابتدائية, وتفريغها من تعاليمها الدينية المرعبة المخيفة التي تهددنا بجهنم وبئس المصير. وبالتالي تفريغ جميع القوانين من مستقياتها الدينية, واستبدالها بالقوانين المدنية التي تطبق بكل العالم المتحضر منذ مائتي سنة على الأقل.. بينما نحن ما زلنا نطبق قوانين داحس والغبراء الصحراوية ونجلد ونقطع الرقاب والأيادي, أمام الأطفال بالشوارع العامة...
يا صديقي.. ما عليك ســوى الرحيل إلى المريخ.. أو إلى أية بقعة من العالم.. لا ترى فيها ولا تسمع ــ على الإطلاق ــ لغة الضاد.. إن شئت أن ترى بشرا يمارسون التسامح والعقل والحكمة.. والإنسانية الحقيقية, والتآخي بين البشر.
مع أصدق تحية إنسانية مهذبة.
غـسـان صــابــور ــ لـيـون فــرنــســا

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب