الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكاليات المثقف النخبوي

كاظم الواسطي

2005 / 12 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تميز دور المثقف العربي ، في العهود السابقة ، بالاشتغال على مفاهيم ومقولات ومسبقات فكرية ، اختزلت وجوده كداعية ، وناطق باسم الحقيقة أو الأمة ، والمدافع الذي لا يقبل لومة لائم عن تراثها ، الذي أراد له ، هذا المثقف ، أن يبقى محفوظا كما هو في ذاكرته المغلقة ، وعن قيمها ، التي أراد لها أن تبقى (خالدة)في أحكام التاريخ ، وصالحة لكل الأزمنة والدهور . وقد أعطى هذا المثقف لنفسه الحق المطلق في تفسير تراث وتاريخ الأمة بالشكل الذي يجعل من حاضره منتفخا بالمنجز الجاهز ، الذي لم ولن يوجد نظيرا له في مساحات الأرض الأخرى . وبهذا الاحتفاء اليوتوبي المجرّد يُسعد المثقف النخبوي ذاته البائسة بنرجسية واهمة ، وزائفة . إن هذا الاحتفاء اليوتوبي ، يضخم عاطفة التعالي على الوقائع والمتغيرات التي تحدث من حوله ، والنظر إليها من عدسة أفكاره المضببة بصور الماضي ، وإنجاز الأسلاف . وهذا ما يجعل مفاهيمه ، ومقولاته التي يحاول فرض تداولها في المجتمع ، ذات تأثير سلبي على الفعالية الثقافية والفكرية ، التي تنمو وتتطور بالإبداع والابتكار، وتحديث سلوكيات الأفراد .
إن الثقافة النخبوية تنتج مكوناتها الرمزية والمادية وسط شريحة أو فئة اجتماعية ،تتناغم مصالحها مع المفاهيم والأفكار التي تحافظ على خزائن الوهم في عقولها ، مادامها لا تضر بكنوز المال التي تتربع عليها . إن ثقافة معزولة ، لا تعمل على فكرة الانتشار والتبادل أو الاغتناء بمتغيرات الحدث ، ومواجهة مفاجآت ما سوف يحدث ، تُبقي المجتمع في دائرة المراوحة ، والتراجع المستمر إلى الحد الذي يكون فيه الانكفاء والعجز أو الفوضى والعنف من المكونات الأساسية لهذا المجتمع . إن المثقف النخبوي ، الذي تتعارض مفاهيمه الأحادية المغلقة ، وتعترض على أية قدرة أو محاولة لتوليد أدوات عمل وابتكار وسائل فكر جديدة تنشّط غرائز الحياة ، يمهد الطريق لتوالد خلايا الفكر الأصولي ، وتخصيب ثقافة النبذ والإقصاء للآخر ، وكراهية المختلف . لقد أنتجت تلك الثقافة دعاة وعقائديين وسياسيين ، يمتازون بنرجسية عالية ، وتعالٍ لا يسمح لهم بقبول النقد من الآخر ، ولا يسمح للآخر بالاختلاف عما يفكرون به . بل يقومون بمهاجمة الآخر ،من أية جهة كان، وتشويه صورته ، بكل الوسائل المتاحة والمبتكرة، إذا ما حاول النظر بزاوية مختلفة إلى مشاريعم وأفكارهم ، التي منحوها الحق المطلق بتمثيل الحقيقة ، وتجسيد طموحات الأمة التاريخية . وقد وجد سياسيو مجتمعاتنا العربية ، في تلك المشاريع والأفكار ، حاضنة لمنازعهم في التسلط الفردي ، والتعامل مع الجمهور بتراتبية تبيح تهم الجلوس على قمة الهرم الاجتماعي . بل اعتبروا الجمهور مجرّد (كتلة عمياء) يمكن التدخل بحرية في تكوينها بالشكل الذي يريدون . ووجدوا في عماء الفكر النخبوي ، وانغلاق الثقافة النخبوية على مجموعة من المسّلمات والأنساق المحفوظة في ذاكرة التراث ، حجة لقناعاتهم الكسولة بواقع الحال ، كما هو ، بدون رغبة في التغيير أو محاولة لتفهم ما يحدث من حولهم . لأن مثل هذا الأمر ، يتطلب جهدا مغايرا ، وزحزحة لتلك القناعات . ووصل الأمر إلى أن الكثير منا مازال خاضعا لسحر تلك الثقافة ، باعتبار العمل الجيد ، في أيّ حقل من حقول المعرفة أو السلوك الاجتماعي ، نخبويا بامتياز التعالي على غيره . لقد ساهم المثقف النخبوي ، بمشاريعه النظرية المجرّدة ومقولاته العقائدية المغلقة ، في خلق الفجوات الاجتماعية ، والتباين الثقافي في المجتمع ،عبر عزل النشاطات الأخرى واعتبارها دون مستوى مشروعه اليوتوبي الوحيد ، الصالح لكل أزمنة التاريخ وفئات المجتمع . إن أغلب المشاريع الثقافية العربية ، لم تستطع تجاوز حدود هذا المشروع . وظلت ، رغم تباين أشكالها وتفاوت أزمنتها ، امتدادا له ، وإحياء لجوهره الخالص ، الذي لا غبار على نقاوته الحضارية . كما لو أن العالم كله قد خرج من محارتنا الذهبية ، وليس لأحد الحق ، بعد ذلك ، في أن يدعي له ثقافة أو حضارة تميزه ، أو يمكن أن تكون مفيدة لنا ، نحن المصنوعين من ماء الذهب ، المحفوظ في الأبدية . فكيف يكون ، والحال هذه بالنسبة للعالم ، موقف المثقف التخبوي من الجمهور المحلي ، أفرادا وجماعات، الذي لا يتوافق مع أفكاره ومفاهيمه . إن تجسيدات الثقافة النخبوية ، متمثلة بدعاة الفكر الرسالي ، من قوميين (علمانيين ) وسلفيين يدعون تمثيل الإسلام الأول ، قد بينت لنا بوضوح تام ، من خلال برامجهم السياسية وممارساتهم اليومية في السلطة – تجربة البعث في العراق وحكم طالبان في أفغانستان- مدى الخطر الذي تشكله نتاجات هذه الثقافة ، التي تعتمد الأصول والنصوص أو المقولات والعقائد ، مدخلا وحيدا للتعامل مع الوقائع والأحداث وتقييم ثقافة الآخر . لقد تعاملت النخب السلطوية ، في العراق وأفغانستان ، مع الجمهور المحلي كما لو أنه موجود فقط ككتلة طيّعة ، تتكون حسب ما تريده أو تدعوا إليه تلك النخب. وفي الحالات التي يظهر فيها البعض اعتراضا أو مجرد اختلاف في الرأي ، تباشر سلطة العقيدة العمياء ،فورا ،باجتثاثه وتدميره .
وبهذا المعنى ، فان الجمهور في ذهن النخب الأصولية ، هو جزء من الفكرة المجرّدة التي تتماها معها ، وتتماثل حد التطابق والانصهار . إن المتغيرات السريعة ، في أدوات العمل والفكر ، التي أنتجتها ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام ، وانتشارها الأثيري الواسع في كل بقاع الأرض ، واختراقها لسلطة الدول وحدود الجغرافيا ، قد وضعت المثقف النخبوي ، ومشروعه الثقافي اليوتوبي في خانق ضيق ، وطريق مسدود . وجعلت من دعاة ومروجي هذا المشروع الفاشلين ، مجرّد أشباح عمياء ، تتسلل بأدوات القتل لتدمير كل شيء من حولها . لأنهم يعرفون ، بحس العاجز والقاصر ، فشل ما يفكرون به واتساع الفجوة التي تفصلهم عن أشكال الحياة الجديدة .
وقد يقول قائل ، كيف تفسر ، بعد كل هذا الذي قلته ، وجود الكثير من المهندسين والأطباء ومتعلمين في اختصاصات مختلفة أخرى، وممن يعيشون في الدول الغربية ، يمارسون ، ضمن مجموعات أصولية ، دور أشباح القتل أيضا . إن المفارقة الغريبة التي يعيشها هؤلاء ، بين الاستخدام اليومي لأدوات وسلع ومناهج الآخر وبين الكراهية التي يعلنوها ويثقفون بها في دعواتهم وخطاباتهم ضد هذا الآخر ، إنما تدلل على طبيعة المفاهيم والأفكار التي يحملونها ، وصيرورتها النسقية في عقولهم ، وفي ذاكرتهم الاجتماعية . إن البيئات التي اقتلعوا منها ، بسبب ضغوطات اقتصادية أو سياسية ، استمرت رموزها الاجتماعية والأخلاقية والدينية ، على حالها ، بل أشّد كثافة وعمقا في تكوين شخصياتهم داخل الأمكنة الجديدة . إن الإشكاليات الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في حياة الأجيال الجديدة لأولئك المقتلعين من بيئاتهم الأصلية ، والتناقضات الحادة بين ثقافة عوائلهم ، التي ازدادت انغلاقا ،في بيئات شبه معزولة ، والبيئات الجديدة التي يتطلب الوجود فيها ، التكيّف ، بمواهب التبادل والمشاركة والتفاهم ، والتعاطي مع الثقافة الجديدة ، بروحية المثاقفة والاستعداد للعمل بأدوات فكرية مختلفة . وبدون ذلك ، وفي ظل سيطرة رموز ومفاهيم تغلق منافذ التفاهم مع الآخر على أرضه ، لن يكون للشهادات الجامعية ، والاختصاصات العلمية التي يحصلون عليها ، دور حاسم في تكيفهم الإيجابي مع الواقع . وإن الكثير منهم ، يجعل من تلك الشهادات والاختصاصات ، امتدادا لنرجسيتهم ، ولذواتهم الباحثة عن توازناتٍ يعيشون اختلالها اليومي . وحالما تحين لهم الفرصة ، لا يتوانون عن استخدامها في تقوية عناصر الكراهية ، أو الانتقام من الآخر وثقافته ، بنفس الأدوات التي ينتجها ، وهذا ما نراه اليوم بوضوح ، في عمل الجماعات الأصولية والإرهابية عبر استخدامها الواسع للانترنيت ، ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة بمضامين متوحشة ، تدعوا للانتقام والقتل لكل من يختلف مع المكّون الذهني اليوتوبي لهذه الجماعات الخارجة من أنقاض التاريخ . إن الصور البشعة لعمليات الخطف والتفجير وذبح الرهائن ، التي يقوم بها الإرهابيون السلفيون في العراق ، تجسّد طبيعة الأفكار والمفاهيم التي تعشش في أذهانهم ، في ظل غياب أيّ برنامج سياسي أو اجتماعي لهم ، غير برنامج تدمير الآخر وتقويض أو تخريب أيّ محاولة لبناء حياة مستقرة وآمنة . إن أحداث 11 سبتمبر 2001 في أميركا وما حصل في أفغانستان والعراق، وما يحصل الآن من أعمال إرهابية مروّعة على صعيد عالمي ، يكشف عن الجذور الحقيقية لثقافة لم تسطع الخروج من وهمها العقائدي ، وتعالي سنابل أفكارها الفارغة . وتبين لنا وقائع الحياة في عصرنا الحالي حجم التغيرات الهائلة التي حصلت في قواه الإنتاجية والتسويقية وطرائق تبادل المعلومات وانتشارها ، بسرعة الضوء ، بين القارات . وأن مثل هذه التغيرات تعطّل أدوات ثقافة تصر على البقاء في أحكام نصوصها ، ولا تخرج إلى فضاء الحياة الجديدة ، الذي سيغني خصوصيتها المنفتحة ، مثلما يغتني بها . ولن يحصل مثل هذا الانفتاح إلا إذا تم كسر القشرة الصلبة ، ترس الثقافة ، التي بناها النخبويون حول أنفسهم ، وحول جمهور لازال قسم كبير منه متكلّس الرؤية بتلك القشور ، وميت الضمير بمفاهيم عمياء . وسيكون للنشاطات الفكرية المتحررة من سلطة الشعارات ، والفعاليات الإعلامية والفنية المتنوعة ، والدور الإيجابي للفاعلين فيها بالانتشار الأفقي داخل المجتمع ، لبناء ثقافة تفاهم إنساني لا تستطيع فئة أو مجموعة احتكارها لنفسها ، سيكون ذلك بمثابة المعول لقرميد ثقافة النخبة، والغصن الأخضر لشجرة الثقافة الحيّة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود ماهر يخسر التحدي ويقبل بالعقاب ????


.. لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة.. نزوح جديد للنازحين إلى رفح




.. ندى غندور: أوروبا الفينيقية تمثل لبنان في بينالي البندقية


.. إسرائيل تقصف شرق رفح وتغلق معبري رفح وكرم أبو سالم




.. أسعار خيالية لحضور مباراة سان جيرمان ودورتموند في حديقة الأم