الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا وراء الاستعارات الدينية؟

سامي عبد العال

2016 / 5 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا كانت الاستعارة آلية دينية، فهي بالأحرى ناقلة لخلفيات الفكر. كل استعارة يتم ممارستها إنما تُحدّد لماذا تكتسب سلطتَّها؟ وأيُّ نوعٍ من التأسيس يستند إليها؟ إنَّها عملية كاشفةٌ قبل كونِّها تحولاً ضاغطاً للمعنى. حقا لم تُقرأ الاستعارات في النصوص الدينية إلاَّ كصيغ لغويةٍ فقط. لكن الأهم قراءتها كعمل طقوسيٍّ في عتمة التفكير الديني. مثلما كانت - من قبله - فاعلةً في القصص الاسطوري والملحمي إجمالاً. لذلك كلما كانت الاستعارات مشحونةً بمحددات العقائد كلما جاءت ذا طبيعة حرفية. وهنا التهديد القادم رأساً: أنها تتضمن إمكانية التفلُّت- عكس المُتوقع- من الهدف الجاري ورائها. وبفضل مجازيتها المراوغة ستؤدي إلى انحراف المعاني.
خطورة الاستعارة تبدو سريةً تماماً حينما تتقلب باعتبارها مسكونة بازدواج الدلالة. لأنَّها تعاند نسق الأفكار المهيمن عليها. هي لا تنسى انتماءها المرن إلى المجاز بحكم اللغة. المجاز أوضح المناطق النصية انزلاقاً. يبدو أنَّ نصاً دينياً يظهر كيقين أمام متلقيه بينما تعطيه الاستعارات اشباعاً فنياً – بمدلوله الخيالي- إلى حد الشك. فهي لا تلتئم منطقياً مع تكوين النص. لكونها لا ترجِّح أحد معانيه دون الأخرى. على أدنى تقدير فإن الازدواج يسرطن أبنية النص الديني مستحضراً غير الديني. والحقيقة: أنَّ الاستعارة لا ترضى بديلاً عن تعددية النص. فطالما تنقل مستوى دلاليٍّاً من حقلٍ ما إلى حقل الدين فلن ينتج سوى كمَّ المعاني بنبرة التباين. هذا التراكم، هذا التضاعف.
خداع الاستعارات لا ينتهي. ثمة تبديل متكَتِّم تتوسطّه بين الواقع وعالم المجاز جراء الرغبة الغُفْل في الإيجاد، في ترك الأثر. كل اعتقاد ديني يسهل تبديلاً كهذا لصالح ما يذهب إليه. وبفضل ضغطه المتواصل توحداً بمضمونه كانت الاستعارة أرضية تحمله هنالك حيث لا فرق لدى المؤمنين. وحيث تسييس العقائد في مجالات الممارسة.
ربما كان ذلك سبباً غير مباشر وراء تماسك الجماعات الدينية وتكتلهم في مواجهة المجتمع. بوصفهم يعيشون التجارب الجمعية لا الفردية. لكنه فوق ذلك تكتل زائف. ما إن يواجهوا واقعهم حتى يبدأ انفلاق الجماعة إلى أحزمة من الآراء والأعضاء. ولهذا كانت كل جماعة دينية حاملة لفيروس الانشقاق تبعاً لمسار تاريخها. كان الإخوان نقطة تجمُع لأجيال الإسلاميين ثم ما لبثت حتى انفرط عقدها إلى جماعات. التكفير والهجرة، أنصار السنة، أنصار الشريعة، بذور تنظيم القاعدة، الجماعة الاسلامية المقاتلة. جميعهم نتيجة تحطم الاستعارة الأم: الجماعة المؤمنة التي تطبق شريعة الله. وهي المغلَّفة بعباءة الفرقة الناجية ابتداءً. حيث تحتم تمايزها عن الأغيار باتباع منهج تراه اسلامياً خالصاً. وحيث تلتقي تحت انعطافة القيامة كموعد مع النجاة الأخروية.
الاستعارة هنا ماضوية وتمثل طقساً جماعياً. لا تقل عن كيان يعْبُر بالجماعة المؤمنة من مرحلةٍ إلى أخرى. ولكونها قيد الحقائق المتخيلَّة فهناك اتصال خفي بينها وبين كل جماعة سواها. في أحداث الربيع العربي(تونس- مصر) رأينا النواة(جماعة الإخوان المسلمين) التي انفلقت تستعيد حضانة الجماعات الفرعية مرة تاليةً. حيث انضمت إلى مواقفها وتكتلت تحت رايات الجهاد العلني. وما كان منها ينادي بالحرية والعدالة والمساواة عاد سريعاً إلى الاقصاء. إذن تتأرجح الاستعارة بحسب التلاعب الذي يخدم المصالح. وهي تبعا للسياق ذات طابع براجماتي في تلوين المضامين الخشنة دونما مشكلةٍ.
وإذا كانت استعارة الفرقة الناجية ترتد تاريخياً، فإنَّ استعارة "إله الرعب" تصعد بالدواعش إلي أعلى وتحدوهم إلى أفعال القتل والذبح والسلخ والتقطيع وإراقة الدماء. قل ما شئت فجميع المذابح مبررة سلفا. ألاَ يأمرهم الله بخلافة على منهاج النبوة؟! الاستعارة هنا ليست تبديلاً فقط لكنها "استعارة قاتلة". لقد اصبح إله الدواعش مشاركاً على طريقة آلهة الحرب في المعارك والحروب. إنه استعارة تتجاوز كل الحدود. فقد تصبح حزاماً ناسفاً. وربما تمثل- بزعم أصحابه- وعداً يقينياً بالجنة وسط الجحيم الأرضي.
تُسمَّي بهذا المفهوم استعارة ارتدادية، تختزل الإله في صورة دموية باعتباره كذلك ولا شيء سواه. في جميع مسارح داعش كان ثمة استعارات دينية متشظية كقنابل تفتك بأجساد العابرين. حتى الصور لديهم كانت قنبلة استعارية غير مألوفة. الهدف منها بث الرعب والتخويف عن بعد. فالدلالة قريبة من زاوية القتل الرمزي لمن يخالف. والنّص حاضر تعاقبياً وتزامنياً. فحين يعترض شخص على المَشاهد يغدو الردُّ جاهزاً على لسان النبوة: " نُصرت بالرعب مسيرة شهرٍ" كما جاء بالحديث.
جاءت داعش مسخاً لهذا النص، وأبانت كيف تتخلَّق اللغة في كائنات مشوهةٍ لا نعرف أقفيتَّها من وجوهها. لا يفوتنا هذا اللثام الشهير الذي يرتدونه أثناء طقوس الذبح. وكأنَّه قناع لكيفية ترجمة النصوص الدينية في جمجمة إرهابية. جماجم الدواعش مخازن لبارود نصي متفجر ساعياً إلى تفجير المجتمعات بشكلٍّ غارق في التاريخ.
ومع ذلك لا تخلو الاستعارة الدينية من انكسار عملها. كالأشعة التي تنكسر عندما تنفذ من خلال المياه. فرغم محاولة تأكيد صورتها بيد أنها مسكونه بإمكانية الأصل. حتى في غير موضعه تظل رامية إلى حيث يكون. وهذه هي المشكلة: الأصول لا تأتي ولن تأتي. ستظل الاستعارة - بطريقة في انتظار جدو لصمويل بيكت- تنتظر مالا يأتي.
كل أصل هو استحالة لأي استعارة تؤسس حركتها عليه. وهي بالمقابل تضخماً دلالياً لا يلوي على شيء. أشبه بكم من النقود لا قيمة له إلاَّ أقل القليل. حينها نشعر بتضخم الملكية دونما ثقلٍّ حقيقي. في اللغة نفس الشيء بطريقة أكثر سرية. فكل نزوع أصولي ديني fundamentalism عبارة عن اقتصاد اعتقادي لا حقيقة ورائه سوى التّضخُم. ولهذا سيرتبط دوماً بالانفجار دون سابق انذار.
من هنا فإن الأصولية الدينية مبنية على استعارات لن تأتي بالمضامين الأولية. إنَّها وعود لغوية فاقدة الأصل كالعملات النقدية المزيفة. حقاً هي تزييف للأصل الذي تتحدث عنه. وكونها متشددة ليس إلاَّ تزييفاً متعالياً. وبخاصة أنَّ الدين يوجد بهذا المعطى المتعالي لأجل عدم نقل تجاربه الأصلية. الطقوس والشعائر تجارب بالأصل وليست أصيلة. ثمة فارق بين الاثنين. فالأولى تعني امكانية وحسب، مجرد محاولة ستكون معرضه للإخفاق الدائم. أما الثانية فلم توجد إلاَّ حالة واحدة خلال العصور الذهبية للديانات. كما يسمونَّها أزمنة النبوة الأولى. وهذا الالحاح الأصولي هو فقدان لها على نحوٍ ما.
لدى الإخوان على سبيل التوضيح تمثل أساليب التربية استعارات عاملة على استعادة الأصل. فهناك نماذج تاريخية ثاوية في آفاق الجماعة تطبعها داخل غرائز الجموع. من خلال التنشئة والاصطفاف والتنظيم الفيزيائي للعقول والأدمغة. فكانت وضعيتهم استعارةً مادية، مثلها مثل فكرة الجسد الواحد كما يقال. الرهان أن يصبح العقل الإخواني مؤصلاً بحكم نمط التربية. وإذا كان الاخوان يعتقدون أنهم جماعة بلا عنفٍ، فما يفعلونه بالاستعارة سيمثل أصوليةً مقنَّعة. تزداد اتساعاً بزعمها المستمر حول الإسلام والحكم باسمه والسعي وراء رسالته. فأفراد الجماعة تركوا الاسلام وعاشوا في ظلال الاستعارة الخاصة. مشكلتهم الحالية مع غياب عرش سلطتهم لا كيف يعدلون المسار ولا كيف يرممون التنظيم إنما كيف يخرجون من الاستعارة. هذا الغول الذي خرج من قبو الماضي مشكِّلاً جميع حاضرهم ومستقبلهم. أكبر تحدي للجماعات الاسلامية: بأيةِ وسيلةٍ يحطمون استعاراتهم. هم لا يستطيعون... خوفاً من تحطم رؤوسهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة


.. وجوه تقارب بين تنظيم الاخوان المسلمين والتنظيم الماسوني يطرح




.. الدوحة.. انعقاد الاجتماع الأممي الثالث للمبعوثين الخاصين الم