الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية الدينية

رجراحي عبد الرحيم

2016 / 6 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحرية الدينية ضرب من ضروب الحريات التي يتحقق بفضلها التعايش بين الناس، وتنشب بانعدامها الحروب بينهم؛ لذلك فهي حرية لا غنى للمجتمعات البشرية عنها للعيش في سلام ووئام، ولا سيما أن الواقع، القديم أو الحديث، يشهد على أن انعدامها يكرس التعصب والعداء وما يستتبعهما من عنف وحرب مدمرن؛ ولعل هذا ما يفسر اهتمام المفكرين، قديما أو حديثا، في الغرب أو في الشرق، بمسألة الحرية الدينية، والنضال من أجل تحقيقها، ضدا على كافة أشكال التعصب الديني منه والسياسي والعرقي والاجتماعي وهلم جرا. فما هي حسنات الحرية الدينية؟ وما عوائق تحقيقها؟ وكيف يمكن التأسيس للحرية الدينية على مستوى النظر من جهة والعمل من جهة أخرى؟

إن الحرية الدينية من شأنها أن تؤسس لثقافة التعايش والاختلاف؛ ذلك أنها تقوم على أسٍّ مفاده أن الأصل بين الناس هو الاختلاف وليس الاتفاق؛ يترتب على هذا المبدأ أن الإنسان من حقه أن يمارس ما شاء من الطقوس الدينية، دون إكراه ولا جبر، وهو ما يتناسب مع مبدأ وارد في القرآن مقتضاه "لا إكراه في الدين"، ما دام الإنسان لم يتعد على حقوق الآخرين؛ الأمر الذي يعني أن الحرية الدينية للإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، قياسا على تحديد جون بول سارتر لمفهوم الحرية بصفة عامة، بل إن الحرية، هاهنا، تعني، من جملة ما تعنيه كذلك، احترام الحدود، أي حدود الذات تجاه الآخر.

يترتب على منظورنا هذا للحرية الدينية أن تكون هذه مدخلا من مداخل تحقيق التعايش، بما هو اعتراف بالآخر المختلف عني، وصيانة حقوقه بالقدر الذي لا أرضى لنفسي أن يسلبني أحد حقوقي، بما فيها الحق في الحرية الدينية، ما دام هذا الحق حق ذاتي يخصني؛ إذ أنا وحدي، وليس آخر سواي يعلم بما من شأنه أن يحقق طمأنينة نفسي من معتقدات وطقوس، وهو ما عبر عنه فولتير في مؤلفه حول التسامح بالقول: "قد أختلف معك، ولكني على استعداد لكي أموت دفاعا عن حقك في الاختلاف"؛ فالاختلاف الديني إذاً لا يفسد للود قضية، ولا سيما أنه سنة كونية، بل هو إرادة إلهية كما ورد في القرآن؛ إذ لو شاء الله لجعلنا نعتقد في إله واحد، ونسلك الطقوس نفسها لتوسله وحمده وشكره على نعمه، غير أنه أجاز الاختلاف، فطفق كل ذي عقل يختار لنفسه شرعة ومنهاجا، وهذه لعمري حكمة لا يدركها إلا من أعمى التعصب بصيرته.

غير أن البعض يزعمون لأنفسهم أنهم يدينون بالدين الأصح على الاطلاق، ويحملهم هذا الزعم على إكراه الآخرين بالاعتقاد في معتقدهم واقتفاء أثرهم، ولا سيما أن المنطق الذي يحكم زعمهم هذا منطق ثنائي القيمة، يكرس ثنائية ميتافيزيقية مفادها أنهم مؤمنون وما عداهم كفار؛ وهو المنطق نفسه الذي يسوغون به لأنفسهم التشنيع والتعريض بأغيارهم، والحال أن منطق التمييز والإقصاء والإبعاد هذا يتعارض مع مبدأين دينيين أصيلين وردا في القرآن كذلك: يقر الأول بحرية الاختيار بين الايمان والكفر؛ ويوسع الثاني من هذا الاختيار ليشمل مختلف سبل العبادة والتدين، بدعوى أن الله هو العليم بمن هو أهدى سبيلا، ولا أحد يملك سلطة الفصل في معتقدات الناس الدينية، اللهم إن أراد أن يستغل اسم الله، لقضاء مآرب شخصية ما أنزل الله بها من سلطان؛ الأمر الذي يحدوه للتعصب للرأي الواحد، وإغلاق باب التحاور، والمصادرة على المطلوب، والمبالغة في تقدير نظرية المؤامرة، وإساءة الظن بالآخر، مع العلم أن الأصل في الدين هو إحسان الظن به.

يتم صيانة الحرية الدينية إذاً بالنهوض بعملين: الأول نظري، والثاني عملي؛ فأما الأول فيتمثل في التأصيل للحرية بصفة عامة، والحرية الدينية بصفة خاصة، لبيان مدى كونها ضمانة من ضمانات التعايش والاختلاف، وحسن تدبيرهما بما يتناسب مع الحقوق الإنسانية الكونية، وما يقتضيه واجب الاعتراف بالآخر الذي بقدر ما يشبهني، بقدر ما يختلف عني. غير أن هذا الجانب النظري على الرغم من أهميته، فإنه لا محيد له عن جانب عملي لا يقل عنه أهمية، ويتمثل في جعل هذه الخلاصات النظرية ملزمة على مستوى الواقع، من خلال ترسيمها في القوانين التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع، وتضمن لكل ذي حق حقه.

يتحصل، بناء على ما سبق، أن الحرية الدينية شرط من شروط التأسيس لمجتمعات متعايشة، تؤمن بالاختلاف، وتحسن تدبيره، وتنتفض ضد كل من سولت له نفسه التحديق به، من أجل فرض الرأي الواحد، وإذكاء نار الفتنة بين الناس، لقضاء مصالح شخصية ترهب بني البشر، وتحول دون طمأنينتهم وسكينتهم، وحرية معتقداتهم وتدينهم؛ لذلك حري بنا النضال على تحصينها من كافة أشكال الاكراه المحدقة بها، وهو نضال يزاوج بين النظر والعمل، لكي لا يبقى القول في الحرية الدينية، مجرد شعار للاستهلاك السياسوي أو لحاجة في نفس يعقوب، بل قولا تظهر نتائجه العملية على مستوى الواقع المعاش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وصول البابا تواضروس الثاني للكاتدرائية المرقسية بالعباسية ل


.. قوات الاحتلال تمنع مقدسيين مسيحيين من الوصول ا?لى كنيسة القي




.. وزيرة الهجرة السابقة نبيلة مكرم تصل لقداس عيد القيامة بكاتدر


.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بمراسم -النار المقدسة- في كنيسة




.. ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟