الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرقة الزمن كأداة للاضطهاد الجماعي والبؤس الروحي بين أزمة الأنا وقيود التاريخ بتأطير من فلسفة المعيش

مزوار محمد سعيد

2016 / 6 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثيرا ما تساءلتُ عن أهمية الوقت، بـل إنّ الشغل الشاغل لي هو: "الثانية"، ارتبكتُ واحترتُ في كيفية تسيير وقتي على النحو الأمثل، جربتُ الكثير من البرامج اليومية، الشهرية وحتى السنوية، من أجل ضبطه واستغلاله بالشكل المناسب، لكنني كثيرا ما كنتُ أفشل في هذا، إمّا للعوائق المختلفة من إجراءات ثقافية واستهتار اجتماعي، أو لأنّ قدراتي الجسمية كانت تخونني، فينهار جسمي بدون إنذار مسبق. الوقت = الحياة، عمر الإنسان هي ثواني تتناقص بشكل تنازلي إلى أن يحين موعد رحيله، هذا ما يجعل الفرد يرتبك حقا، فكيف نقيم للوقت وزنه؟
يقاس الزمن بواسطة كثافة الأعمال المنجزَة خلاله، فنرى الطيّار يزيّن سيرته الذاتية بطول ساعات الطيران، والجرّاح الفطن هو ذاك الطبيب الذي يستطيع القيام بعمليات شديدة الحساسية، تلك التي يقدًّر حجمها الساعي بالساعات. إذن لا يختلف اثنان على أهمية الوقت، فبعض الفيزيائيين يربطونه مباشرة بالحركة والسرعة، وتقادم الأجسام، وبعض المظاهر كالصدأ والترهل. في الوقت الذي أكتبُ فيه هذه الأسطر هناك أمم نائمة بحجة "الصيام"، في المقابل هناك أمم أخرى تعمل بشكل متواصل من أجل استثمار الوقت بشكله الأقصى، العامل الياباني الكسول مثلا هو ذاك العامل لمدة ثماني ساعات فقط. قصة يوليوس قيصر في بناء ذاك الجسر عبر تسخير جنوده خلال مدّة عشرة أيام فقط، بلا بيدوزر ولا تصاميم تكنولوجية مثلما هي متوفرة الآن، وبلا رافعات ولا مهندسين أمر يجعلنا نقف أمام تداخل الولاء في العمل مع حركة العقارب الزمنية. السنة الالهية الوحيدة التي تقوم بها الأمم وتسقط هي قيمة "استثمار الزمن"، العمل الجاد هو ما يمثّل القيمة الفارقة، ولنا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مثالا رائعا عن هذا، حيث يذكر مالك بن نبي "فيلسوف الجزائر المطرود"، بأن "المعجزة" الألمانية قد قامت بعاملي تفاني العمّال في عملهم، إضافة إلى العمل لساعات اضافية كمساهمة في بناء "المجد الآري"، هناك أمثلة أخرى عن بناء سور الصين العظيم، حيث أذهلتني الآلة البشرية العاملة للصيني، فبعض الصينيين بالقرب من منزلي يقيمون مشروع بناء كبير بعدد عمال لا يجتاز عدد أصابع اليديْن، ومع ذلك العمل جار ووفق المعايير وباحترام كامل للزمن ومدة الانجاز. عندما غزت أميركا العراق عام 2003م، كان السبب الرئيسي هو طمر "بذور الحضارة" فالعراقيون كانوا ولا يزالون أكفأ شعب من حيث طلب العلم والمواظبة على العمل واستغلال الوقت أحسن استغلال، ولنا في سدّ مدينة "الموصل" أفضل مثال. أشكر لأميركا صراحتها، فحين تدمّر حضارة ما، فإنها تقول ذلك علنا، لكنّ القوى الاستعمارية التقليدية، هي أكثر مكرا من هذا، ففرنسا على سبيل المثال، عملت على "كساد" الإنسان، خاصة في شمال أفريقيا، وذلك على حسب مدى سواد حقدها على أهل المنطقة، فبعدما أقامت في المغرب الأقصى شعبا يعبد الملك، وفي تونس الشقيقة شعبا خادما لكل أجنبي، أقامت في الجزائر شعبا متسكعا غير قادر حتى على قضاء حاجته وفق المعايير الصحية. لا أرى في نظرية المآمرة أنها الوحيدة التي سرقت وقت هذه الشعوب، لكنّ البذرة التي زرعتها فرنسا وانجليترا بدرجة أقل في الشعوب المضطهدَة جعلت من هذه الشعوب مسخا بشريا، وكم أذهلني شخصيا من الشباب الجزائري من يعتبر جلسة لساعات في مقهى يتحدث لغوا ويشرب بضع قطرات من القهوة مع سيجارة هي جنته، خاصة إن ما ردد قائلا: " لقد سئمت (rani karah)". ليس كل الشباب من حولي هو غافل، فهناك فئة أدركت قيمة الوقت فراحت تسابقه، لكنها انكسرت على يد بعض المخربين الذي يضعون العراقيل البيروقراطية والتقليدية من أجل امتصاص وقت هؤلاء وكسر عزيمتهم، وهناك فئة نادرة تحايلت على الظرف الاجتماعي من أجل كسب الوقت، لكنها بقيت ناقصة بشكل رهيب إن ما تحدثنا عن "الكفاءة". ليس الشاب في المقهى هو الذي يخسر وقتا ثمينا فقط لدى هذه الجماهير "التائهة"، فهناك شاب يداعب مشاعره الدينية فيتربص بأماكن العبادة أكثر من بقائه في منصب عمله، وهناك شاب يضيع وقته أمام شاشات الألعاب الالكترونية أو شاشات الفيديوهات الجنسية من أجل اشباع حاجاته تلك، والشاب الذي يجلس على مقاعد الدراسة من أجل انتظار وقت الراحة فقط، والمرأة التي إما تجلس في بيتها تنتظر المسلسلات، أو تلك التي تعقد الاجتماعات مع الثرثارات. كم أذهلتني معلومة عن المسؤولين الأميريكيين الذين لا يعرفون الراحة، أو العاملين الآسيويين الذي يصابون بالارهاق من شدة العمل، أو بعض الشباب الأوربيين الذين لا يعرفون ما معنى "السنيما".. هي لعبة الوقت، والناجح فقط من يجيد التعامل معه.
الأجيال هي تعبير آخر عن استثمار الوقت، ولو عدنا إلى مستوى المشاريع الاقطاعية فالعبيد أو الأقنان رغم السلطة والسطوة المسلطتان عليهم، إلا أنهم كانوا يستثمرون "الوقت بشكل سليم"، ولنا في باريس وبرلين أوضح الأمثلة. مع البرجوازية أيضا العمل واستغلال الزمن كان فارقا، حيث أن الحرفي الجرماني كان ينصبّ اهتمامه بشكل كبير في ما يقوم به من صناعات، والعامل في أنفاق ميترو موسكو، كان له دوره البلشفي-الماركسي الصلب في تحرير وقته من وثنية الرأسامية المتوحشة. عندما نكوّن جيلا مناه الحياة على الطريقة "الأميركية" عبر وضع قدوات صورية كرتونية بجانب ثانوي الأمر لا يعدوا أن تصاب شعوب بأكملها بالغباء الزمني. فأفلام الخمسينات الهليودية نجحت في تصدير فكرة "الفردانية" المتمثلة في ذاك الالرجل الأبيض في الغرب البعيد، الذي يقضي وقته بين الويسكي وصالات الدعارة ورائحة البارود، في حين كانت مصانع شيكاغو تعمل بطاقتها القصوى، كما نجحت هوليود بعدها خلال السبعينات في اذكاء الصراعات الروحية العميقة، ولنا في شخصية "مايكل" العرّاب أبرز الأمثلة، في حين كانت مخابر الاستراتيجيا تعدّ للانقضاض على العالم بأسره، وفي الثمانينات نجحت في الهاء العالم في شخصيات الرغد واللعب مثل "الأصدقاء"، أو المجون عبر تسخير فيديوهات "الجنس والاباحيات" الكترونيا خلال التسعينات، بعدها انتشرت مواقع التواصل الاجتماعي كالفطريات وتكاثرت وتشعبت كوحش يلتهم وقت الشعوب الحمقاء ويغذي في نفس الوقت ثقافة الرداءة والكسل. وصلت أزمة الأنـا الأفريقية والآسوية من خلال هذه الممارسات والتوجيهات إلى ذروتها، فالدين صار عنوانا للتطرف، والحداثة صارت قيمة استكبار، الرأسمالية أصبحت عبارة عن ملجأ للتوحش، الشعر والرومانسية أداة للالهاء، والشيوعية مجرد مكسب معنوي يستوعب الجماهير المتمردة، بينما القيمة الإنسانية الصافية ماتت بموت فيكتور إيغو وجبران خليل جبران. ما أغرب التفاهات في عالمنا، هذا ما شهدته على واقع أميركا اللاتينية، حيث أختصرت شعوبها في عشقها الجنوني للأندية الاسبانية لكرة القدم، فبدل من أن يحمل الجيل الجديد حبا لجيفارا وبوليفارد، ويسير على دربه، صار يهوى المستطيل الأخضر ويتسوّل أمام أبواب الأندية الأروبية طمعا في المال والشهرة. لا تزال أميركا في مقدمة العالم، أحببناها أم كرهناها إلى حدّ الثمالة، ذاك الشعب اللقيط لا يزال يدير العالم بما يراه هو مناسبا، موزعا "الهيروين" الروحي على شعوب العالم الأخرى، يداعب مشاعرهم على فترات، ثمّ يناورهم، وإن استعصت عليه مراوغتهم، يجعلهم يركعون أمام حذاء الجندي الأميركي بقوة (سي آي أي)، وقوة هوليود، وقوة (سي آن آن)، وقوة حاملة الطائرات (جورج بوش)، وقوة أفكار هايدن وتشيني وكيري وماكاين وترامب .... الكلّ في خدمتها كيفما تريد أنت، إما باللين أو بالفرض والتعسف، فلا مجال لجدال أميركا: يا أيتها الشعوب الغافلة.
([email protected])








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. الجيش الإسرائيلي يدعو السكان لإخلاء شرق رفح فورا


.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما ولا تقدم في محادثات التهدئة




.. مقتل 16 فلسطينيا من عائلتين بغارات إسرائيلية على رفح


.. غزة: تطور لافت في الموقف الأمريكي وتلويح إسرائيلي بدخول وشيك




.. الرئيس الصيني يقوم بزيارة دولة إلى فرنسا.. ما برنامج الزيارة