الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوح في جدليات - 19 - خواطرُ في الإجازة.

نضال الربضي

2016 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بوح في جدليات - 19 - خواطرُ في الإجازة.

عدت ُ من إجازتي الصيفية القصيرة برفقة العائلة البارحة قُبيل َ منتصف الليل، بعد أن انطلقنا من موفينبيك - طابا حوالي الثانية عشرة َ بتوقيت القاهرة، الواحدة ظهرا ً بتوقيت الأردن، في رحلة ٍ استغرقت تسع ساعات ٍ و نصف، من الفندق لمعبر طابا البحري و منه لميناء العقبة، ثم بالباص السياحي لعمَّان العاصمة.

رافقني كتاب ُ فريدريك نيتشه "هكذا تكلَّم َ زرادشت" أثناء الرحلة، و سرق َ منِّي الوقت. هذا النوع ُ من السرقة يُحمد ُ لسارقه، و يُكافَـؤُ عليه المسروق، و لربَّما هي السرقة ُ الوحيدة ُ التي يطلبُها المسروق ُ من السَّارق بل و يُهيِّئُ له ُ الظرف َ و يُعِـدُّ الأجواء و يشهدُ السَّرقة َ راضيا ً مرضيَّا ً.

أعتبر ُ نفسي جُزءا ً من عائلة ٍ واحدة ٍ كبيرة يضمُّها موقع الحوار المتمدِّن، و أدين ُ لها بحق ِّ المشاركة ِ في، و تداوُل ِ، الأفكار المُفيدة ِ البنَّاءة ِ التي تُساعُدنا على إنشاء ِ مُجتمعات ٍ أفضل. من هُنا أفتح ُ قلبي لكم عن خواطر َ جالت في فكري، و لا شكَّ أنها أو مُرادِفات ٍ أو مُشابهات ٍ لها قد أخذت من وعيِكم إدراكا ً ما في يوم ٍ أو لحظة ٍ أو عند َ حدث.

هيَّا بنا نبدأ:

- يستخدم ُ نيتشه في كتابه "هكذا تكلَّم زرادشت"، (الترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، 2007) تعبير "الفائضين عن اللزوم" للتعبير ِ عن الذين يستسلمون َ للإيقاع ِ اليومي للحياة، و يعتنقون المبادِئ الموروثة بدون ِ فحص، و يفشلون َ في إدارك ِ قيمة الالتحام بطبيعة ِ الإنسان كما هي دون َ تشويه.

تعبير ُ نيتشه قاس ٍ، عنيفٌ، حاد ٌ في وضوحِهِ، و مُرعِب ٌ في صدمِة ِ تشخيصِه ِ لأثر الأدلجة.

في هذه القسوة ِ و العُنف و الحِدَّة و الرعب ما هو أكبر ُ من الشفقة ِ و أفضل ُ منها، إنَّه "المحبَّة ُ الكُبرى".

في هذه المحبَّة يقول ُ نيتشه و هو غير الشفيق ِ:

"لتحذروا الشفقة إذا ً: من هناك أرى سحابة ثقيلة قادمة على البشر!
و لتحتفظوا في أذهانكم بهذه الكلمة: كل محبَّة كُبرى هي أرفع ُ من شفقتها الخاصَّة، إذا محبوبُها هو من تريد أن تخلِقهُ!"



- في الفندق رأيت ُ الكثيرين َ ممن وصفهم نيتشه بـ "الفائضين َ عن اللزوم". استسلامُهم لذات ِ الإيقاع الشرهي لم تُخطِئهُ عينُه ُ فيَّ. لكن َّ عيني الأُخرى أعطتهم اسما ً آخر هو: المُنتشون بالحياة".

أحببت ُ هؤلاء "الفائضين عن اللزوم (تعبيره)، المُنتشين َ بالحياة (تعبيري)"، لأنَّ مزيجَ: الاستسلام ِ للحياة، و الانتشاء ِ بها، و الذَّوبان ِ في استهلاكيَّتها ، و الشبع ِ من شرهِها، و الانخراط ِ في سطحيَّة ِ نمطها أو أنماطِها، و غياب ِ التمحيص ِ و التدقيق ِ و الفلتَرَة ِ و السُّؤال ِ و المُساءلة، يغدو ُ: مُتطلَّبا ً إجباريا ً في موقفِ: إجازَة ٍ يتطلَّع ُ لها المرء.

ذات ُ هؤلاء ِ "الفائضين عن اللزوم" لن يكونوا "منتشين بالحياة" بعد َ إجازتِهم، كما لم يكونوا قبلها. إنَّهُم في كل ِّ الأحوال: فائضون َ عن اللزوم عند نيتشه.

مُرعب ٌ هو نيتشه، و هو ذاتُه الذي يقول: "لم يعد لي إحساس ٌ بما تُحسُّون، و هذه السَّحابة التي أراها تحتي، هذه القتامة و الثقل التي أضحك ُ منها: تلك َ هي سحابة ُ غيثِكم"

إنَّه ُ مُفارق ٌ لهم، مُختار ٌ من بينِهم، مُستعل ٍ عليهم، لكن مع كُل ِّ ذلك، يشتاق ُ لهم، يريد ُ أن يفيض َ عليهم، يُبلغهم سرَّه. قال َ على لسان ِ زرادشت:

"ضاع منِّي أصدقائي، و الآن حانت ساعة ُ البحث عن الذين َ أضعتُهم...(نص قصير)...الآن يُمكنُني أن أنحدرَ إلى أصدقائي من جديد، و إلى أعدائي أيضا ً!"

إنَّه ً دوما ً فوقهم، أعلى منهم، يختار ُ أن يُفارق و يختار ُ أن يعود، يختار ُ أن يُمسك َ عن الإفاضة، و يختار ُ أن يفيض، إنَّ إرادتَه ُ تُحرِّكُه ُ دوماً، هذه علامَتُه، إنَّها مِيزة ُ التَّفوُّق ِ التي يمتلكها: الإرادة.


- في الفُندق أيضا ً بدا العاملون َ شبه َ بشر، آلات ٍ مُبرمجة، ليس فيها فرح ٌ حقيقي، و إن ابتسمت و جاملت و خاطبت بالود. هذه هي الحياة: مُتطلَّبات ٌ لا يسدُّها سوى: العمل، و هو أشبَه ُ بالسُّخرة: نهار ٌ مُستهلك، إقامَة ٌ بعيدا ً عن الأهل في القاهرة أو الضواحي، برنامَج ٌ رتيب ٌ يتكرر ُ بملل ٍ قاتِل ٍ كل َّ يوم، مال ٌ قليل، و اضطرار ٌ للالتزام ِ الدَّقيق بكل ِّ هذه العبثية!

لا عجب َ أن فارقَهم ُ نيتشه نحو مغارته، فبغير ِ ذلك َ ما كان ليستطيع َ أن يستعلي عليهم، إن َّ ارتحالَه ُ إلى مغارتِه هروب ٌ منهم، هؤلاء ِ الذين يُعانون و لا يملكون َ ترف: الفِكر، و رفاهية: الفحص.

عودَتُه ُ حين حانت ساعة ُ البحث ِ عن أصدقائه لم تكن لهم، لكن لمن ظروف ُ حياتِهم تُعطيهم قليلا ً من الوقت للتفكير و الفحص، لهؤلاء ِ المُترفين َ بساعة ٍ أو أكثر لفِكرة يتبعون َ خيطها نحو المجهول.

ربَّما أن أصدقاءهُ سيكونون َ من يُخاطِب ُ مطحوني الفُندق، عامليه البُسطاء، لأنَّهم مطحونون َ مثلهم تماما ً لكن بقليل ٍ من الوقت ِ الحرِّ بين أيديهم.

سألني عامل ُ نظافة ِ الغُرفة و قد رأى الكتاب و عليه وجُه نيشته و شاربُه الكثيف "إنتا بتأرى كيتير؟" (أتقرأ ُ كثيراً؟)

ابتسمت ُ و رددت ُ بسؤال: "انتا بتاكُل كل ِّ يوم؟" (أتأكل ُ كل َّ يوم؟)

أجاب: "أيوه طبعاً"

قلت ُ له: "طيب و الدِّماغ مش لازم ياكُل برضو؟" (ألا يجب أن يأكل العقل ُ أيضاً؟)

سأل ببساطة ٍ و عفوية: "حياكُل ازَّاي؟" (كيف سيأكُل؟)

أجبت: "لما تأرى تبقى بططعميه" (عندما تقرأ فأنت َ تُطعِمُه)

للحظة ٍ تجمَّد َ وجهُهُ تماما ً و هو يحاوُل ُ فك َّ اللغز، إنَّها المرَّة الأولى التي يسمع ُ فيها هذا الخطاب، ثم َّ ظهرت ابتسامة ُ رضى ً واسعة ٌ على وجهِه، إنها لحظة ُ استنارة ٍ بدئيِّــة ٍ سيكون ُ لها ما وراءها يوما ً.


- كان على نيتشه أن يسمِّيهم "المُحتاجين َ إلى الفَهم"، كم وددت ُ لو أن َّ صراحتَه ُ تمتلك ُ قدرة ً على العلاج، قوَّة ً على الشِّفاء، زخما ً تحريريا ً لهم، لا فقط لأصدقائِه ِ و مُريديه ِ و تلامِذَتِه.


عملاق ٌ هو نيتشه، و سيِّد ُ الأعاصير ِ الفكرية ِ الجامِحة، إنَّه ُ المُبدِع ُ الأعظم، و السَّابِر ُ الأكبر لأعماق ِ الإنسان.

كم وددت ُ لو أنَّه ُ يعرف ُ كيف َ يُخاطب ُ المحتاجين َ إلى الفهم، كم وددت ُ لو أنَّه ُ يُعطيهم قليلا ً فقط قليلا ً من الحليب الصافي السَّلس بدل هذا اللَّحم ِ الدَّسم ِ الممزوج ِ بخمر ٍ مُعتَّقة ٍ طيِّبة.

لكنَّه ُ لو فعل، ما كان نيتشه، و لا صار َ الطبيب َ الجرَّاح َ البارع.

إنَّه ُ يتركُ الخطاب لنا نحن ُ أصدقاءَه ُ و تلامِيذَه ُ، و يحلِّق مع نسرِه ِ و حيِّتِه و عصاه، لا ينظر ُ للأسفل، ثم يعود ُ حينما يختار، حينما يُريد،،،

،،، هكذا يأخذُنا نحو "الإنسان الأعلى!"



- طابا أيَّتُها الجميلة ُ في وسط ِ الصحراء، عند َ الماء، بين يدي العقبة ِ الأردنية ِ العاشِقة ِ لهيل ِ قهوتنا، وداعا ً هذا العام.

غفوت ُ في ليلِك ِ، و أحرقتني شمسُك ِ عند البركة ِ، حتى غدت يداي و ظهري بلون ِ دم ِ القلب ِ المُوجَع ِ بأحلامنا العربية ِ بكرامة ٍ إنسانية ٍ نستحقُّها بين الأمم حين َ نصعد ُ بفكرنا، بعشقنا للحياة، للحب، للعلم، للإبداع، للاختراع، لنعطيهم كما يُعطوننا، لنقولَ: نحن أيضا ً بشر، نحن ُ أيضا ً نمنح، نحن ُ الفيَّاضون !

بهذا عُدت ُ من طابا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نيالك يا عمي
قاسم حسن محاجنة ( 2016 / 6 / 21 - 06:20 )
صباح الخير عزيزي
طابا هي مكان للاختلاء بالذات .
بس يعني ميخذ معك نيتشة لهناك؟!
التغول الراسمالي لم يترك للإنسان لحظة يخلو بها لنفسه ويطعم عقله.
انه التغول الاستهلاكي ويا ليت الغالبية تتمكن من استهلاك ما تشتهي انها نعيش على فتات الموائد فقط.
تحياتي لك وللعائلة


2 - هلا بالطيب!
نضال الربضي ( 2016 / 6 / 21 - 08:17 )
حبيبنا الغالي قاسم، هلا و غلا يا صديقي!

نيتشه رفيقي دائما ً، إنَّه ُ جهاز ُ قياس الوعي و جرس الإنذار و الطبيب و الدّواء و مُعضِلة ُ البشرية في نفس الوقت. يجمع ُ في ذاته كل َّ التناقضات فهو هادئ ٌ عاصف و إنساني مُتوحِّش و حضاري بربري في آن ٍ معا ً، إنَّه ُ الإنسان!

كان الفندق مليئا ً بفلسطينين من مواطني دولة إسرائيل، تذكَّرتُك، قلت ُ في نفسي: لو كان قاسم هُنا! كم كنا سنضحك ُ معاً، كنت ُ سأوسوسُ لك َ حتى تحتسي معي الجاك دانيلز، كلَّفني اللعين ُ -مشوار تحت الشمس- حتى السوق الحرَّة في الهيلتون، غرقت ُ في عرقي، لكنِّي كنت ُ سعيداً!

تقول ُ -إنه التغول الاستهلاكي....(للنهاية)-، نعم هي أُمنيات و مساعي تحكمها شروط المعيشة، لكن نيال مين عرف كيف ينبسط و يعيش بكرامة و بكامل عقلو، باللي معو!

مودتي لك و لعائلتك الكريمة!


3 - وخير جليس في الأنام كتاب
سوري فهمان ( 2016 / 6 / 21 - 08:59 )
العزيز نضال
شكرا لانك شاركتنا رحلتك أرجو أن تكون قد قضيت وقتا ممتعا ولابد أنك تعرف قول الشاعر
وخير جليس في الأنام كتاب
أرجو أن تتحق امنياتك فالليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبه
دمت مع الأخ قاسم بخير وعافية


4 - الاخ والصديق نضال الربضي المحترم
وليد يوسف عطو ( 2016 / 6 / 21 - 10:02 )
سفرة طيبة وسعيدة لكم وللعائلة الكريمة..

من ( الفالئضين عن اللازم )الى ( القابضين على الفائض من العنف ) مثل الدواعش ..

تصعيب معاملات براءة الذمة في زمن الانترنت لغرض الاحالة على التقاعد هي احدى سمات ثقافة الرثاثة في مجتمعنا العراقي..

عودة الى الحوار المتمدن والعود احمد ..

نلتقيكم في حوارات فكريةقادمة ..


5 - الأخ العزيز سوري فهمان
نضال الربضي ( 2016 / 6 / 21 - 19:18 )
تحية طيبة لك أخي العزيز و يسعدني حضورك!

كانت إجازة ً جميلة ً لا تخلو من تعب، بل أقول َ أن تعبها جزء ٌ من جمالها.

بدت لي تشابُكات ُ الحياة أعقد َ من المُعتاد، حين التنقل ِ برَّا ً و بحرا ً، و الالتقاء ِ بالنَّاس المتنوّعةِ في التفكير و العادات.

أنا مُعتاد ٌ على السفر لوحدي بحكم عملي، لكنَّ سفري مع العائلة أدخلها في جو ِّ الفحص كجزء ٍ من المشهد، و أعطاني زاوية َ إدراك ٍ جديدة، و مدخلا ً شخصيا ً للتحليل، أي أننا كعائلة أصبحنا جُزءا ً من المشهد، و غدوت ُ أنا الفاحصَ مفحوصا ً من نفسي أيضا ً، و هي تجربة استفدت ُ منها كثيرا ً.

رحلتنا طويلة جدَّا ً نحو مُجتمعات ٍ حديثة.

أرحِّب ُ بك دوما ً و دُمتَ و المعلقين الكرام بكل الودِّ!


6 - الأخ العزيز وليد يوسف عطو
نضال الربضي ( 2016 / 6 / 21 - 19:24 )
تحية طيبة جميلة لكم أخي وليد!

أشكرك َ لكلماتك الطيبة و أتمنى لك أوقاتا ً تشغلها المنفعة و يزينُها الإنتاج الفكري!

القابضون على العنف لن يتركوه إلَّا بوجود قوَّة إنسانية مُضادَّة. دواعش الفكر يلزمهم مستنيرون، و دواعش ُ السِّلاح تتصدى لهم جيوش ٌ نظامية مُدربَّة، يجب ُ أن يكون التَّيار الإنساني المُضاد للرثاثة التي كتبتم فيها حاضرا ً بقوَّة في المشهد الإنساني إذا ما أردنا أن نلتحق َ بالحضارة يوماً.

أرجو أن تطمئنوني على سير معاملة تسوية تقاعدكم.

دمت َ بكل الودِّ و الاحترام!

اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش