الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارتر بين الانطولوجيا و النزعة الوجودية

مراد مسعف

2016 / 6 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"ليست القضية ان نؤمن بوجود الله , و لكننا نعتقد ان المشكلة ليست مشكلة وجوده ام لا , المشكلة هي ان الانسان يجب ان يجد نفسه الضائعة , و يجب ان يقتنع ان اية قوة لا تستطيع ان تخلصه من نفسه ."1
لابد ان كلام سارتر يكشف حقيقة الانسان في –العالم , الحقيقة التي على الانسان ان يواجهها , و سارتر يمثل هذه اللحظة التي تبدو فيها غربة الانسان في اقصى درجاتها , فالوعي قد سقط في مصيدة عالم غريب لا يمكن استعابه بالمرة, و لا يوجد هناك اله, و لهذا فلايوجد اي مذهب موضوعي مطلق للقيم , كما انه لا يوجد اي مذهب "معطى "للاخلاق الدنيوية , فالزمن زمن قلق و صراع : قلق الفرد على حرية تهددها الفاشية في اقدس مقدساتها و صراع بين الطبقات و المعسكرات و الايديولوجيات , زمن بدات تتزعزع فيه اسس الفلسفة التقليدية التي اختزلت الوجود في فكرة قبلية , و حتى تلك التي ابقت الوجود الانساني حبيس المجرد الترانسندانتالي في عداد الموتى , غير مبالية بالاحساس بالالم و الاهمالية الماساوية في عالم غريب ممتلا بالادوات و باشكال الهيمنة التقنية المنفلتة من عقالها, بات معها الوجود الانساني مجرد لعبة في يد البورصة و الخطة , فاقد للمعنى في مهب العاصفة .
فبدت الحيوية الفلسفية للقرن التاسع عشر لايمكنها على غناها و افقها الرحب ان تجيب على كل الاسئلة التي تطرحها اللحظة , التي ارغمت الانسانية على الانتخاب بين الوجود و العدم . في هذا الجو المشحون بالثوثر تسلل سارتر ليطرح قضيته الاساسية وجود الانسان في –العالم او ما يسميه بالحقيقة الانسانية من اساسها الاول و بمختلف ابعادها طرحا جديدا كان مشروع مذهبه الانطولوجي الوجودي.
ساتناول في هذا المقال الموجز احدى اهم جوانب تفكير سارتر ويتعلق الامر بالانطولوجيا و النزعة الوجودية , و هدفي هو ان اوضح الركائز الاساسية للانطولوجية الفينومينولوجية و حضورها ضمن التفكير الوجودي عند سارتر, هذا المفكر الوجودي الذي هو اكتر الوجوديين اهتماما بمحاولة توضيح مبادئه الانطولوجية الفينومينولوجية و ربط هذه المبادئ في نسق متكامل , و بمحاولة تطبيق نتائجه الانطولوجية الفينومينولوجية على نزعته الوجودية . يقول سارتر :" لقد اردت ان يكون تفكيري عقلانيا ذا علاقة بالوجود , و اعتقد ان فكرة الانطولوجيا قد ترسخت في ذهني بفعل تكويني الفلسفي , فالفلسفة تسال و تبحث عن اصل الوجود, و كل تفكير لا يبحث عن الوجود ليس تفكيرا سليما او صحيحا 2.
ان سارتر معني –شانه في هذا شان جميع الوجوديين – بالمعطيات المحسوسة للتجربة كما تظهر هذه المعطيات بالفعل , و هو يتبع في هذا منهجا فينومينولوجيا وصفيا , يمكنه من بناء مذهب انطولوجي حول الوجود الانساني , و سارتر يحاول في"الوجود و العدم " ان يكشف عن طريق المنهج الفينومينولوجي "وجود" الموجود نفسه و ليس الفكرة التجريدية . فمحاولة سارتر هي تحليل فينومينولوجي للوجود الانساني , او بمعنى ادق للوعي الانساني و هو يواجه العالم , و هذه الفكرة تشكل الركيزة الاساسية للانطلاق لتكوين نظرية للانطولوجيا , و سارتر انطلق في هذا كما انطلق الاغريق بطرح سؤال الوجود- ما الوجود في الموجود ؟ ما الوجود بالنسبة لكل ما هو موجود؟, و يبدو من خلال مقدمة " الوجود و العدم: دراسة في الانطولوجية الفينومينولوجية"3 ان الاجابة على السؤال تستند الى الطريقة الفينومينولوجية . يقول سارتر في هذا الصدد : " حقق الفكر تقدما هائلا برده الوجود الى سلسلة من المظاهر تكشفه عنه . "4 "فالظاهرة (مايبدو من الوجود للوعي ) هي الشئ ذاته , و ماهية الشيء ذاته هي الرابطة التي تجمع بين ظواهره, و الظاهرة هي " النسبي المطلق " لكن اذا تخلصنا مما سماه نيتشه بوهم العوالم الخلفية "5, " و الظاهرة يمكن دراستها و وصفها بما هي كذلك لانها تدل على نفسها دلالة مطلقة "6 , " ان الظاهرة هي ما يظهر , و الوجود يتجلى للجميع على نحو ما , لاننا لا نستطيع ان تحدث عنه و نفهمه على نحو ما , و لهذا يجب ان توجد ظاهرة الوجود , و يمكن وصفه على هذا النحو , و الوجود سينكشف لن بوسيلة لبلوغه مباشرة : الملال , الغثيان ,الخ . و الانطولوجيا ستكون و صف ظاهرة الوجود كما تتجلى اي دون وسيط" هذه الدراسة و هذا الوصف للظاهرة يمكننا اذا ما كان دقيقا , من ان ننشئ الانطولوجيا على اسس لها من اليقين و من الموضوعية ما للعلوم , اي الانطولوجية الموضوعية " المطلقة"7 . و عند سارتر ظاهرة الوجود انطولوجية بنفس معنى البرهان الانطولوجي للقديس انسلم و ديكارت8 , و وجود ظاهرة الوجود هو كونها مدركة , و كون الوجود مدركا يحيل الى مدرك , و المعروف يحيل الى المعرفة , و المعرفة تحيل الى الموجود العارفبوصفه موجودا لا بوصفه معروفا اي الى المعرفة9 , و المعرفة عند سارتر مرادفة للوجود و الانسان هو حامل المعرفة للعالم , و قانون وجود الذات العارفة عند سارتر هو الوعي , و الوعي ليس ضربا من المعرفة يسمى الحس الباطن او معرفة الذات , بل هو البعد في الوجود الذي وراء الظاهرة بالنسبة الى الذات . وسارتر عكس ديكارت انطلق مما يسميه بالكوجيطو السابق للتامل – افكر في شيء- في دراسته للوعي , ذلك ان الكوجيطو الديكارتي في رايه هو شكل من اشكال التامل عن الانسان , فيرتد الوعي عن نفسه و ينظر في اوجه نشاطه , و لكن ليس هذا دليلا على انني "اوجد", فالوعي "يكون" بمعنى اخر . ان الموضوع الذي يعيه الانسان " يكون " ان الوعي يكشف العالم , انه لا يكشف عن نفسه مباشرة .هكذا يفترق سارتر عن موقف ديكارت و ياخذ الراي الذي ذهب اليه هوسرل من ان الوعي كله " قصدي " او بمعنى اخر ان الوعي يجدب دائما بسبب طبيعته ان يتجه ناحية موضوع من الموضوعات او شيء من الاشياء . و بالنسبة لسارتر " كل وجود واع يوجد كوعي بالوجود "10 "كاشف –منكشف "11 على حد تعبير هيدجر . و سارتر في دراسته عن هوسرل " تجاوز الانا " قد اوضح "اننا لا نحتاج الى "الانا " كرابطة موحدة لتمثلاتنا, و الفينومينولوجيا قادرة على اظهار ان الوعي تحدده القصدية 12" اي ان الوعي هو وعي بشيء , وعي بدون "انا" : " افكر في شيء " و هذا ما عبر عنه هيدجر و هو يتحدث عن "دازاين " ان ماهية هذا الموجود ينبغي بقدر ما يمكن التحدث عنها , ان تدرك ابتداء من وجوده" , 13 فلما كان الوعي غير مكتمل قبل ان يوجد , و انما وجوده هو ينبوع امكانه و شرطه,فان وجوده هو الذي يتضمن ماهيته , و هذا ما عبر عنه هوسرل ابتداء من "ضرورة الواقع "14 و لقد سبق لسارتر ان عبر عن هذه الاراء في اعماله التي صدرت قبل " الوجود و العدم ", التخيل , نظرية عامة في الانفعالات , المتخيل , المواقف ج الاول فيما بعد.
ان الكوجيطو السارتري يميز في الوجود بين منطقتين هما الوجود –في ذاته و الوجود-لذاته , و هذا التمييز هو الاساس الاول الذي يشيد عليه سارتر الانطولوجيا الفينومينولوجية 15. فالوجود لا يمكن ان يؤكد ذاته الا ضد الله , لان سارتر لا يؤمن بالخلق من العدم , والوجود في –ذاته لم يخلق و لا يمكن تفسيره بالخلق , لانه يستعيد وجوده وراء الخلق , و معنى هذا ان الوجود قديم غير مخلوق . و الوجود –في ذاته لا يخلق ذاته , و ليس له علة وجود, انه ليس انفعالية و لا فاعلية , انه الوجود هو في-ذاته , هو ماهو , يوجد وراء الصيرورة , وجود بارمينيدي تابث منعزل في وجوده , لا يعقد اية صلة مع ما ليس هو , و لهذا فهو زيادة بالنسبة للسرمدية . الوجود يوجد , و الموجود هو في –ذاته و الموجود هو ماهو16 , باختصار شديد انه لايملك التراكيب الانطولوجية للوجود-لذاته , الذي هو ما ليس هو , و ليس هو ما هو , فهو الوجود الواعي بالعالم, فعندما يبدو له الموضوع يصبح اياه و لكن على نحو مغاير له , لانه ليس هو هو , انه حاضر لذاته دوما في طريقه نحو التحقق , مرتبط بمشروع مستقبلي , هرب من الحاضر نحو المستقبل , ليس له زمان سوى المستقبل , انه دائما سعي نحو تجاوز ذاته و تجاوز الاخر. ويعبر سارتر عن هذا بعبارة يستعيرها من عند هيدجر " الوعي موجود في وجوده تساؤل عن وجوده " اي " الوعي موجود يثير مسالة وجوده ضمن هذا الوجود17 " و تمة شيء يفصل بين الوجود -لذاته و الوجود , ان هذا الشيء منفصل عن ال " انا " التي تفكر في هذا الموضوع, وعند سارتر ما يفصله هو شيء لا نستطيع ان نقول عنه سوى "العدم", وسارتر يفترق عن فكرة هيدجر من ان "العدم يعدم نفسه" , يقول سارتر :" ان العدم لا يستطيع ان يعدم نفسه الا ضد ارضية من الوجود , و اذا شئنا الدقة اكتر فانه لا يعدم نفسه , انه هو نفسه يتعدم " و ينتج عن هذا انه لا بد ان يوجد في العالم كائن لديه قدرة ان يعدم العدم و كذلك يستطيع ان يؤكد العدم في وجوده , انه ليس الوجود في- ذاته , انه الوجه الاخر للوجود , اي الوجود-لذاته , الوعي. "ان الانسان هو الكائن الذي الذي يظهر العدم من خلاله الى العالم "18, لان الوعي الانساني يحمل عدما لذاته و للعالم بوصفه سلبا متدفقا نحو المستقبل , فالوجود-لذاته هو القدرة على الاعدام , و الوجود-لذاته لايمكنه ان ياتي بالعدم الى العالم الا اذا كان خارج الوجود في-ذاته , و هذا الانعزال و الهرب من الوجود نحو الوجود خارج الوجود في-ذاته يعني ان تكون "حرا" فالوجود –لذاته اذن حر . الواقع الانساني هو الحرية . و الحرية هي اساس الاساس بالنسبة للواقع الانساني انها تمتد مع حقيقة الوعي الانساني تلازمه في وجوده , انها تضع لكل تحديد لماهية انسانية في تعريف ساكن امرا مستحيلا لان الحرية تفوق كل تعريف . و على هذا الاساس فان الوجود-لذاته بالنسبة للوجود في- ذاته ليس وجودا , بل لا وجودا, انه خيط سراب انطولوجي, "انني ما لست انا و لست ما انا " على حد قول سارتر ,الوجود-لذاته هو ما ليس هو و ليس هو ما هو " و نظرا لوجود العدم يفصل بين الوجود-لذاته و الوجود في-ذاته فان الانسان لا يستطيع ان يكون في حالة محددة نهائية , انه محكوم عليه بالتجاوز نحو ما ليس اياه , و بجانب هذا فان الوجود-لذاته هو نقص و رغبة , ذلك لان النقص يظهر في العالم عندما يبزغ الواقع الانساني , بل ان الواقع الانساني او الحقيقة الانسانية هي نقص , بجانب هذا ان الرغبة نقص في الوجود , اذن ما ينقص الوجود-لذاته هو الوجود , و من تم فان الكوجيطو الذي يشير الى ما ينقصه , انما يسكنه الوجود . و يضيف سارتر الى هاتين المنطقتين للوجود منطقة ثالثة يسميها سارتر بالوجود-للغير , يقول سارتر :" اذا كان هناك اخر فانا لي خارج , لي طبيعة " و معنى هذا ان الغير هو سلب خارجي للوجود-لذاته , انه حضور للوعي على نحو ليس هو اياه , باعتبار الغير "هو الانا الذي ليس اياي و لست اياه "19. ان الوجود-للغير في وجوده الاصلي يتاسس على العدم ," ليس انا" , لان السلب عند سارتر شكل من اشكال العدم , و " ليس " تشير الى العدم وقد انبثق كاصل اولي و اساسي للعلاقة مع الغير , فالعلاقة اذن هي انعدام العلاقة , و بالتالي فشل كل العلاقات العينية المشتركة التي يريد ان يقيمها الوجود-لذاته في الخارج ,لانها تمثل استلاء على حريته و قتلها داخل امكانية ميتة و هو موقف مستحيل التحقق ,لان الحرية عند سارتر ملازمة للوعي و لا تقوم الا في الخارج , خارج الوجود-في ذاته , انها تقوم في بحث الوجود-لذاته عن الوجود الذي ينقصه , فالحقيقة الانسانية انفعال نحو الوجود للتوحد مع العالم بامل مستحيل ان تصبح الله . يقول سارتر في نهاية" الوجود و العدم " : " في كل منا رغبة في ان يصبح كل منا الله , الانسان بطريقة عكس المسيح , المسيح انفصل عن الله فاصبح الانسان , و نحن بانفصالنا عن الانسان نحاول ان نكون الله, و هذا الانفعال و تلك العاطفة و هذا الهوى عبث و الحلم الالهي متناقض مع نفسه " . ان الوجود-لذاته يريد ان يصبح وجودا في-ذاته ولكن الوجود-لذاته ليس الا فشلا , ذلك لان الوجود-لذاته لا يستطيع اطلاقا ان يصبح الوجود في-ذاته , الا اذا فقد طبيعته الخاصة و هي الوعي , فاذا امكن افتراض ان الوجود-لذاته اصبح وجودا في-ذاته فلن يكون الا الله ,انه لن يكون اطلاقا ما يريد ان يكون عليه , لانه لا يمكن ان يكون الوجود-لذاته-في-ذاته اي لن يكون الله. فالوجود –لذاته فشل في تغلبه على العالم : ان يصبح الوجود-لذاته-في ذاته , الوجود-لذاته فشل ايضا في موقفه مع الغير : "الحب و الرغبة و الجنس اوهام عديدة و الجحيم هم الاخرون" , فالوجود الانساني مجرد انفعال عاطفي لا مجد , تلكم هي النهاية التراجيدية للانطولوجيا السارترية 20. وهي الفكرة التي سبق لسارتر ان عبر عنها في "الغثيان" , فانطوان روكانتان بطل الرواية يمارس عملية الانكشاف الوجودي كازمة , وحيد في العالم ,و الغربة ليست هي الخاصية لعلاقته بالعالم فحسب بل لعلاقته بالغير , فروكانتان ليس له وجود-للغير , انه يدرك الواقع كسقوط و الوجود كنقص و عدم الاكتمال , و هو يصبو الى الضرورة الموضوعية في نظام العالم , و هو يرغب ان يكون قادرا على معرفة الاشياء و يمارسها باعتبارها وجودا ضروريا , انه يسعى للتوحد مع العالم , لكن قلق الزمن وواقعة العيش في الزمن هي اكبرمظهر لعرضية الوجود و عبثيته , انها تعبير عن فقدان الوجود لكل اشكال المعنى و الدلالة, انه مجرد وجود فاقد للضرورة الملزمة لوجوده, و لا يوجد داعي لوجوده ,وجود زائد مقرف يثير الشعور بالغثيان ,لدرجة اصبحت اللغة مجرد حركة عقيمة لا يمكنها ان تنفذ الى هذا الوجود لتعبر عنه , لانه ببساطة وجود هش مائع مسرح للضياع و الاهمالية و لغياب المعنى انه الاحساس بمدى ميوعة و هشاشة الوجود الانساني, شعور كئيب بالسقوط في عالم مجاني ضبابي و غامض اشبه بالطلاسم , و هي الفكرة التي لا يدركها الخنزير القدر البرجوازي الذي يتوهم ان وجوده في هذا العالم وجود شرعي و ان هذا العالم وجد من اجله , اما بالنسبة لروكانتان فقد انفكت الكلمات عن الاشياء و لم يعد للوجود من دلالات سوى ان ياخذ على عاتقه مهمة تصحيح العالم عن طريق الكتابة , فالادب هو انقاد للعالم من العرضية قبل ان يكون تاكيدا للذات اتجاه هذا العالم , هذا هو دور بطل الغثيان ان يكتب رواية بعد ان فقد كل ادواره في هذا الوجود الذي تنكر له . و ليست ماساوية الحياة ببساطة هي اننا نعيش تم نموت , بل هي بالاحرى اننا نموت في كل لحظة , و نحن نسعى الى التطابق مع وجودنا , هذه الرغبة , و الثوقان فشل مما يجعلنا على المنصة السيكولوجية المتحركة للزمن , " فاذا اردت ان تفهم شيئا , عليك ان تواجهه عاريا " ليس لنا ان نشكوا فهذا العالم هو عالمنا "نحن" رغم اننا لم نطلب و لم نختر ان ناتي اليه , بل القي بنا في هذا العالم بلا رحمة , لسنا مسؤولين عن وجودنا في هذا العالم , الصدفة هي من كانت وراء ظهورنا في هذا العالم , و من تم وجد الانسان نفسه حرا , لانه لا توجد نظرية اخلاقية يمكن ترشده و توضح معالم الوجود امامه , سوى افعاله الحرة. لقد انكشف الوجود امامنا كعبث مقرف , لكن علينا الا نقف مكتوفي الايدي امام عبثيته, علينا ان نصححه ان نتعقله رغم انه يقاوم معقوليتنا و يستبسل في هذه المقاومة, على الانسانية اذن ان تتحمل مسؤوليتها اتجاه العالم , لان المسؤولية و الالتزام هي ما ينقد العالم من العرضية , اذ ذاك لن يعدو العالم عبثا لاننا عرفنا انه عبث , سيصبح عالما انسانيا , نحن الذين صنعناه , اختارناه , و علينا ان نتقبله21 . فاذا كان الوجود يسبق الماهية حقيقة , فالانسان محكوم عليه بالحرية22 , و الحرية عند سارتر تتجاوز الموت23 , ليصبح الموت واقعا يمكن انسنته, و معنى هذا ان الانسان مشروع حر يعيش بذاته و لذاته24 , ليس فقط موجودا كما يتصور ذاته , بل كما يريد ذاته , بعد ان تكون هذه الذات قد وجدت25 , فالانسان هو خالق ذاته لانه وحده المتصور لها , و خالق العالم و القيم , اذن فالانسان مسؤول عما هو كائن26 , و نجد هذا ماثلا في" الذباب "في صيحة اوريست في وجه : "انا لست سيدا او عبدا يا جبتر , انا حريتي , انا حر يا الهي و منذ اللحظة التي خلقتني فيها لم اعد اخصك و لم تعد مسؤولا عني و سوف اظل وحيدا , انني حر و مستعد ان اتقبل مسؤولية هذه الحرية "27, و سارتر يربط الحرية بالمسؤولية, فالانسان حكم عليه ان يكون حرا يحمل تقل العالم كله على كتفيه, كما انه مسؤول عن العالم و عن نفسه , و ثمن هذه الحرية هو الكابة و القلق , فالوجودي يؤمن ايمانا قاطعا بان الانسان هو كابة عميقة , و هذا يعني ان الانسان الذي يلتزم بمسؤولية افعاله يتاكد له انه لا يختار نفسه فحسب بل هو يختار الانسانية جمعاء , فهو يقع ضحية شعور عميق بالمسؤولية المترتبة عليه28 , و هذا القلق هو عدم استطاعتي الاعتماد على اي تبرير لعملي و اختياراتي , و القلق و الكابة هما شعور ناتج عن مسؤوليتي اتجاه الغير29 , لانني مسؤول عن كل شيء ما عدا مسؤوليتي عن مسؤوليتي .
لقد جعل سارتر الفينومينولوجيا نظرة للانطولوجيا , و الانطلوجيا نظرة للوجود, و الوجود هو هذا الوجود المعاش امبيريقيا ,بجميع تراكيبه , وقد كشفت الانطولوجيا السارترية عن حقيقة الوعي الانساني في-العالم , فاظهرت ان الوعي قائم في علاقة مواجهة مع العالم , و ان الوعي لا يمكن ان يتحقق الا في علاقته بالعالم خارج الوجود البارمينيدي الصلب , اذ ذاك يكون حرا متحررا من كل اشكال الوجود سواء الوجود القائم او الوجود الذي نكونه في الخارج (الوجود-للغير) , و عي لا يملك شيئا سوى حريته , مسلح بها في وجه الوجود الذي يبحر نحوه , وجود لا شاطئ له , اضحت فيه الحقيقة الانسانية مجرد مغامرة فاشلة اراد لها سارتر حرية كاملة و مطلقة ,الحرية اللانهائية التي تمتد مع الوجود , حيث يكون الانسان حرا في كل شيء حتى في انفعالته و عواطفه .
ان سارتر هو فيلسوف الالتزام , و فلسفته الملتزمة لم تظهر في فراغ , لان جحيم سارتر قد وجد و هو يوجد في معسكرات الاعدام و في الدول الديكتاتورية , و الالتزام عند سارتر يمثل استجابته الخاصة لتحدياث عصره , انها استجابة الانسان المسؤول في العالم و الحاضر ازاءه , و الذي يفكر في انه قادر على تحويل الموقف الذي يجد نفسه فيه باختياراته , انها استجابة تتضمن تقييما للموقف , و هو موقف ماساوي وجدت الانسانية نفسها , و سارتر الانسان-الفيلسوف هو نفسه ضمن هذا الموقف , لذا فرد فعله ازاءه هو ان نؤكد على الطبيعة النوعية لافعالنا و ان ننزع نحو الانسانية كهذف مشترك , هكذا تكون الوجودية مع سارتر فلسفة الموقف .






"1"- Jean-Paul Sartre : « L’existentialisme est un humanisme » P 95 Nagel 1970
"2"- « Magazine litterraire » Mars 1976
"3"- J.P.Sartre : « L’ etre et le nèant » p 11 Gallimard :1943
"4"- Ibid : P 11- 12
"5"- Ibid : P 12-14
"6"- Ibid : P 12-14
"7"- Ibid : P 14
"8"- Ibid : P 16
"9"- Ibid : P 17
"10"- Ibid : P 20
"11"- Ibid : P20
"12"- « La transendance de l’ego » P 35-43
"13"- « L’etre et le nèant » P 21
"14"- Ibid : P 21
"15"- Ibid : P 31
"16"- Ibid : P 31-33
"17"- Ibid : P 29
"18"- « L’ etre et le nèant » le problème du nèant , P 37-56
"19"- « L’etre et le nèant » le pour-autrui , P 275
"20"- Ibid : P 677-678
"21"- « La nausèe » Gallimard
"22"- « L’existentialisme est un humanisme» P 37
"23"- « Lemur » - « Morts sons sèpulture » Gallimard
"24"- « L’existentialisme est un humanisme» P 23
"25"- Ibid : P 22
"26"- Ibid : P 24
"27"- « Les mouches » Gallimard
"28"- « L’existentialisme est un humanisme» P 28
"29"- Ibid : P 100








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتلة مخدّرون أم حراس للعدالة؟.. الحشاشين وأسرار أول تنظيم لل


.. وكالة رويترز: قطر تدرس مستقبل المكتب السياسي لحركة حماس في أ




.. أوكرانيا تستهدف القرم.. كيف غيّرت الصواريخ معادلة الحرب؟| #ا


.. وصول وفدين من حماس وقطر إلى القاهرة سعيا لاستكمال المفاوضات




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - وفد من حماس يصل إلى القاهرة لاستكم