الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالم العربي ومأزق الهزيمة

عبد الغاني عارف

2005 / 12 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


متلبسين باصطياد لحظة نصر ، فاجأنا دوي الهزيمة... لم نكن قد استيقظنا بعد من أحلام " انتصارات" تآكلت حواشيها من كثرة ما لعقناها وتلمظتها شفاهنا، بدءا من طير أبابيل رفعت شارة النصر فوق رؤوسنا المدججة بدبابات السماء ، وانتهاء بصلاح الدين الذي نُصِر أن ننفخ، أكثر من اللازم، في " بالون" قهره للأعداء، حفاظا على قشرة حضارية واهية نتمسك بها ونستمد منها شرعية انتمائنا ، ودفاعا عن " نوستالجيا" هوية تتعرض بين المرحلة والأخرى ... بين اللحظة والأخرى ، لكل صيغ المسخ وأشكال المسح والتشطيب... فجأة إذن، أتتنا الهزيمة من مسارب لم نحسن إغلاقها لتنكسر بين أيدينا جرة نخوة سكنتنا قرونا ممتدة من الزمن ولنكتشف، في لحظة وجيزة، عمق الفجوة الفاصلة بين ما نحن عليه حقيقة، وما كنا نظن أننا فيه وهما. لقد كانت هزيمة حزيران 1967 مثل الصدمة الكهربائية الموظفة ضمن وسائل العلاج. وكنا نحن المرضى حضاريا ، إذ أدت ، وبشكل ملحوظ ، إلى إيقاظ مؤلم للوعي العربي الذي وجد نفسه يجابه، بعنف قاتل، حقائق ذاتية وموضوعية لم تكن واردة في جدول اهتماماته، أو على الأقل ، أنها كانت مهمشة ومغلفة بمنطق التجاهل أوالتأجيل أو الإقبار. وهي بذلك ، أي الهزيمة ، شبيهة – مع اختلاف في السيناريو التاريخي – بدخول نابليون/ الغرب كفكر ومنجزات إلى مصر والشام/ العالم الشرقي المستكين في صدفته الروحية الهادئة، المنغلقة على نفسها ، وهو الأمر الذي وضع العالم العربي ، من جديد ، أمام امتحان إشكالي عسير: لماذا االهزيمة؟ وكيف الانتصار؟ ، أو بلغتنا القبلية : لماذا رددنا على أعقابنا ؟ وكيف يمكننا أن نثأر ؟... إنها بلا شك ، صيغة ثانية لنفس السؤال النهضوي الذي طرح في بداية " النهضة" العربية : لماذا نحن متخلفون والآخر متقدم ؟... إنه سؤال الهوية الذي تولدت عنه معادلة صدامية صارخة بين الذات والآخر: بين الذات باعتبارها موضوعا للنهوض والآخر باعتباره موضوعا للاحتذاء والاستفادة.
ولعل أهم ما تمخضت عنه هزيمة يونيو / حزيران 1967 هو كونها أزالت ورقة التوت عن العورة الاجتماعية والسياسية للواقع العربي، وكشفت القناع عن ركام من المؤامرات والتواطؤات ، وأسقطت لافتات سياسية كانت سيدة المرحلة. وكانت نتيجة هذا كله أن أصبح الواقع العربي يمور بأسئلة مقلقة ساهمت في انهيار سلم القيم البالية التي كانت تصنف من قبل ضمن المقدسات. وعلى الرغم من أن كثيرا من جوانب ثقافة ما بعد الهزيمة قد انبنت أساسا على ردود فعل مازوشية إزاء الهزيمة ، فإنها استطاعت أن تفعل فعلها إبداعيا وفكريا ، حيث بدأ الحديث عن إيديولوجية الهزيمة ، وانطلق التنظير لبنية الإيديولوجية العربية المعاصرة. وبذلك كله فتح المجال أمام إمكانات المراجعة الواعية للذات والنقد الذاتي من موقع الإحساس الحاد بالانتماء إلى واقع الهزيمة.
لكن هل يكفي الإقرار بأننا ننتمي إلى أجيال الهزيمة لمحو جزء عريض من الثقل التاريخي الذي خلفته حالة الشعور بالانهزام في ذواتنا ؟...هل بوسعنا أن نخفي مرارة المذلة بمجرد التأمل المأساوي في الخريطة العربية المهزومة حتى النخاع ؟... هل يكفي القول بأن مسؤولية الهزيمة التي نعانيها ، إنما تقع ، أساسا وعمليا ، على عاتق قيادات أنظمة الحكم العربية، لنضمن للجماهير، في المقابل، النجاة من لظى الهزيمة ومضاعفاتها ؟ أليست الضحية الأولى للهزيمة هي الجماهير نفسها في وجودها ، وبل وأحيانا في قوتها اليومي حتى ؟ أليست الجماهير الممثلة لقاع الهرم الاجتماعي العربي هي المتضررة أكثر من واقع الهزيمة، بينما أنظمة الحكم ما تزال تنعم في ملذاتها المحمية بناموس البيترودولار واستغلال خيرات الشعوب ؟؟ أليس مطروحا علينا أن نعيد التقييم من جديد ونقرأ الهزيمة قراءة ثالثة ورابعة، مادامت مستمرة فينا إلى حد أننا أصبحنا لا " نخرج" من هزيمة إلا لندخل أخرى ، بدءا من ألف وتسعمائة ونكبة وأربعين ، مرورا بألف وتسعمائة ونكسة وستين ، ووصولا إلى ألف وتسعمائة وذبحة وثمانين ....
إنها أسئلة صادمة ، ولكنها مشروعة . وما يعطيها مشروعيتها المطلقة، هو بؤس الواقع العربي حاليا ، من جهة ، وطموحات الجماهير التواقة إلى غد أفضل ، من جهة ثانية ....هذا الواقع الذي تواجهنا فيه معادلة وجودية هاملتية حادة هي : إما أن نخرج من مأزق الهزيمة- حضاريا ووجدانيا وليس فقط عسكريا – وإما أن نسلم ، في ظل شروط القمع السياسي والإرهاب الفكري الممارسة على الشعوب العربية ، بقدرية الهزيمة فلا نكون . وبذلك نلغي وجودنا الفاعل مختزلين إياه في مجرد وجود مفعول به وفيه..
ولعله مطروح علينا اليوم أيضا ، قبل تحديد معالم الانفلات من دائرة الهزيمة، أن نسأل، ولو بعد عقود من الزمن : لماذا بالضبط وقعت الهزيمة ؟...
إن سؤالا من هذا النوع، وفي مرحلة التراجعات المرعبة التي يمر منها الوطن العربي، كفيل بأن يعري جوانب أخرى ما تزال متعفنة في ذواتنا، وتحتاج إلى استئصال جذر عفونتها. وهنا يمكن رصد عاملين أساسيين للهزيمة :
1- يتمثل الأول منهما في أن العالم العربي ، بمسؤوليه على رأس السلطة وبشرائح واسعة من مثقفيه، كان غارقا في عملية تشييد وهمي للمستقبل. فعملية تأسيس الغد كانت تتم بوسائل تنتمي إلى الأمس وتستقي مادتها الأولى والأخيرة من الماضي من خلال تقديس باتولوجي لمضمونه. ولأن بناء بهذا الشكل لا يمكن إلا أن يكون هش الأسس ومهزوز الأركان ، فلم يكن غريبا أن تعصف به أولى الرياح التي يصطدم بها ، كيفما كانت قوتها ، ومهما اختلفت جهات انطلاقها.
2 – أما السبب العام الثاني فيتمثل في ابتعاد/ إبعاد الجماهير العربية التواقة للنصر والحرية عن أرض المعركة ، وإسناد مهمة الحرب لأنظمة قهرية تيوقراطية أوعسكرية استبدادية محكومة سلفا بمصالح طبقية وارتباطات تبعية وتوجيهات خارجية لا تسمح لها بالمواجهة ذات النفس الطويل ( وهذا ما أكدته حرب أكتوبر 73 بالملموس ). ولذلك ، ومن موقعها الطبقي ، وبانسجام مع مصالحها واستراتيجيتها الطبقية، وجهت آلياتها العسكرية، بشرا وعتادا ، توجيها سيئا لا يحبل – وليس له إلا أن يحبل – إلا بالهزيمة.
يضاف إلى هذين العاملين الرئيسين عوامل أخرى ، منها ما هو خارجي ومنها ما داخلي ، تلتقي كلها في كونها هيأت الأرضية المناسبة وأخصبت التربة لإنبات بذرة الهزيمة التي سيورق ربيعها مع هزائم أخرى متتالية، وعلى رأسها زيارة الشؤم التي قام بها السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، والتي تعتبر أول صيغة علنية للقبول الرسمي العربي لواقع الهزيمة، وعنها تناسلت صيغ انهزامية أخرى كثيرة.
أمام مشهد الهزيمة الطاغي على وجدان الوجود العربي ، يكون من واجبنا أن نطرح ، مرة أخرى ، السؤال الكلاسيكي ، ولكن المتجدد باستمرار : ما العمل إذن ؟؟
لمحاولة تقديم أجوبة تقريبية عن هذا السؤال الضخم ، نرى أنه لا ينبغي الوقوف على حافة ما كان وممارسة أدوار قاتلة في مسرحية الخداع الذاتي، ذلك أن العالم العربي يواجه اليوم ، ومن صلب هويته الجريحة المهزومة، رهانا حادا في أن يكون أو لا يكون. هذا الرهان متمثل أساسا في ضرورة الخروج من مأزق الهزيمة عبر تسطير برنامج واضح وجرئ لمراجعة وتقييم أسباب الهزيمة ، وكذلك تقييم حصيلة عقود طويلة من الشعور المؤلم بسيطرة فكر الهزيمة ، والعمل على تحديد أسبابها ، وتحديد مداخل وخطوط عريضة لبرنامج تجاوزها.
وبصدد ذلك يؤكد الواقع الراهن بأنه لا إمكانية لهزم الهزيمة فينا إلا بمداخل محددة ، منها أساسا :
أولا : النضال من أجل إطلاق ثورة ثقافية تنويرية تستهدف محاربة واستئصال الجوهر الخرافي الذي يكاد يشكل الأبعاد الثابتة في الذات العربية، تاريخيا ونفسيا، وذلك بمواجهة الثقافة الهجينة السائدة، والتأسيس لثقافة مغايرة تنويرية ، ثقافة ذات مضمون ثوري وأساس عقلاني وأبعاد إنسانية .
ثانيا : النضال من أجل فرض الديمقراطية الاجتماعية والسياسية الحقيقية لا الصورية، وذلك بمناهضة الأنظمة التي تستمد نسغ استمراريتها من آليات قمع الجماهير وخنق حريات التعبير وإبداء الرأي.
ثالثا : مفروض على القوى التقدمية اليسارية العربية الحقيقية أن تعيد ترتيب أوراقها ، وذلك بإعادة النظر جذريا في برامجها وتصوراتها للواقع وللأحداث. ولعل أهم الجوانب المطروح النظر فيها من جديد : علاقة هذه القوى بالجماهير، من جهة ، وبالسلطات الحاكمة من جهة ثانية . فعلى المستوى الأول يجب تحديد قنوات وأشكال جديدة للاتصال بالجماهير حتى تؤمن ثقتها في الخطاب التقدمي واستعدادها للمساهمة في فعل تصريفه بالممارسة في الواقع. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك انسجام بين الخطاب السياسي والمواقف الملموسة والممارسة في الواقع.
أما على المستوى الثاني ، فإن المهمة المركزية المطروحة على كثير من القوى التقدمية العربية هي التخلي عن برنامج "النصب السياسي" الذي تمارسه ، متوهمة أن الجماهير غافلة عنه، ومطروح كذلك أن يحول الحوار مع الطبقات الحاكمة ، وهو حوار مغشوش أصلا في أكثر حالاته وملغوم بكثير من التلاعبات الانتهازية، إلى صراع حقيقي تمثل الجماهير ومصالحها رأس حربته. وبذلك يعود النضال الإيديولوجي والسياسي إلى سكته الحقيقية التي انجرفت بها اليوم كثير من الانحرافات والمواقف الانتهازية القزمية .
رابعا : أما السبيل الرابع، وليس الأخير ، للخروج من مأزق الهزيمة فهو مواجهة الامبريالية في الوطن العربي في صيغتها المعولمة الجديدة ، وذلك بفضح وتعرية ومواجهة كل المشاريع التي تشتم منها رائحة الصهيوينة والرأسمالية الاستغلالية. ولن يتم هذا إلا باتخاذ موقف واضح وصارم من قنوات تمرير التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهذا بدوره يتطلب مشاركة فعلية وفاعلة من طرف المثقفين العرب الذين، مع الأسف ، استقال الكثير منهم من مهام النضال وأصبحوا يستكينون للعبة الصمت والتصفيق الخجول أحيانا والصريح أحيانا أخرى لمشاريع الطبقات الحاكمة، وهم بذلك يوقعون شهادة الخيانة والتخلي عن الرسالة التاريخية المنوطة بالمثقف في مجتمعات تكبلها قيود القمع والتأخر والأمية.
هكذا إذن ينبغي أن نجعل من الهزيمة، ليس فقط مناسبة للتباكي والتأسف على ما وقع، ومشجبا نعلق عليه مظاهر عجزنا الذاتي وتقاعسنا في أداء مهامنا ، بل مجالا للتقييم والمحاسبة القاسية وتقديم النقد الذاتي والعمل بكل عناد على تفجير شرارة الأمل والحياة من صلابة صخرة الواقع المكرس للاستكانة والخنوع.
وفي قلب هذه المعركة الكبرى ينبغي إبداع كل البرامج التي من شأنها أن تضمن استمرارية الشعوب في نضالها ضد العولمة المتوحشة والاستعباد العنصري والقهر الطبقي ... فتلك وحدها المعركة التي سترسم الطريق نحو منارة التحرر والانعتاق والعدالة الاجتماعية وبناء الديمقراطية الحقيقية ، في أفق إنساني أوسع: الأفق الاشتراكي....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الذي تستهدفه الطائرات الحربية الإسرائيلية في ضاحية بيروت


.. مسيرة بمدينة نيويورك الأمريكية في ذكرى مرور عام على حرب إسرا




.. مشاهد تظهر حركة نزوح واسعة من مخيم -صبرا وشاتيلا- بعد الغارا


.. مشاهد توثق موجة نزوح كثيفة من مخيم صبرا وشاتيلا بعد الغارات




.. سقوط أكثر من 25 غارة إسرائيلية ليلية على الضاحية الجنوبية لب