الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصيام عن كل ما هو جميل و نبيل

محمد بن زكري

2016 / 7 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وصل شهر الصيام إلى خاتمته .. كما كل عام ، و رحل تاركا وراءه الفقراء أشد فقرا و أكثر عددا ، بينما صار الأثرياء أفحش ثراء و أقل عددا . و كما سرق حكام ليبيا الجدد - نموذجا إسلاميا عروبيا - أحلامنا ، و كما سرقوا جيوبنا ، فقد سرقوا الفرح من عيون أطفالنا ، فمضت أيام العيد كئيبة رتيبة ، يكاد الحزن أن يمحو قسمات وجوه الناس ، و كأنما هم في مأتم رهيب . فعسى أن يفيق هذا الشعب من سباته العميق ، و عسى أن يتبدل الحال بغير هذا الحال ، و عسى أن يعود الحدث على فقراء شعبنا بأفضل مما كان ، و عسى أن تكون كل أيام أهلنا و أعوامهم الآتية خيرا مما فات .
انتهى شهر الصيام ، و بوقفة مع الحقيقة ، لم أعرف في هذا البلد - منذ وعيت - شهرا للصيام اتسم بالعمل (الصالح) أو بالتوادّ و التراحم بين الناس ، كما يزعم الزاعمون . بل كان دائما موسما لتوقف مظاهر الحياة العامة ، و اشتعال الأسعار ، و المضاربة في السلع ، و السطو على الجيوب ، و الاستغلال الشره للمستهلكين ، بلا أدنى درجة من الإنسانية أو الرحمة ؛ فليس من ودٍّ بين الضحايا من الشعب المضحوك عليه و بين الجلادين من طبقة الكومبرادور المهيمنة سياسيا و اقتصاديا ، و ليس من أخوَّةٍ بين المفقرين و المترفين ، فما أثرى شخص إلا بإفقار و استغلال حاجة آلاف البشر .. في غياب دولة العدالة الاجتماعية و الشفافية و الحكم الرشيد .
و الواقع أن شهر رمضان في بلادنا ، ليس أبدا شهرا للصيام .. اللهم إلا الصيام عن كل ما هو خير و كل ما هو جميل و كل ما هو رشيد ؛ بل هو موسم سنويّ للاستغلال و الاحتيال و نصب الفخاخ من أجل الاستحواذ على مدخرات الناس و امتصاص عرق و دم الفقراء ، و هو شهر للمبالغة في الإنفاق الترفي السفيه ، و المغالاة في الاستهلاك و هدر الإمكانات ، و الاستغراق في النوم و الكسل نهارا ، ثم الانطلاق ليلا في التهام كميات مهولة من الأطعمة ، وازدراد براميل من الأشربة ، دون أن يفكروا بأن ثمة من لا يجد قوت يومه إلا بمذلة الاستدانة أو بمذلة السؤال .. و خاصة في هذه الفترة الأشد ظلاما و ظلما في التاريخ الليبي الحديث .
فهنا في أرض النفاق ؛ في هذا البلد المحكوم بثقافة المباراة و الاستهلاك ، و في هذا المجتمع الغارق في أوهام ميتافيزياء التعزية ، و الذي يستغرقه الانفصام و الرياء و التكاذب ، نجد أنه بدلا من أن تتوافق الكائنات الليبية المسلمة مع ما في عقيدتها من قيم إيجابية ، فتؤسس - في شهر الصيام - لإعادة بناء الوعي و الارتقاء الثقافي و القيَميّ ، فإنها بالعكس من ذلك تجعل منه شهرا لـ (قتل) الوقت في مشاهدة المسلسلات التلفزيونية الهابطة التافهة الجوفاء ، وبرامج الطبخ الطافحة بالسخافات ، وكل أشكال التفاهات الإسلامية ، التي يحشون بأضاليلها فراغ ساعات البث ؛ متاجرةً بالدين ، و استثمارا سياسيا إسلاميا في عقول المشاهدين البسطاء . و بدلا من أن يكون شهر الصيام مناسبة لمراجعة الذات ، و فرصة للعودة عن الأخطاء و التخلص من السلبيات و التخفف من الأهواء و إعلاء قيمة العمل الصالح ، فهو على العكس من ذلك تماما ، ليس غير موسم لهدر الوقت و التسيب و انخفاض مستوى الأداء ، فضلا عن كونه شهرا لانفلات الأعصاب و الانحطاط السلوكي ، الذي كثيرا ما يهبط - بشتى صوره - إلى أدنى درجات البذاءة .
وهنا في أرض النفاق ، لو ضُبط مفطر في رمضان - حتى لو كان إفطاره برخصة شرعية ، فضلا عن ترف حرية الاعتقاد - لقامت قيامة أمة الله واااكبر ولم تقعد دون أن يُفرِغ فيه كل من هب و دب مخزونه من العنف المادي و المعنوي ، و دون أن يُسقِط عليه كل متأسلمٍ عاطل عن العقل حمولتَه من عُقد ازدواج الشخصية ، ثم لا يجد بعدها غضاضة في أن يَنصِب عليك ليسرق ما في جيبك كتاجر ، أو أن يسرق وقت الدوام الرسمي كموظف ، أو أن يسرق (يخنب) منك أسبقية المرور كسائق سيارة ، أو أن يسرق عقلك كداعية إسلامي ، أو أن يسرق منك وطنك و إرادتك و أحلامك كحاكم مسلم ، بل و أن يسب دينك و دين أمك و أبيك و ربك .. لأتفه أسباب الغضب الرمضاني .
و بلا مجاملة و لا مواربة ، لقد أثبتت السنوات الخمس الفائتة أن الأغلبية الغالبة من الجماهير الليبية (المسلمة) هي جماهير رثة ؛ سلوكيات انتهازية حربائية ، فساد مالي و إداري و أخلاقي ، اعتداء على الأموال و الأملاك العامة و الخاصة ، تهريب و تهرب ضريبي ، انتهاك للحرمات و الأعراض ، استحلال للمحرمات و استسهال للقتل و سفك الدماء ... فهل تنكرون ؟ و هل لكم أن تَخلَوْا إلى أنفسكم و تتطلعوا إلى صور وجوهكم الحقيقية - البشعة - في مرآة الضمير الإنساني ؟
ها أنتم قد فرغتم من التهام ما لذ وطاب لكم من أصناف المآكل الفاخرة و الحلويات الثمينة ، و قد ارتويتم حتى الثمالة من ازدراد ما ساغ لكم من المشروبات المنعشة ، و انتم تنعمون بما تضخه أجهزة التكييف من الهواء البارد (و لا تسددون فواتير استهلاك الكهرباء ، بل و تسرقون التيار الكهربائي - عامدين متعمدين - أيها اللصوص الصغار) ، و انتم لا زلتم تتمتعون بقدر من الطمأنينة بين أهلكم ، رغم حروب داحس و الغبراء بين الميليشيات المجرمة ، التي تستخدم أولادكم كمرتزقة ؛ قبل أن تصل إليكم داعش ، فإما أن تجدكم خلايا داعشية نائمة و بيئة اجتماعية سلفية حاضنة ، تكفّرون و تحللون و تحرّمون - كما هي عادتكم - و تمارسون الإرهاب الفكري ، و إما أن لا ترى في البالغين من الذكور إلا مرتدين لا يُستثابون .. و لا ترى في الإناث إلا سبايا و مجاهدات نكاح .
هل لكم - و أنتم تدّعون ما ليس لكم من الفضل أو الفضيلة - أن تَصدُقوا مع أنفسكم مرة واحدة في العام بعد انقضاء شهر الصيام ، لتروا ما إذا كنتم قد توقفتم بعض الوقت عن متابعة المسلسلات التلفزيونية - الرمضانية - الهابطة التافهة الجوفاء ، لتفكروا بأن ثمة عشرات الآلاف من الليبيين المفقرين المحرومين ، لا يجدون قوت يومهم في شهر رمضان (حقيقة لا مجازا) ؟ هل توقفتم بضع لحظات لتفكروا بأنْ ثمة مئات آلاف الليبيين محدودي الدخل ، يضطرون أن يحرموا أنفسهم و يُقتِّروا على أبنائهم طيلة العام ، حتى يوفروا بعض المال لمواجهة تكاليف مجاراتكم في الإنفاق الترفيّ أيام شهر رمضان ، الذي جردتموه من رمزيته و انتزعتموه من معناه و أفقدتموه بعده الروحي ؛ فلم يعد عندكم أبدا شهرا للصيام ، اللهم إلا الصيام عن كل ما هو جميل و راقٍ و نبيل ؟
و هل خطر لكم في ليالي رمضان أن تنصرفوا برهة من الوقت عن متابعة برامج الكاميرا الخفية السخيفة السمجة التهريجية ، لتفكروا بالحال البائسة لعشرات آلاف الشباب المعطلين عن العمل ، الذين لا يتوفرون على مصروف الجيب ، و الذين يعيشون عالة على آبائهم المسنين المحالين على معاش تقاعدي قيمته 450 دينار لا تكفي لتأمين أدوية الضغط و السكريّ ؟ .. لأن دولتكم الفاسدة الفاشلة قد تخلت عن مسؤولياتها تجاه الشباب و الشيوخ معا . و هل لكم أن تستعيدوا وعيكم الإنساني و الوطني و الاجتماعي - الذي أفقدكم أياه هلعكم في رمضان كما في سائر الأيام - لتعوا حجم الكارثة و عشرات آلاف الفتيات الليبيات لا تتوفر لهن فرص الزواج ، لعجز الشباب عن تكوين أسر جديدة ، و قد تنزلق الكثيرات منهن (اضطراراً .. لا رغبةً و لا انحلالا) إلى التنازل عن كرامتهن و الوقوع - تحت طائلة الحاجة - ضحايا فسوق و فجور و ابتزاز المتربصين من أثرياء السطو على المال العام و أثرياء الحرب و أرباب المال و الأعمال ، الذين يعج بهم مجتمعكم الفاسد .. منافقين أوغاداً لا ضمائر و لا أخلاق لهم ؟
وهل لكم أن تتوقفوا لحظات قلائل مع أنفسكم و مع عقولكم و مع ضمائركم (إن كان لا زال لكم بقية أنفس تحس أو عقول تفكر أو ضمائر تعي) ، لتتساءلوا : لماذا كل هذا الفقر المدقع الذي يفتك بالأغلبية الساحقة من الليبيين .. فلا يقوون على مواجهة تكاليف الحد الأدنى من الحياة الكريمة ؟ فلا فرص عمل ، ولا مساكن ، ولا مستقبل للشباب ، و لا رعاية طبية ، و لا ضمان اجتماعي ، و لا تعليم جيد ، و لا مؤسسات تعليمية محترمة ، و لا خدمات عامة ، ولا أمن ، و لا أحد يعرف ما الذي سيحل به غدا من مزيد المصائب ؟ لماذا هذا الانفلات الفظيع المريع في الأسعار ؟ فالتجار لا أخلاق لهم غير الاحتيال ، و لا وطن لهم غير جيوبهم ، و لا رب لهم غير الدولار ، و لا دين لهم غير الراسمالية و الاستغلال و الربح الفاحش . و من المسؤول عن كل هذا البلاء ؟ أفلا تتحملون أنتم الجانب الأكبر من المسؤولية عن النكبة ؟
و هل لكم أخيرا - و ليس آخرا - أن تعطوا لعقولكم عُشر معشار الاهتمام الذي تعطونه لبطونكم في رمضان ، فتحاولون الإجابة العقلانية عن بضعة أسئلة من قبيل : لماذا يرفع التجار المسلمون أسعار السلع الاستهلاكية في رمضان ، بينما نظراؤهم (الكفار) في بلاد الفرنجة يخفضونها تسهيلا على الصائمين ؟ لماذا يكفّر بعضكم بعضا و يقتل بعضكم بعضا في رمضان .. كما في غير رمضان ؟ لماذا أنتم حاقدون على البشر تكرهون كل من يختلف عنكم ، بل و تزدرون كل من هم على غير مذاهبكم الموروثة ؟ لماذا يستطيع تنظيم دولة الإسلام (داعش) أن تكون له كل هذه القوة المادية و أن يتوفر له كل هذا المدد من المقاتلين ، حتى يحتل أراضي دول ، و تعجز عن هزيمته دول ، و ينتشر كالسرطان في عديد الدول ؟ و هل سبي آلاف النساء الإيزيديات و توزيعهن كغنائم حرب و أنفال بين جهاديي الدولة الإسلامية ، و بيعهن في أسواق الرقيق - تطبيقا لأحكام الشريعة الإسلامية - كجواري و إماء و و ملك يمين .. يريح ضمائركم في القرن الواحد و العشرين ؟
و إلى أن تحدث المعجزة ، فيغير الزمن هذا الواقع شديد السلبية بواقع جديد أفضل و أرقى ، فبكل الأسف سيظل رمضان شهرا للصيام عن كل ما هو إنساني و حضاري و جميل و نبيل ، و سيظل - في واقع الأمر - شهرا لهدر الوقت و الإمكانات ، و ممارسة الحرابة المقنّعة ، و الإفلاس المادي و الروحي و الأخلاقي . و بقي سؤالان صغيران إضافيان : هل أنتم مواطنون أم رعايا ؟ و هل المسلمون بواقعهم الهابط هذا يستحقون شرف الانتماء إلى الإنسانية ؟ ..... و الآن تفضلوا فصبوا جامّ غضبكم الجاهليّ الداعشيّ فوق رأسي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت