الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور في ثقافة المجتمع المدني

قاسم علوان

2005 / 12 / 15
المجتمع المدني


تنطلق ثقافة المجتمع المدني وتنشط مع انطلاقة الحريات العامة وتشكيل مؤسسات الدولة وبناها التحتية الأخرى، في ظل دولة القانون كما يفترض أن يكون ذلك، لكن انبثاق فكرة تأسيس منظمات المجتمع المدني واتساعها في مجتمعنا في الوقت الحاضر، ولو أحيانا بشكل مغلوط كما لمسنا، إذ التبست مع هموم ومشاكل أخرى تعاني منها بنيتنا الاجتماعية، وذلك بعد التغيير السياسي الكبير الذي حصل في حياتنا تحت شعارات جذرية من مثل (الحرية والديمقراطية والتعددية) تلك الشعارات التي بدأت تلهج بها القوى السياسية القديمة والجديدة، التي نشطت بعد سقوط النظام السابق والاحتلال.. بجانب بروز تنظيمات ومليشيات مسلحة أخرى وبأجندة مخيفة..! وحسابات خاصة غامضة، أحيانا مختلفة مع الجميع..! وأوشكت أن تجهض العملية السياسية (الانتخابات) التي نجحت كهدف الى حد ما. بجانب كل ذلك ورغم كل ذلك التناقض في المشهد السياسي العراقي وخطورته الى هذه اللحظة، ظهرت هذه التنظيمات المدنية الكثيرة تحت يافطة (منظمات المجتمع المدني) وبأهداف وغايات أيضا مختلفة ومتنوعة، للأسف حتى أن بعضها لا يعرف ماهية (منظمة المجتمع المدني) أو وظيفتها أو حتى تعريفها، ولكن بالضرورة سيكون أغلبها يدعو الى نشر ثقافة المجتمع المدني الحقيقية فيما بعد، رغم جهل الكثير لما تعنيه هذه الثقافة..! ولكن لا بأس.. يمكن أن يتعلم الجميع من التجربة.
(المجتمع المدني) بالتأكيد هو المفهوم المقابل المعارض في الثنائية الفلسفية المفترضة للمفهوم السابق عليه (المجتمع المحلي) في سلسلة الثنائيات الجدلية في المنطق الفلسفي كما هو معروف. والمقصود هنا بالمجتمع المحلي هو البنية الاجتماعية المحلية التقليدية الراسخة بالعقائد والأعراف والتقاليد، والتي تعني أنها مكونة من ناس حقيقيين (أصلاء..) والرابط الذي يوحد أفراد هذه المجتمعات هو العواطف الإنسانية المحضة (كالحب والشرف أو الكبرياء أو الإحساس المطلق بالولاء والتعصب لها) هذه المجتمعات (أو التجمعات) سواء كانت عائلات أم جماعات دينية أو جماعات تحددها التقاليد العرقية العشيرة مثلا (منها نستمد هويتنا، وإحساسنا بالانتماء لمجتمع ما، والالتزام بنموذج أخلاقي يوحي لنا بالنهج الذي ينبغي أن تسير عليه حياتنا..) هذا ما تقول به ثقافة المجتمع المحلي.
يقول علماء الاجتماع بان هناك ثلاثة دوافع أو أنماط لاإرادية تحدد القدرات البشرية، وتتجلى في طبيعة الإنسان الفرد هي (العقل، المنفعة المادية، والعاطفة) ومن ثم ستنعكس أو تتمدد هذه الدوافع الى أنماط أخرى عامة مناظرة لها في البنية الاجتماعية هي (الدولة، السوق، والمجتمع المحلي) كل نمط منها يختص بتعظيم قيمة محددة وتفضيلها على القيم الأخرى، وهذه القيمة هي مثلا تكافؤ الوضع القانوني الذي يشمل الحقوق والواجبات في حالة الدولة التي تقابل العقل عند الفرد، هذا أولا، وثانيا حرية الاختيار في ما تتيحه أنظمة السوق.. أو في ما يتعلق بالمصلحة والمنفعة الخاصة عند الفرد أيضا، أما ثالثا فهي الهوية والحفاظ عليها من خلال التضامن والولاء في حالة المجتمعات المحلية أو (العاطفة..)
في حين أن للعدالة أهميتها في كل من الأنماط الثلاثة المكونة للبنية الاجتماعية. لكن معنى العدالة الفعلي يختلف اختلافا كبيرا في كل منها، ففي حالة الدولة الحديثة تكون سمة العدالة هي مدى ضمان هيئات الدولة للحقوق ووضعها موضع التنفيذ. وهي في الغالب حقوق المواطنين المتكافئة في ظل الدستور ومبدأ حكم القانون المدني. ولكن على العكس من ذلك نجد أن عدالة السوق تؤكد منح الشركاء في التعاملات حق الحصول على ما اتفقوا عليها فيما بينهم من تعاقدات دخلوها طواعية بغض النظر عما تسببه للآخرين من إجحاف أو ضرر. وأخيرا فان العدالة في المجتمعات المحلية هي معيار يحدد تبعا لمقاييس الحاجة المعترف بها، وتتم مناشدة أفراد المجتمعات المحلية أن يهبوا لمساعدة الأفراد الذين هم بحاجة الى عون، حتى وأن لم يكتسبوا الحق في تلقي هذه المساعدات، حيث تقرر الجماعة المحلية تبعا لمعاييرها وتقاليدها من هو الذي في حاجة مشروعة للمساعدة.
الهدف من هذه الاستفاضة الجانبية في (علم الاجتماع) هو لأجل فهم افتراضين متصلين على علاقة وثيقة بما سبق عرضه، الأول هو أن اتخاذ التدابير الخاصة بالنظام الاجتماعي بهدف الاستقرار، لا يتوقف على نمط واحد بمفرده من تلك الأنماط الثلاثة أي (الدولة والسوق والمجتمع المحلي) معنى هذا أن أي تصميم أحادي المنحى يميل الى تجاهل المساهمات التي يقدمها مكوني النظام الاجتماعي الآخرين، يؤدي الى القضاء على ذلك التصميم الاجتماعي المفترض. أما الافتراض الثاني أنه لا سبيل الى الاعتماد على تركيبة تضم أي نمطين من هذه الأنماط الثلاثة المتعارضة واستبعاد ثالثهما. فنحن بحاجة الى أسس من نظام اجتماعي بتصميم جديد يقر بهذه الأنماط الثلاثة جميعها مع بعض، أي مجتمعة في خلطة أو صيغة مركبة تمنعها من تقويض أو القضاء على بعضها بعضا. عملية الخلط هذه وضبطها ضبطا دقيقا في إطار متوازن معقد بالضرورة بحيث يفرض على كل نمط منها أن يعي حاجته الى النمطين الآخرين معا.. وهذا ما تدور حوله موضوعة المجتمع المدني وثقافته، بما فيها فكرة كتابة الدستور التي تنبني أصلا على فكرة الفصل بين تلك المكونات الثلاث أولا (الدولة، السوق، والمجتمع المحلي) ومن ثم الجمع بينهما مرة أخرى...!!
إذن أن مفهوم ثقافة المجتمع المدني ونشر مفرداته يقوم على مراقبة العلاقة في ذلك التوازن الدقيق بين تلك الأنماط أو المكونات الثلاث، التي يسعى كل نمط منها الى فرض هيمنته في حالة إطلاق حرية العمل له أو شعوره بانعدام المراقبة، وانفلاته من القيود التي يسعى النظام الاجتماعي المدني الى فرضها عليه من خلال مواد الدستور واستقلالية القضاء. فثقافة المجتمع المدني تعني الوقوف بوجه كل أشكال تدخل الدولة أولا في نواحي الحياة التي ليس من اختصاصها، كما تجسد ذلك في سلطة الأنظمة الشمولية، حيث أن تلك الدولة في حالة بسط هيمنتها مثلا تسعى الى أن تكون تلك المنظمات التي تسمى (منظمات المجتمع المدني) جزءا من سياستها وبسط نفوذها، كما لا حظنا ذلك في سياسة النظام المقبور. وكذلك سياساته المعروفة في التدخل في عمل الأجهزة القضائية، وأيضا في آلية عمل السوق بحيث تحولت بعض أجهزة الدولة في بعض الفترات الى (دكاكين...!)
كما تعني نشر ثقافة المجتمع المدني مراقبة توسع حلقات النشاط الحر للسوق ثانيا، فهذا الأخير وعندما يشعر بالحرية وانعدام القيود والمراقبة والقوانين التي يمكن أن تحد من نشاطه، سواء من قبل الدولة أو من تنظيمات المجتمع المحلي، فمن المعروف أن السوق يسعى الى امتصاص كل السلع والخدمات وحتى القيم المعنوية، ويجعل منها سلعا قيد التداول وقابلة للبيع والشراء وفق مبدأ العرض والطلب وما يتيحه نظام اقتصاد السوق غير المقيد. بالتأكيد أن منظمات المجتمع المدني المعنية بثقافة المجتمع المدني الجديد سوف تقف ضد ذلك التوسع، وتوجه الأنظار من قبل أجهزة الدولة المعنية أو الجهات الرقابية الأخرى حتى لو كانت من المجتمع المحلي نفسه لحضر تداول سلع أو خدمات معينة كانت غير قابلة للتداول في زمن ما أو من المحظورات في ذلك السوق الذي يسعى الى الانفلات والتوسع دائما باتجاه الربح والمنفعة..!
ثالثا إذ أن الاندفاع في نشر ثقافة المجتمع المحلي ومفاهيمه التي غالبا ما تكون قديمة وثابتة، والترويج لتداولها، أو محاولة فرضها على الآخرين باعتبارها ثقافة سائدة أو (مقدسة)..! وبالتأكيد أن هذا النوع من الثقافة المحلية في أي نظام اجتماعي ليست واحدة، بل هي متعددة ومتنوعة، مرهونة بتعدد مكونات المجتمع العرقية والدينية والطائفية.. فهي ثقافة محلية خاصة بكل مكون أو عنصر أو طائفة أو عرق من مكونات النظام الاجتماعي الموجود على الأرض، كل بشكل مستقل عن الآخر. وبالتالي قد يقود التبشير بثقافة محلية ما الى التصادم أو التعارض بثقافة محلية أخرى، وهذا ما يضر بعملية التوازن الاجتماعي ويجعلها قلقة الى حد ما، فالاندفاع في ذلك الاتجاه، والغلو في رفع الشعائر والرموز المحلية، التي قد تكون مقدسة عند البعض، أو في ممارسة الطقوس الدينية أو الطائفية، والانفراد علنا بتلك الممارسات باعتبار (إننا أغلبية) سواء لتأكيد الهوية والخشية عليها من التغييب، والمبالغة بذلك الحضور، يضر بثقافة المجتمع المدني ويتناقض معها بكل المستويات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المبحث في بعض من مفاصله هو عبارة عن قراءة لبعض الأفكار التي جاءت في دراسة بعنوان (نحو فهم دقيق لسياقات المجتمع المدني) لكلاوس أوفه كانت منشورة في مجلة (الثقافة الأجنبية) الكويتية العدد 107 في آب 2001 لذا اقتضت الإشارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | إعلام إسرائيلي: الحكومة وافقت على مقترح لوقف إط


.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بقبول مقترح -خارطة الطري




.. آلاف المجريين يتظاهرون في بودابست دعما لرئيس الوزراء أوربان


.. إسرائيل وافقت على قبول 33 محتجزا حيا أو ميتا في المرحلة الأو




.. مظاهرات لعدة أيام ضد المهاجرين الجزائريين في جزر مايوركا الإ