الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صفحات من التاريخ الديني والسياسي للتشيع | 2

علي شريعتي

2016 / 7 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


فارِسيّة التشيُّع
إنّ نسبة التشيع الى الفارسية نشأت في عصور متأخرة ولأسباب وظروف سياسية خاصة أهمها: أنّ الفرس كانوا غير مرغوبين من قِبَل العرب، وكان الشيعة فئة مُعارِضة للحُكم طيلة العهود الثلاثة الصدر الأول والأموي والعباسي، وكوجه من وجوه محاصرة التشيع أرادوا رمي التشيع بما هو مكروه عند العرب. وهذه الدعوى هي واحدة من مجموعة دعاوى مسخرى لتحقيق هذا الهدف.
فهذه التهمة ظهرت نتيجة خلافات سياسية لاحقة بين العرب والفرس، ولذلك لا نرى هذه التهمة عند أوائل السنة وأسلافهم فيما قدّموه من قوائم الأسباب التي ينعت بها التشيع لأنّ أسبابها لم تكن قائمة آنذاك.
إنّ التشيع هو المناصرة والموالاة لأهل البيت وزعيمهم علي عليه السلام، وهذا نشأ من وصية النبي الصحابة بعلي، وانقيادهم لأمره ووصيته، فكيف والحالة هذه أن نتصوّر كون التشيع فارسياً ؟
وحتى نستوعب النقاط المتصورة في هذا الموضوع لا بد ذكر اُمور:
أولاً: إنّ المضمون الفكري للتشيع هو نفس المضمون الإِسلامي، وأي مضمون يشذ عن المضمون الإِسلامي في العقيدة والأحكام فالشيعة منه براء، بدليل أنّ مصادر التشريع عند الشيعة هي أربعة:
أ - القرآن الكريم
ب - السنة الشريفة
ج - الإِجماع
د - دليل العقل: ويرجع إليه وإلى قواعده عند فقدان النصوص أو تعارض الأدلة في تفصيل لا داعي لشرحه هنا. (على من يريد التوسع في فهم هذه المصادر الأربعة واستيعاب معانيها إلى مجموعة من المصادر هي التالية :الأصول العامة للفقه المقارن ص179 حتى ص300 وانظر أصول الفقه للمظفر 3/338 وما بعدها)
إن هذه المصادر التشريعية هي المكونات العضوية لهيكل الشريعة الاسلامية باتفاق جمهور المسلمين على اختلاف بسيط في بعض تفاصيلها، وهي مصادر التشريع عند الإِمامية أيضاً، وعليه: فما معنى وصف التشيع بالفارسية ؟
* أما الحاضر: فإنّ الفرس لا يكوَّنون إلا جزءاً قليلاً من ناحية الكم الشيعي فالتشيع منتشر عند العرب والهنود والترك والأفغان والكرد والصينيين والتبتيين والخ ويشكل الفرس (جزءاً) من الشيعة ليس كما يصوره البعض عن سوء فهم أو سوء نية.
* وأما الماضي: فإنّ بذرة التشيع نشأت في مهد العرب في الجزيرة العربية، وإنّ الرواد الأوائل للتشيع يشكلون مؤشراً واضحاً في ذلك، وما كان من غير العرب في الرواد الأوائل من الشيعة: شخص واحد هو سلمان الفارسي، أو "المحمدي" كما سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وقد ذكرنا الطبقة الأولى من الشيعة الذين تتوزع وشائجهم على مختلف البطون والقبائل العربية، وأنت إذا تتبعت الطبقة الثانية والثالثة من الشيعة فسوف تجدهم عرباً في الأعم الأغلب.

فروض وتصورات حول فارسية التشيع ومناقشتها
• هناك تصور حول فارسية التشيع كثيراً ما يُطرح، وهو أن هناك مفاهيم معينة بالحضارة الفارسية انتقلت إلى التشيع عن طريق من اعتنق التشيع من الفرس ولم يستوعب التشيع وصارت هذه المعتقدات جزءاً من ماهية التشيع، وبقيت هكذا يتداولها خلف عن سلف.
ونقول: أن هذا الإِشكال - على فرض حدوثه - فإنّه يرد على الفكر الإِسلامي بشكل عام، حيث نص على ذلك معظم من كتب في الحضارة الإِسلامية وخصوصاً في الفترة الأولى من العهود الإِسلامية والتي شكلت مضامين العقيدة فيها جدولاً انصب فيه أكثر من رافد ورافد عن طريق الاُمم التي اعتنقت الإِسلام جماعات منها ودخلت وهي تحمل أفكارها وعقائدها التي لم تتخلص منها وظهرت في الأفكار والسلوك كجماعات الروم والفرس والصينيين والعبريين ولعل اليهود أكثر الجماعات تأثيراً في الحضارة الإِسلامية حيث تبدو روحهم واضحة في هذه الميادين. وذلك لأنّهم استأثروا بالتفسير بالقصص الديني لأنّهم أهل كتاب وفيهم كثير من الأحبار الذين يحفظون أحكام التوراة وقصص الاُمم التي حفظتها الحضارة العبرية والأساطير التي رافقت تلك القصص، ولما كانت الجزيرة العربية فقيرة إلى الأفكار الدينية والمضامين الثقافية لعب الفكر اليهودي دوراً هاماً في ملء هذا الفراغ وخصوصاً في الفكر السني الذي حاول أن يتخلص من هذا الرداء ويخلعه على الشيعة عن طريق الشخصية الوهمية عبدالله بن سبأ كما سنبرهن لك وهمية هذه الشخصية قريباً. ولكن حقائق الاُمور والبحث الدقيق يثبت عكس ما ادعاه هؤلاء القوم وما نسبوه للشيعة.
نعم إنّ آراء اليهود انتقلت إلى الفكر الإِسلامي عن طريق كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وغيرهم وأخذت مكانها في كتب التفسير والحديث والتاريخ وتركت بصماتها على كثير من بنود الشريعة. إنّ بوسع أي باحث الوقوف على ذلك في كتب كثيرة مثل تاريخ الطبري، وتفسيره جامع البيان، وفي كتاب البخاري وغيره من المؤلفات مما سنشير إلى مصادره عند ذكره.
وعلى سبيل المثال تجد فصلاً في تعليل العداوة بين الإِنسان والحية يذكره الطبري في تفسيره بسنده عن وهب بن منبه وذلك عند تفسيره للآية السادسة والثلاثين من سورة البقرة وهي قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو) الخ، يقول الطبري: وأحسب أنّ الحرب التي بيننا - أي نحن والحيات - كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم في إدخالهنّ - يعني الحيات - إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها. وهذه من اسرائيليات التوراة لأنه ورد في مطلع سِفر التكوين أن ابليس دخل الجنة في جوف حية ليضل آدم (1)

وأما الإِمام البخاري فإنّك تلمس الإسرائيليات في كثير من رواياته
وإليك نماذج من تلك الروايات:
يقول البخاري بسنده عن أبي هريرة: ما من بني آدم مولود يولد الا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها (البخاري 4/164).
ويروي بسنده عن عائشة اُم المؤمنين: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سُحِر حتى كان يخيل إليه أنّه كان فعل الشيء ولا يفعله (البخاري 4/122). ومن المعلوم أن السحر يتم عن طريق تسلط شياطين الجن، ومن تتسلط عليه الشياطين ليست لديه حصانة إيمانية تدفع عنه، فضلاً عن أن يكون نبياً، فضلاً عن أن يكون من أولي العزم من الرسل، فضلاً عن أن يكون سيد الأنبياء والرسل قاطبة! والغريب أنهم لا يستحون أن يرووا بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب: إن الشيطان يفر منك ياعمر، وما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر (والفج هو الطريق الواسع اللاحِب). وليس من الغريب أن يتمسك المتأسلمون بضرورة سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنفيساً عما زرعه الموروث الأموي في قلوبهم تجاه الصالحين.
ويروي قصة عجيبة لموسى حين نزل إليه ملك الموت لقبض روحه فصكه موسى على عينه! حتى فقأها !! إلى أن قال: قال الله تعالى لملك الموت ارجع إليه وقل له ليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة غطتها يده عُمْرَ سنة. (البخاري 4/157) ولكي نفهم أثر عبث اليد اليهودية في هذا الموضع، فلنتذكر قول الله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة) وقد قال رسول الله ص (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقائه)، إذن ليس هذا إلا مجرد "إسقاط" لطبيعتهم هم وليس لنبي الله موسى عليه السلام.. والمقصود هنا: مالنا نحن ومثل هذه الأمور الغريبة عنا وعن روح ديننا الذي تعلمناه من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه ومن القرآن الكريم؟! وكيف وردت في أصح كتب الحديث عند أهل السنة!
ومع هذا اللون من الفكر الغريب عن روح الإِسلام: فما وجدنا من ينبز حملة هذا الفكر بالخروج عن الإِسلام أو باليهودية لنقلهم هذا الفكر الإِسرائيلي إلى الإِسلام، أما إذا قُدّر أن شخصاً تشيع وحمل معه شيئاً من أفكاره للتشيع تحول التشيع فوراً إلى يهودية أو نصرانية، مع أن تَبِعَةَ كل فكر تقع على حامله! وقد أسلفنا أن كل ما ينافي الإِسلام يأباه التشيع جملة وتفصيلاً. (2)

وعلى تقدير أن هناك مجموعة من الأفكار نقلها الفرس الذين تشيعوا معهم للفكر الشيعي فإنّ ذلك لا يوجد قدحاً في العقيدة ما دامت الاُصول التي يتحقق معها عنوان الإِسلام محفوظة عند الشيعة، بحيث إذا وُجِدَت كان الإِنسان مسلماً باعتناقها، ونحن نعلم أنّ الأصول التي تحدد إسلام المسلم هي ما حدده النبي نفسه كما في صحيح البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته.
فصفة الإِسلام ثابتة لمن قال الشهادتين حتى لو لم يكن لمعتقد الإِمامة بالنص شبهة من دليل، بل لو ذهب إلى أبعد من ذلك فابتدع وكان من أهل البدع: فإنّ علماء المسلمين لا ينبزونه ولا يكفرونه.
وقد عقد ابن حزم فصلاً مطولاً في كتابه "الفصل" في باب "من يكفر أو لا يكفر" قال فيه: ذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فعل، وأنّ كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد.. وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم خلافاً في ذلك أصلاً(3).
ويروي أحمد بن زاهر السرخسي - وهو من أصحاب الإِمام أبي الحسن الأشعري وقد توفي الأشعري بداره - قال: أمرني الأشعري بجمع أصحابه، فجمعتهم له، فقال اشهدوا عليَّ أنيّ لا أكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإِسلام يشملهم ويعمهم، وإنما هذا كله اختلاف العبارات (4).

* تصور آخر لفارسية التشيع يطرحه المستشرقون ومن بلع طُعم المستشرقين من العرب، وهو: أنه لما كان أكثر الفرس شيعة - وكانوا يسمون بالموالي - وكانوا يرون أنّ العرب انتزعوا دولتهم منهم، ولما كانت الدولة الأموية يتجسد فيها المظهر العربي فقد زحف عليها الموالي وأسقطوها وأعلنوا بدلها دولة العباسيين التي دعمت الفرس والتي زحف معها بالتالي الفكر الشيعي فتغلغل أيام العباسيين.
تجد هذه الفكرة عند معظم من كتب في العصور الإِسلامية، ويتلخص منها ثلاثة اُمور:
1 - تصوير الزحف الذي جاء من خراسان للقضاء على الدولة الاُموية بأنّه زحف دوافعه قومية، وليست دوافع اجتماعية أو إنسانية اجتمعت فيها أكثر من قومية واحدة، متجاهلين الهدف الإِجتماعي الذي كان من وراء تلك الحملة.
2 - أنّ العنصر الرئيسي في الحملة والفاعل هم الفرس، وبذلك تكون الحملة إنتقامية تستهدف إعادة مجد الفرس الذي قضى عليه العرب، متجاهلين الدور الرئيسي الذي قام به العرب في الحملة وتولوا فيه القيادة.
3 - أنّ الفكر الشيعي زحف بزحف هؤلاء وانتصر في العهد العباسي.
إنّ كل هذه الاُمور غير مسلم بها ولم تقم على واقع بل هي تمويه وتغطية ووأد للحقيقة.

تعقيب على هذه الأقوال
أما الزعم الأول (الدافع القومي): فيبطله أن القادة الذين قادوا الحملة إنّما قادوها لتخليص الناس من جور الاُمويين! وصدق القائل:
فإن كنت تدري فتلك مصيبة * وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظمُ
وبإمكان أي قارئ أن يستبين الحقيقة باستقراء أحوال الحكم الاُموي الذي سايره الجور والظلم من من أيام معاوية الأول حتى سقط أيام مروان بن محمد آخر حكام الاُمويين، ومن الخطأ أن نورد شاهداً أو شاهدين للتدليل على ذلك.. لأن كل أيامهم كانت مليئة بالظلم والجور، وكل المسلمين شاهدة بذلك لا الشيعة وحدهم، فربما يقال إنّ الشيعة خصوم الاُمويين وهم يحقدون عليهم، بل هذه كتب الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وما شئت فخذ، لترى إلى أين وصلت الحالة، حتى بلغ الأمر حداً يوجزه أحد الشعراء بقوله:
واحربا يا آل حرب منكم * يا آل حرب منكم واحربا
منكم وفيكم وإليكم وبكم * ما لو شرحناه فضحنا الكتبا

وأما الزعم الثاني (أنّ العنصر الرئيسي في الحملة هم الفرس): فيبطله أنّ قادة الحملة ووجوهها هم العرب. وقد أفاض في ذلك الجاحظ برسالته المسماة "مناقب الأتراك"، وقد ذكر من قادة الحملة، قحطبة بن شبيب الطائي، وسليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وخالد بن إبراهيم الذهلي، ولاهز بن طريف المزني، وموسى بن كعب المزني، والقاسم ابن مجاشع المزني.
كما نص المؤرخون على أسماء القبائل العربية التي كانت مقيمة في خراسان والتي كونت الزحف في معظمه، وهم: خزاعة وتميم، وطيء، وربيعة، ومزينة وغيرها من القبائل العربية (5).
والشق الثاني الوارد في الزعم هو: أن العناصر غير العربية أرادت الإِنتقام لأنّها كانت محرومة من الإِشراك بالمناصب فهو بالجملة غير صحيح لأنّ كثيراً من العناصر الأجنبية والموالي شغلوا مناصب كبيرة في العهد الأموي على امتداد هذا العهد ولم يكن وضعهم أيام العباسيين يختلف كثيراً عن وضعهم أيام الاُمويين، فقد تولى جماعة من غير العرب مناصب هامة ومنهم سرجون بن منصور كان مستشاراً لمعاوية ورئيس ديوان الرسائل ورئيس ديوان الخراج، ومرداس مولى زياد كان رئيس ديوان الرسائل، وزاذان فروخ كان رئيس خراج العراق، ومحمد بن يزيد مولى الأنصار كان والياً على مصر من قبل عمر بن عبدالعزيز، ويزيد بن مسلم مولى ثقيف كان والياً على مصر، وكان منهم القضاة والولاة ورؤساء دواوين الخراج في كافة أنحاء الدولة وشعبها بصورة واسعة (6).
هذا من ناحية ومن ناحية اُخرى إنّ وضع العرب لم يكن يستأثر باهتمام الاُمويين إلا بمقدار ما يحقق مصالح الاُمويين أنفسهم فإذا اقتضت مصالحهم أن يضربوا العرب بعضهم ببعض فعلوا كما حدث ذلك أكثر من مرة في حكم الاُمويين (7). وقد تعرض الدكتور أحمد أمين إلى ذلك وشرحه مفصلاً وبينّ كيف كان العرب يضرب بعضهم بعضاً إذا اقتضى الأمر ذلك (8).

وأما الزعم الثالث (وهو انتشار الفكر الشيعي عن طريق الموالي وتعاظم نفوذهم وامتداده تبعاً لذلك): فهذا بجملته غير صحيح، فقد نُكِبَ الفرس أيام العباسيين وضرب نفوذهم أكثر من مرة، ومن أمثلة ذلك: القضاء على أبي مسلم الخراساني وأتباعه أيام المنصور، والقضاء على البرامكة أيام الرشيد، والقضاء على آل سهل أيام المأمون، وهكذا.. يبقى أنّ الموالي لمعوا في ميادين اُخرى فذلك صحيح بالجملة، وتصور نفوذ الفرس إنما هو من أيام السفاح حتى أيام المأمون وهي كما ترى لا تثبت للفرس والموالي نفوذاً خارج دائرة العباسيين وإنّما ضمن دائرتهم بحيث يستطيعون احتواءهم في أي وقت. أما الفترة التي تبدأ من عصر المتوكل حتى نهاية الحكم العباسي فإنّ الحكم العباسي ضعف نفوذه حتى انقض عليه حكام الأطراف. ولا يعني ذلك استشراء نفوذ الفرس فقط بل هو شأن الكيان الضعيف الذي ينهشه كل طامع. إنّ تصوير نفوذ الموالي بالشكل الذي أورده بعضهم مبالغ فيه غاية المبالغة، فإذا كانت الشعوبية قد وجدت أيام العباسيين فإنّها امتداد لنزعة الشعوبية منذ أيام الأمويين، وإذا كان للفرس نفوذ فلم يصل إلى الحد الذي ينتزع نفوذ العرب، بل كان ذلك النفوذ ملحوضاً من قبل الدولة ومسموحاً به لأهداف كثيرة استهدفها العباسيون. يقول فلهوزن عن نفوذ الفرس في العصر العباسي: أما أنّ النفوذ الفارسي كان هو الراجح فهو أمر غير مؤكد. (9)
أما الشق الثاني من هذا الزعم وهو تنفس التشيع أيام العباسيين فهو غير صحيح بل العكس هو الصحيح فإنّ العباسيين أولعوا بدم الشيعة وأئمتهم، وتعرض التشيع في مختلف أدوارهم إلى محن وخطوب مروّعة، عدا فترات بسيطة مرت مرور الغمام، كما هو الحال في فترة البويهيين، وبالجملة إنّ كتب التاريخ قد حفظت لنا صوراً مروعة من تعرض الشيعة للإبادة أيام العباسيين وبوسع القارئ الرجوع إلى أي كتاب من كتب التاريخ الرئيسية ليرى ذلك واضحاً.

* تصور سياسي يقرن بين التشيع وفارس
وهو : القول بالحق الإلهي في الحُكم وتولي الملك، فبينما يقول الفرس بهذا في ملوكهم، يقوله الشيعة في أئمتهم، كما أن كلاً من الفرس والشيعة يقولون بالوراثة.
ويجيب الشيعة عن الشق الأول: بأن التشيع التقى مع الفرس في القول بالحق الإلهي، ولكن: التشيع أقدم من دخول الفرس فيه، كما أن الرواد من الشيعة كلهم عرب.
إلا أن هنا أمر مهم وهو: أن الإسلام لم يجعل (الإمام) (خليفة) بالضرورة، إذ أن هناك فرق بين الإمامة والخلافة، فالإمامة منصب أعم من الخلافة، الإمامة منصب إلهي ووراثة محمدية تكون بالنص، وأما الخلافة فبالشورى بين الجماعة المؤمنة، لأن أمرها هين وهو إدارة شئون الحياة الدنيا التي (لا تساوي عند الله جناح بعوضة) كما في الحديث النبوي.
إن الشيعة أخطأوا في ظنهم أن الإمام له حق "سياسي" إلهي، فأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا هم الخليفة الشرعي، بينما كان الإمام هو الإمام علي بن أبي طالب، وكانا يرجعان إليه في كل صغيرة وكبيرة، ويقول أحدهم: (لولا علي لهلك أبو بكر) (لولا علي لهلك عمر) لأن الخليفة – كغيره - يعمل تحت إشراف وتوجيه الإمام.. وأمر الإمامة ومنصبها أكبر من التنزل به إلى مستنقع السياسة، ولابد من واسطة، ولو كانت الخلافة تساوي عند الله مثقال ذرة لما منعها الحسين عليه السلام وأعطاها ليزيد السكير العربيد. إذن ما دام (الإمام) ليس (خليفة) بالضرورة، وأن هناك فرق بين الإمامة والخلافة، وأن الإمامة منصب أعم، منصب إلهي ووراثة محمدية وليست سياسة: فهنا تنتفي شبهة ملوك الفرس ولا يكون لها أساس تقوم عليه.

وأما مسألة توارث ملوك الفرس : فتكون أيضاً غير مطروحة فيما يخص الشيعة لسببين:
الأول: لما تقدم من أن الإمامة منصب إلهي لا سياسي. فالإمام ليس ملِكاً إلا في حالة وقوع الإختيار عليه.
الثاني: حتى الإمامة الدينية، فإن الشيعة لا تعتبرها متوارثة ولا تقول بالإرث في ذلك، بل تذهب إلى أنّ الإِمام منصوص عليه من قبل الله تعالى عن طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أو الإِمام وكتب الشيعة طافحة بذلك.

* التصور الأخير وهو: دخول الفرس في الإِسلام إرادة هدمه! ثم لتحقيق مأربهم ونقل نظريات أسلافهم.. وهو ادعاء طريف ولا بد من الوقوف قليلاً حوله، فنقول:
أولاً:إنّ مؤلفات هؤلاء القوم في الدفاع عن الإِسلام ومساجدهم ومؤسساتهم الدينية وجهادهم في سبيل الله كل ذلك يشكل شواهد قائمة على كذب هذه الدعوى.
وثانياً: لا بد من سؤال لهؤلاء القائلين بهذا القول في أنّ إرادة الإِلحاد والهدم عند الفرس هل هي مختصة بالفرس الذين اختاروا الإِسلام ودخلوا في التشيع أم أنّها عند كل الفرس، سنة وشيعة ؟!
ولابد أن تكون الإِجابة بالعموم لأن إرادة الإِلحاد جاءت من كونهم فرساً لا من أمر آخر
وإذا كانت كذلك فلماذا انصبت الحملات على الفرس الشيعة فقط دون الفرس السنة ؟!!
ثالثاً: والأهم من هذا وذاك: ماذا لو علمنا أنّ تاريخ وفقه وعقائد أهل السنة أبطاله الفرس أنفسهم ؟!! فيكون الفرس هم دعائم الإسلام في المحصلة.
وقد لاحظ هذا ابن خلدون فقال في مقدمته: الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم: (من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر‏.‏ وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته) اهـ.‏

إطلالة سريعة على علماء الإسلام من الفُرس

المذاهب الأربعة:
تذهب جملة المصادر المعتبرة إلى أن ثلاثة من هؤلاء الأربعة هم من الفرس والعربي فيهم هو الرابع فقط أما الثلاثة فأولهم:
أولاً: الإِمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي وهو مولى لبني تيم الله ومولده بالكوفة (10).
ثانياً: الإِمام الشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع مولى أبي لهب وقد طلب من الخليفة عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب بعدها من الخليفة عثمان ذلك ففعل فهو من موالي قريش وقد ذكر ذلك كل من الرازي في كتابه مناقب الشافعي وأبو زهرة في كتابه المعروف الإِمام الشافعي(11).
ثالثاً: الإِمام مالك بن أنس بن مالك ذهب كل من ابن عبد البر صاحب الإِستيعاب في كتابه الإِنتقاء، والواقدي محمد بن إسحق، والسيوطي في تزيين الممالك إلى أنّه مولىً من موالي بني تيم وليس بعربيّ(12).
رابعاً: الإِمام أحمد بن حنبل وهو العربي الوحيد في المذاهب وينتمي إلى بكر بن وائل (13) على أنّه هناك من يروي أنّ الثلاثة الأوائل أيضاً عرب ولكنّ ظروف الروايات لا تخفى على الناقد وبوسع أي باحث تقييم تلك الروايات والإِنتهاء لرأي معين.

أصحاب الصحاح: إنّ المصادر التي ترجمت لأصحاب الصحاح وزعتهم على النحو التالي من حيث أنسابهم:
أ – البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم صاحب الصحيح الشهير: أعجمي.
ب – الترمذي: ابن عيسى بن سورة الضرير تلميذ البخاري كذلك.
ج - محمد بن يزيد بن ماجة مولى ربيعة، أعجمي.
د - أحمد بن علي بن شعيب النسائي نسبة لمدينة نسا بخراسان، أعجمي.
ه- سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني وهي بلدة بقرب هراة.
ينسب إلى الأزد ولم ينصوا على أنّ النسبة بالأصل أم بالولاء، ويبقى انتماؤه إلى بلد أعجمي.
و – مسلم: بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري عربي منصوص على عروبته(14).

شريحة ثالثة:
يقول الشيخ أحمد الوائلي: هذه شريحة ثالثة متوزعة على المذاهب الأربعة في امتداد تاريخها الطويل غير ملتزمة بالتسلسل الزمني اُقدمها لتكون مجرد مؤشر على نسبة ما في المذاهب الأربعة من العلماء الفرس، بلا استقصاء.
إن معظم رواة الأحكام والأخبار، ومعظم الفقهاء والمفسرين هم من الفرس
ومنهم على سبيل المثال: مجاهد، وعطاء بن أبي رياح، و عكرمة وسعيد بن جبير. ومجاهد وعكرمة ممن يعتمد عليه البخاري والشافعي ويوثقه ويأخذ بمروياته جملة وتفصيلاً(15).
ومنهم الليث بن سعد تلميذ يزيد بن حبيب والذي يعتبر مؤسس المدرسة العلمية الدينية بمصر، ويقول عنه الشافعي الليث أفقه من مالك إلا أنّ أصحابه لم يقوموا به، وهو فارسي من أهل أصفهان
ومنهم ربيعة الرأي شيخ الإِمام مالك وهو ابن عبدالرحمن بن فروخ من أهل فارس
ومنهم طاووس بن كيسان الفارسي ترجم له الشيرازي في طبقات الفقهاء
ومنهم البيهقي صاحب السنن الذي قيل عنه: للشافعي فضل على كل أحد إلا البيهقي.
ومنهم مكحول بن عبدالله مولى بني ليث
ومحمد بن سيرين مولى أنس ابن مالك
والحسن البصري الذي قيل عنه إنّه أشبه الناس بعمر بن الخطاب على حد تعبير الشيرازي في الطبقات.
ومنهم الحاكم صاحب المستدرك، وعبدالعزيز الماجشون الأصفهاني مولى بني تميم، و عاصم بن عليّ بن عاصم مولى بني تيم ومن شيوخ البخاري
وعبدالحق بن سيف الدين الدهلوي صاحب مقدمة في مصطلح الحديث، وعبد الحكيم القندهاري شارح البخاري في حاشيته، و عبدالحميد الخسر وشاهي صاحب اختصار المذهب في الفقه الشافعي.
و عبدالرحمن رحيم مولى بني أمية ومحدث الشام على مذهب الأوزاعي، و عبدالرحمن العضد الإِيجي صاحب كتاب المواقف، و عبدالرحمن الجامي صاحب فصوص الحكم، وعبد الرحمن الكرماني رئيس الأحناف بخراسان وصاحب شرح التجديد، و شيخي زادة صاحب كتاب مجمع الأنهار عبدالرحمن، و أحمد بن عامر المروزي صاحب كتاب مختصر المزني، و سهل بن محمد السجستاني صاحب كتاب إعراب القرآن
ومحمد بن إدريس أبو حاتم الرازي الذي يعد بمستوى البخاري، وأبو إسحاق الشيرازي صاحب كتاب التشبيه، وعبدالله بن ذكوان أبو الزناد عالم المدينة بالفرائض والفقه وممن روى عنه مالك والليث؛ و أحمد بن الحسين شهاب الدين الاصبهاني صاحب كتاب غاية الاختصار؛ و يعقوب بن إسحاق النيسابوري صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج.
و أحمد بن عبدالله أبو نعيم صاحب الحلية، وابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، و أحمد بن محمد الثعلبي المفسر (16).
ولو رمت أن أمشي معك على هذا الخط فسنصل إلى نسب عالية جداً من الناحية الكمية من نسبة العلماء والمؤرخين والمفسرين من الفرس
إنّ الفكر السني بكل أبعاده مدين للفرس ومصبوغ بالفارسية. (*)

وبعد.. فما هو وجه نسبة التشيع على الأخص للفرس والذي أصبح يرسل كالمسلّمات
والسؤال المهم هو: هل يثبت مثل هذا أمام البحث العلمي ؟!
فقد ثبت لدينا بعد البحث: أن التشيع نشأ عربياً، وأن كل الدعاوى والفروض والتصورات التي بثها المستشرقون ليقرنوا بين التشيع والفرس، تصورات باطلة لا حقيقة لها.
وأن الفرس لو كان لهم فضل فإنما يرجع فضلهم إلى نشر علوم أهل السنة، من خلال الفارسيين من أهل السنة.

____________________________
(1) كأنه احتال على الله، واختبأ في جوف الحية فلم يره ربه ولم يشعر به! وهذه المسحة البشرية في حق الله تفوح بها التوراة، وهذا الإعتقاد هو ترجمة لطبيعة نفوس اليهود).
(2) لأن التشيع وتولي أهل البيت والتزام هديهم هو الإسلام نفسه، مجرداً فطرياً بسيطاً دون إضافات وبدع لاحقة غيرت معالمه وحولته إلى منحى آخر غير المنحى الذي أنزله الله لأجله.
(3) الفصل لابن حزم 3/247.
(4) تبيين كذب المفتري ص 149، الفصول المهمة لشرف الدين ص32.
(5) وللتوسع في معرفة أسماء القادة والقبائل العربية التي جاءت في الحملة للقضاء على الحكم الاُموي يراجع كتاب (ابن الفوطي مؤرخ العراق) لـ "محمد رضا الشبيبي" 1/36 و37 فقد توسع في إيراد النصوص التاريخية من اُمهات الكتب وشرح أهداف الحملة ونوعية الجيش والأقطاب الذين اشتركوا بالحملة وبالجملة بكل ملابسات الموضوع.
(6) ضحى الإِسلام ج ص3.
(7) راجع الإِمام الصادق لأسد حيدر 1/344.
(8) مروج الذهب ج2.
(9) الزندقة والشعوبية لسميرة الليثي ص81.
(10) مناقب أبي حنيفة للموفق بن أحمد 1/16.
(11) انظر الإِمام الصادق لأسد حيدر 3/220.
(12) الإِمام الصادق لأسد حيدر 2/200.
(13) طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/4.
(14) أنظر في تلك وفيات الأعيان 1/21، والكنى والألقاب 3/207، ومعجم المؤلفين 12/115، ومقدمات الصحاح الستة في تراجم أصحابها.
(15) فجر الإِسلام ص191، و204، ومعجم المؤلفين 1/59.
(16) انظر في تراجم هؤلاء معجم المؤلفين لكحالة 1/206، فجر الإِسلام ص241 والكنى والألقاب للقمي 1/6 فصاعداً.
(*) هويّة التشيع، أحمد الوائلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال