الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الصويرة .. أريج التاريخ وترانيم الرياح والنوارس

مصطفى المغراوي

2016 / 7 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يعود تأسيس مدينة الصويرة المطلة على المحيط الأطلسي الى سنة 1970، وذلك إثر تشييد السلطان المغربي محمد بن عبد الله للميناء الذي سيربط المغرب بأوربا، بغية الانفتاح عليها وتطوير علاقته بها، ، حيث أصبح نقطة إستراتيجية تلتقي عندها القوافل التجارية، ويؤكد الأركيولوجيون على وجود مرفإ تجاري مهم في هذه المنطقة تعود أصوله إلى الفينيقيين.
وبسبب ولع السلطان محمد الثالث ببناء الحصون والقلاع في جل المدن الساحلية خوفا على سلامة الوطن، أسند إلى المهندس " تيودوكورني" المختص في بناء الحصون العسكرية الضخمة، مهمة وضع تخطيط وتصميم شامل للمدينة كلها، مع إيلاء الأهمية القصوى للحصون والأبراج، الأمر الذي مكن من مراقبة التجارة البحرية من جهة، وتحصين البلاد ضد مختلف الأخطار الاستعمارية المحدقة بها من جهة أخرى.
ونحن نتجول في مدينة الصويرة نلحظ بشكل جلي معالم التأثر بالعمران الأوربي، بدءا بالأسوار الدفاعية المنيعة المحيطة بالمدينة، مجنبة إياها شتى أشكال الأطماع الأجنبية، والتي تم تعزيزها بعدة أبراج وخمسة أبواب لتسهيل عملية الولوج والخروج، وعلى رأس هذه الأبواب باب يدعى " باب البحر" الذي تطغى عليه الهندسة الأوربية، فيعلو واجهته شريط زخرفي رفيع، مثلث الشكل متناسق الأجزاء، غاية في الروعة والبهاء..
وليس هذا كل شيء وحسب، بل نجد داخل أسوار المدينة معالم أخرى لا تقل أهمية وجمالية عن غيرها، مثل القلعة المتكونة من طابقين الأول تحت أرضي والذي خصص لتخزين المؤونة والتجهيزات العسكرية، وفوقه برج المراقبة والذي يعلوه برج آخر لدرء الأخطار والكوارث قبل وصولها. والى جانب ذلك يوجد حصن منيع أطلق عليه " حصن باب مراكش " والذي تم دعمه بمجموعة من المدافع، لصد الهجمات الأوربية الشرسة. إضافة إلى مسجد القصبة والكنيسة البرتغالية التي أنشأها أحد التجار الأوربيين الذين استقروا بالمدينة في القرن الثامن عشر الميلادي.
وفي خضم هذه المآثر المتعددة يفوح عبق التاريخ، فيصير أريجا يغذي طيور النورس المحلقة فوق سماء المدينة، معبرة عن فرحتها باستقبال الزوار الجدد، الشغوفين بعشقهم الأبدي لهذه المدينة الهادئة، والتي ترددت عليها مجموعة كبيرة من فناني العالم، ممن يعشقون الجمال و يبحثون عن الإلهام، كالتشكيليين والموسيقيين والكتاب والسينمائيين، فيدخلونها مقلون ويخرجون منها مكثرون من وفرة العطاء وجود ة الإبداع، فكانت رحلتهم إلى هذه المدينة بمثابة سفر في المكان وسفر في الوجدان.
إن الصويرة مدينة لا تغادرها الرياح طيلة السنة، حيث كلما اقتربت من إحدى بواباتها الخمس القديمة، إلا واستمتعت بالترانيم التي تعزفها الرياح في كل الفصول، فتنبجس الأحاسيس والعواطف مهللة بحضور طقوس احتفالية، تبقى ذكرياتها التي تدغدغ المشاعر، عالقة في الأذهان و راسخة في العقول.
و ما يميز الصويرة حقيقة، هو هدوؤها الرائع وصمتها.......... وهواؤها البحري المنعش، الذي يساعد على التعايش مع حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وموقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأطلسي كشبه جزيرة بحرها ملتصق بالمدينة، ويمتد شاطئها الذي هو بمثابة حزام أزرق يطوق المدينة على مسافة عشر كيلومترات، فكمية الرياح وسرعتها تجعل المكان قبلة و محجا لراكبي الأمواج من كل بلدان العالم.
لقد جمعت المدينة كل المحاسن الطبيعية وجل المعالم الحضارية، فهذه القلعة الساحرة المحاطة بالبحر، والتي أسالت لعاب الأجانب بغية امتلاكها للتمتع بروعة جمالها الفريد، وشدو نورسها الغريد، ظلت شامخة تتحدى الزمن، محتضنة نسيجا سكانيا متألفا من العرب والأمازيغ واليهود، وهذا النسيج ظل يعيش طوال قرون ينعم بالسلام والتسامح، لا تعتريه عن أية نزعة تعصبية، وإنما تهيمن عليه روح التآزر و التعاون والتآخي والتضامن.
فهذه البقعة التي سلبت عقول الأجانب ببحرها ورياحها وترانيم نوارسها وغروب شمسها واعتدال هوائها، قد حظيت أيضا بعناية واهتمام منظمة اليونسكو التي تعنى بالثقافة والتراث اللامادي، فأولتها رعاية خاصة باعتبارها تراثا إنسانيا عالميا، حيث قامت بترميم جدرانها وأسوارها، وإصلاح قلعتها وحصونها وأبراجها، للاستمرار في تقديم عبق التاريخ لزوارها، هذا التاريخ الذي يختزن زخما حضاريا مهما، بما يملكته من عوامل الجمال ومظاهر السحر والكمال.
لقد ظلت الصويرة منذ القدم ببديع عمارتها وبهاء تزاويق أبنيتها، والتي يطغى عليها اللون الأزرق، زرقة تقطع الأنفاس وتبهِج الأرواح، خاصة عندما تلتقي بزرقة البحر والسماء، فتدفع الأمواج الهادئة الأشرعة بحنو كسيح، تعلوه طيور النورس الشديدة البياض، فيصبح ذلك لوحة من الفسيفساء السريالية، تتجاوب فيها الأصوات والألوان وفنون العمارة مع حركة التاريخ. فهذه المدينة تمتد إلى الوراء وتحتضن الحاضر وتصنع المستقبل، خوفا من الإندثار وطلبا للخلود والاستمرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟