الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التربية الحديثة: مغامرة استكشافية جديدة

جلال العاطي ربي

2016 / 7 / 17
التربية والتعليم والبحث العلمي


تقديم المترجم:
على الرغم من أن بعض الأدبيات النظرية تقرن زمن نشأة حركة التربية الحديثة بالقرن الثامن عشر، قرن الأنوار الأوربية، بيد أنها في الواقع لم تتشكل كحركة علمية أصيلة إلا في حدود القرن العشرين. ويربط فيليب ميريو، عالم التربية الفرنسي، بين لحظة انبثاق هذه الحركة وتطور بعض المبادرات البيداغوجية على هامش المنظومات المدرسية، والتي كانت تتأسس في الغالب على عدد من المبادئ الرئيسية من قبيل ربط التعلم بالممارسة، ما يجعل التعلم بعيدا كل البعد عن آليات التفكير النظري والمجرد. وذلك انسجاما مع أفكار بياجيه في علم نفس النمو المعرفي، الذي يرى أن الطفل ينخرط بنشاط في عملية بناء المعارف من خلال تفاعله مع المحيط، ويؤكد أنه (أي النمو) يتحقق من خلال مسار خطي تصاعدي، وعبر مراحل تدريجية، متسلسلة وضرورية في شكل بنيات معرفية أكثر فأكثر تجريدا آخرها البنيات المنطقية الرياضية. ومن بين المبادئ كذلك، " ضرورة تعبئة التلاميذ وتحريكهم من خلال مشاريع كبيرة وحقيقية، يفترض فيها أن تكون على صورة ما يوجد في الحياة الحقيقية"، بمعنى أن تترجم المدرسة ما يوجد في واقع المتعلم لكي يكون لتعلماته اللاحقة معنى ودلالة، ولكي ينخرط بشكل إيجابي في سيرورات الاكتساب والتعلم. وهو ما يدفعنا إلى التأكيد على مبدأ آخر قوامه أن " المعارف تكتسب بطريقة طبيعية وليس عبر وساطة البرامج التعليمية" أي أن الطفل وعبر تفاعله مع محيطه وإنتاجات ثقافته يتمكن من بناء معارفه الخاصة على شكل معارف ساذجة وحدسية.
إضافة إلى تلك المبادرات التربوية التي ساهمت في ميلاد ما يسمى بحركة التربية الحديثة، فهناك أسباب أخرى تاريخية واجتماعية. فأوربا ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كان يراودها الأمل في بناء مجتمع حديث، ستجد في التربية الحديثة ترياقا لكل أشكال العدوانية والعنف الناجمة ربما عن الطرق التقليدية الوسطوية. هكذا ستجمع أنتلجنسيا أوربا الحديثة الفكرية والتربوية على نقد " التربية الكلاسيكية" التي ستكون كبش فداء التربية الحديثة.
لكن رغم ما حققته التربية الحديثة من نتائج إيجابية أفضت إلى بناء المدرسة النشيطة التي تعترف للتلميذ بقدراته الخاصة وتعتبره محور كل التعلمات، وإلى دمقرطة الولوج إلى عالم المعرفة، وإلى إقامة "مدرسة الشعب" المبنية على المساواة والتآزر، وتشجيع النشاط الجماعي للأطفال لتعزيز المنافسة البينفردية، يدعونا فيليب ميريو في هذا المقال إلى ضرورة إعادة اكتشاف مغامرة التربية الحديثة، فلربما أسعفنا ذلك في سبر اللامفكر فيه في هذا المجال، وتغيير وجهة دفة سفينة التربية المعاصرة.
أما وجه العلاقة بين ما قيل في هذا المقال وواقعنا التربوي، نحن، في العالم العربي. فتترجمه حاجتنا هنا والآن، في هذا الوطن الجريح والمتخن بأزمات بناء ديمقراطيات الألفية الثالثة، إلى وضع أسس تربية عربية حديثة وأصيلة بدلا من المدرسة الحالية المرسخة فقط لإيديولوجيا الدولة والغارقة في الأزمات والمشكلات (مشكل البراديغم التربوي، مشكلة المناهج والكتب المدرسية، غلبة الكم على الجودة، الهدر المدرسي...إلخ )

النص الأصلي:
حتى إذا لم يكن بإمكاننا أن نكشف النقاب عن بداياتها الأولى إلا في حدود القرن الثامن عشر، فحركة التربية الحديثة، حقيقة، لم تتشكل بنيويا إلا في مستهل القرن العشرين. ففي سنوات 1900، رأينا بعض المبادرات البيداغوجية الأصيلة تتطور على هامش المنظومات المدرسية، والتي كانت تنتظم حول بعض المبادئ الأساسية من قبيل:
- " لا يتعلم الطفل إلا بالممارسة"
- " ضرورة تعبئة التلاميذ وتحريكهم من خلال مشاريع كبيرة وحقيقية، يفترض فيها أن تكون على صورة ما يوجد في الحياة الحقيقية"
- ومن ثم " أن تُكتسٙب المعارف بطريقة طبيعية وليس عبر وساطة البرامج التعليمية"
- أن تنبع قواعد السلوك والانضباط من الجماعة ذاتها وذلك بغاية تكوين مواطنين حقيقيين" ... إلخ

وهكذا سيتأسس نوع من " المذهب أو العقيدة" التي ستصبح عقيدة رسمية سنة 1921 خلال مؤتمر كالي Calais لحظة التأسيس الرسمي للرابطة الدولية للتربية الحديثة. ففي أوربا المصدومة بالحرب العالمية الأولى، والتي تأمل في بناء مجتمع أخوي، ستبدو التربية الحديثة كترياق لكل أشكال "الترويض" المولِّدة للعدوانية والعنف. وهكذا سيتفق الجميع على نقد " التربية الكلاسيكية" التي ستكون كبش فداء التربية الحديثة، التي ندد بها أدولف فيريير، شاعر الحركة في مقطع شعري شهير:
" باتباع تعليمات الشيطان،
خلقنا المدرسة.
يحب الطفل الطبيعة:
فحبسناه داخل حجرات موصدة،
يحب الطفل أن يرى نشاطه
ينفع في شيء
فعملنا على أن نجعله (أي نشاطه)
بدون هدف.
يحب التفكير ( أو الاستدلال):
فنكرهه على التذكر.
إنه يتطلع إلى البحث عن العلم:
فنقدمه له على طبق جاهـز
إنه يريد الحماسة:
فابتدعنا العقوبات."
لكن وراء هذا التشهير العلني، فالتربية الحديثة بعيدة عن أن تكون متجانسة: فمن وجهتي نظر ألكسندر نايل- تحرري ومؤسس سامرهيل Summerhill وراعي التحرر الجنسي قبل الأوان- وماريا مونتيسيرو- التي تضع التعليم المسيحي في مقدمة اهتماماتها- ف" احترام الطفل" لا ينطبق تماما على نفس الشيء/ المعنى ( أو لا يقتضي دلالة واحدة)؛ فإذا نظرنا عن قرب إلى الموضوعات الكبرى للتربية الحديثة، سنكتشف بسرعة أن الشعارات الأكثر توافقية لا تحيل لا إلى نفس المشاريع ولا حتى إلى نفس الممارسات. وهكذا، فمفهوم " المدرسة النشيطة"، الذي ورغم الضوء الذي سلط عليه بشكل منهجي ومنظم، فإنه يبقى مع ذلك ملتبسا؛ فالبعض يرون فيه كيفية للتركيز على العمليات الذهنية للتلاميذ، التي كانت محور اهتمام جان بياجيه، بهدف دمقرطة الولوج إلى المعرفة؛ في حين، يتخذ آخرون -أمثال سيليستان فرينيه- من المفهوم السابق مسوغا لإقامة "مدرسة الشعب" المبنية على المساواة والتآزر، بينما يشجع آخرون أيضا، مثل فيريير ذاته، النشاط الجماعي للأطفال لتعزيز المنافسة البينفردية والظهور/ الانبثاق السريع لقادة المستقبل...

بين مبدأ الحرية ومبدأ قابلية التربية
كما أننا، لو تواضعنا واتفقنا عن طيب خاطر على ضرورة بناء " مدرسة على المقاس" على حد تعبير إدوارد كلاباريد، ف" التفريد" ليس له نفس المعنى الذي يضفيه عليه من جهة، أولئك الذين يرغبون في التركيز على القدرات الفطرية للأطفال، مع احتمالية استدعاء القضاء والقدر، ومن جهة أخرى، هناك أولئك الذين يرفضون أن يأخذوا في الحسبان المعطى إلا عبر اقتناع بإمكانية تجاوزه باستمرار... بالإجمال، يبدو جليا أن التربية الحديثة قد علقت أهمية كبرى على مفاهيم من مثل: النشاط، الدافعية، المشروع، احترام الطفل، التعاون، التربية والتكوين على الحرية. ولكن دون تثبيت المفاهيم؛ فكل هذه المفاهيم تحيل، بالفعل، على رؤى مختلفة للتربية والمجتمع، بعضها يحمل بصمات المذهب الطبيعي الحيويnaturalisme vitaliste، وبعضها الآخر يندرج ضمن النزعة الإرادية التقنوية volontarisme techniciste، والبعض الآخر، يتمركز حول رؤية للنمو الداخلي " الجواني" ( على الطفل أن " يتفتح" في بيئة عطوفة ومتسامحة)، وهناك رؤى أخرى ملتصقة بتصور للنمو مغال في "برانيته" (خارجي المنشأ) ( يجب تنظيم النمو و "تدبير"ه بواسطة الأدوات والوسائل المناسبة).
بالطبع، يمكننا أن نضع هذا التعارض في نطاق التربية الحديثة وأن نعتبر أنه ينسف مصداقيتها. مع ذلك أيضا يمكننا اعتبار- كما سأفعل- أن التربية الحديثة تعبر عن التوتر المنشِئ للمؤسسة التربوية بين مبدأ الحرية- " لا أحد ينمو ويرتقي في مكان أي أحد آخر"- ومبدأ قابلية التربية -" أن نجعل كل شيء موضع التنفيذ لكي يتمكن كل طفل من أن يتعلم ويكبر".

" أن نفعل كل شيء دون أن نفعل شيئا":
إن مؤسسي التربية الحديثة، وفي إطار ما يبدو لنا اليوم شبيها بالنزاعات العائلية، يدعوننا إلى أن نلمس تعقد المؤسسة البيداغوجية كذلك. ففي النهاية، لا توجد إلا طريق واحدة ممكنة: " أن نفعل كل شيء دون أن نفعل شيئا"، كما يقول جان جاك روسو في إميل، بمعنى أن نستخدم كل ما هو ممكن ومتاح لكي تتمكن الذات من التعلم والنمو بالاعتماد على نفسها، وأن نبتكر بلا توقف مؤسسات وبيئات تربوية، ووضعيات تعلم، ووسائط ثقافية تسمح للمتعلمين بأن يعلموا أنفسهم بأنفسهم، وبأن ينخرطوا ذاتيا في مغامرة المعرفة، وبأن يكتشفوا لذة التعلم وفرحة الفهم معا. وهكذا نجد، مثلا عند ماريا مونتيسيرو أو سيليستان فرينيه، التجسيد القبلي لما صورنته أبحاث حديثة تحت اسم " الوضعيات المشكِلة". إذا كانت منهجيتهما مختلفة – يتصور س. فرينيه هذه الوضعيات انطلاقا من مواقف " طبيعية"، أما م. مونتيسيرو فتبني الوضعيات بمساعدة معدات جُهِّزٙت أساسا لهذا الغرض- النتيجة المتوخاة هي نفسها: تحريك وتعبئة التلميذ من أجل مشروع ما، السماح له بتذليل العقبات التي تواجهه لكي ينفتح على معارف جديدة. فكل منهما، يثني على فضائل القسم المختلط، وبالتالي فهما معا يجسدان بشكل مسبق البيداغوجيا الفارقية. كما أنهما، يرفضان التصور التقليدي للترقيم العددي ويؤكدان على ضرورة استبداله بتقويم مبني على ما يمكن أن نسميه " وحدات القيمة".
إن التربية الحديثة، هي في هذا الصدد إذن، مغامرة ينبغي تكرارها اليوم: ليس من أجل التبشير بالعِبر والوعظ بورع وتُقى، ولكن لكي تُغذّينا بديناميتها وتساعدنا على فهم واستيعاب مشاكلنا الخاصة.
وبدون أن نكرر، بسذاجة، الشعارات التبسيطية التي تجهل تعقد تاريخ التربية الحديثة ومجادلاتها، ولكن تلك التي نرى فيها أداة لإعادة تقويم خطاباتنا وممارساتنا. هكذا، ففي ميدان التربية الحديثة علينا القبول بالإنصات إلى كل ما من شأنه أن يزعزع، في الوقت المناسب، يقينياتنا النائمة والراسخة: لا، لا يكفي أن ندرّس لكي يتعلم التلاميذ؛ لا للفصل الذي يفترض فيه أن يكون منسجما، والذي يتشكل من 25 تلميذا يقومون بنفس الشيء وفي نفس الوقت، فهو ليس النموذج الوحيد والممكن للمدرسة ؛ لا للمقررات والكتب المدرسية- الدروس، والبرمجيات وحتى برامج الدراسة عبر الأنترنت Mooc- فهي ليست الأدوات الوحيدة للتعلم؛ لا للنقط والتنافسية بين الأشخاص، فهي ليست الوسائل الوحيدة لتحريك وتعبئة التلاميذ على المعرفة؛ لا، لا نُكوِّن على الحرية عبر السلطوية المنهجية والإكراه التعسُّفي... نعم، التربية هي مهمة صعبة؛ فهي تتطلب في الوقت ذاته مشروعا سياسيا وإبداعية تقنية ثابتة لتحدي المقاومات والعقبات. كما تستلزم مواصلة العمل الذي التزمت به التربية الحديثة، بكثير من الوضوح والصرامة، لكن أيضا بالعزيمة نفسها، ولم لا بكثير من الحماسة !
Philippe Meirieu, Sciences humaines, n° 263, octobre 2014 pp 38-39








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد قضية -طفل شبرا- الصادمة بمصر.. إليكم ما نعرفه عن -الدارك


.. رئيسي: صمود الحراك الجامعي الغربي سيخلق حالة من الردع الفعال




.. بايدن يتهم الهند واليابان برهاب الأجانب.. فما ردهما؟


.. -كمبيوتر عملاق- يتنبأ بموعد انقراض البشرية: الأرض لن تكون صا




.. آلاف الفلسطينيين يغادرون أطراف رفح باتجاه مناطق في وسط غزة