الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سؤال المعرفة بين عقلانية ديكارت وتجريبية هيوم

جبوري يونس

2016 / 7 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التأطير الإشكالي
هل المعرفة ممكنة ؟ وإن كانت كذلك فما السبيل لتحقيقها ؟ وهل يمكن إنتاج معرفة حقيقية بالإنسان وبالطبيعة وما وراء الطبيعة ؟ وإن كانت كذلك فماهي الأسباب أو المحددات والسبل التي تجعل هذه المعرفة ممكنة أو غير ممكنة ؟ أو لنقل بلغة الألماني كانط ماذا يمككنا أن نعرف ؟ أو ماذا علينا أن نعرف ؟
عندما يتعلق الأمر بهاته الأسئلة فمعناه أننا بصدد لحظة فلسفية ومرحلة فكرية ، تتمظهر في سياق سؤالات نظرية المعرفة ، المنضوية تحت لواء الأساس الإشكالي للحداثة ، حيث التحول والإنتقال من براديغم معرفي يضمر أهمية الذات ويهمش حريتها في البحث ، إلى براديغم علمي حديث يقوم على قاعدتي الذات والموضوع ، أي الذات العارفة والباحثة والمتأَمِّلَة والدارسة والمؤَسُّسَة للموضوعات في مواجهة الموضوع المتأمل والمبحوث والمدروس ، ومنه أصبحت مقاربة سؤال المعرفة من حيث طبيعتها ــ المعرفة ــ وماهيتها وحدودها وسبل قيامها ، مقاربة تتوخى تحقيق الدراسة العلمية والمنهجية المنظمة وبالتالي تحقيق الموضوعية العلمية ، وهذه النقلة الفكرية والطفرة العلمية لا يمكن استيعابها إلا من خلال العودة إلى أساسها النظري والذي يتمظهر في ثلاثة لحظات على الأقل :
ـــ اللحظة الأولى : والتي تمثلت في الثورة التي أشعل فتيلها مارثن لوثر 1517 ، معلنا إصلاحا على مستوى الدين ، من خلال إقدامه على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية العامية ، حتى يتسنى للناس فهم مضامينه بدل التفسيرات الإديولوجية التي يقوم بها رجال الدين ، وهي دعوة صريحة إلى أهمية حرية الفرد في الفهم وإعمال العقل بغية خلق ما يسمى بــ " كهانة الجميع أي أن كل إنسان في اتصال مباشر بالله "1 ، بعد أن أخذ هذا الدين موقعا أساسيا في مرحلة العصر الوسيط تحت إشراف الكنيسة ورجالها ، التي كانت تلعب دور الوساطة في الحياة الثقافية والروحية والعلمية للإنسان ، أي أن هناك الذات بدون فاعلية ثم الموضوع وبينهما الكنيسة كوسيط ، وهو ما سيسميه كانط في ما بعد في مقاله الشهير ما الأنوار ؟ بالوصاية وغياب الجرأة على استعمال العقل ، فقد كان دور العقل مغيبا والفاعلية الإنسانية مهمشة بل ومحرمة فليس من حق الكل أن يعرف ، الكنيسة هي الوحيدة التي من حقها أن تعرف ، وما على الآخرين إلا الامتثال للأوامر الدينية والإلهية التي تبلغها الكنيسة ، بمعنى آخر لقد كان جوهر الفلسفة وطبيعة فكرها مناف تماما للنمط الديني وهذا ما إنتبه إليه رجال الدين ليعلنوا شعارا على لسان القديس أغسطين مفاده " نؤمن لكي نفهم ، ولا نفهم لكي نؤمن " 2 ، بمعنى آخر إن المعرفة تقتضي الإيمان لا الفهم لأن مقولات الفهم والعقل لا تتماهى والمنطق الديني وهذا هو كنه الإشكالية التي عمرت طويلا بين الفكر النظري ( الفلسفة والعلم ) في مقابل الفكر اللاهوتي والديني بمختلف تلاوينه ، اليهودية منها والمسيحية والإسلامية ، فكان الإشكال قد أفرز عنفا وحروبا بين الأفراد والجماعات ولا أدل على ذلك من حادثة إبن رشد وغاليلي ، بمعنى أن الصراع انتقل من مستوى الأفكار إلى المستوى العلاقات الإنسانية ، خاصة وأن الوقوف عند الفِكرَين قد بين أن طريق الدين هو الإيمان وليس العقل والفهم بل إن الدين يقوم على المعجزة كبرهان ودليل وهي في غالبية الأحيان حجة تتجاوز منطق العقل كما قوانين الطبيعة كمعجزة معراج النبي ، أو معجزة المسيح عيسى إبن مريم ، لذا لم يكن على رجال الدين إلا أن يغيبوا دور العقل أو أن يغلفوه بجلباب اللاهوت و عباءة الإيمان .
ـــ اللحظة الثانية : والمقصود هنا التحول الواقع على مستوى الفلك خاصة مع الثورة الكوبرنيكية والأبحاث الغاليلية التي أوقعت بمشروع إنقاد الظواهر الافلاطوني والبراديغم الأرسطي التراتبي الذي كان يصنف العالم إلى قسمين قسم فوق القمر وهو عالم الشرف والأثير والإنتظام والكمال ، ثم عالم تحت القمر وهو العالم الأرضي المتسم بالكون والفساد ، إلا أن هذا البراديغم القديم لم يستطع الخروج من معضلة الكواكب المتحيرة التي ألغت صبغة النظام والدوران والتناغم والكمال في السماء ، وأحلت محله الفوضى ، وتكمن أهمية كوبرنيك في أطروحته الأساسية القائلة لا يمكن أن نحل هذه المعضلة إلا إن حركنا الأرض وجعلنا الشمس مركزا للكون ، فمن خلال كتابه " حول دوران الأفلاك السماوية " أصبح العالم على شاكلة أخرى ، الارض التي كانت ثابتة أصبحت متحركة ، والشمس التي كانت متحركة أصبحت ثابتة ، فالعالم إذن مزيف وما نقلته الحواس هو كذب وخداع ، فأين الحقيقة إذن من كل هذا ؟ وكيف يمكن بلوغها ؟ ، لبرما كانت هذه الأسئلة هي الإشكال الذي عليه مدار الفكر الحديث ، وقد سار غاليليو في نفس الطرح الكوبرنيكي محتكما في ذلك إلى لغة الرياضيات والتعليل العلمي ، حتى أصبحت الطبيعة في نظره بمثابة كتاب مفتوح مكتوب بلغة الأرقام والأشكال الهندسية ، وتتمثل قوة إسهامه العلمي من خلال كتابه الموسوم بــ " محاورة حول نظامي العلمين الأكبرين البطلميوسي والكوبرنيكي " .
ـــ اللحظة الثالثة : ويراد بها الطفرة أو النقلة التي حصلت في حقل العلم خاصة مع الإنجليزي فرانسيس بيكون ، حيث انتقد القياس الأرسطي باعتباره منهج العلم السائد ، كونه لا يعتمد على التجربة ويغيب الملاحظة ولا ينتج معرفة جديدة ، إنه مصادرة على المطلوب " يفرض الموافقة على القضية دون أن يمسك بالأشياء "3 ، وفي هذا المستوى أحدث بيكون كتابا موسوما بــ " الأرغانون الجديد " أو " القانون الجديد " ، للرد على أرسطو وتجاوز أرغانونه القديم ، بتنصيب الطريقة الإستقرائية في محل الطريقة القياسية ، لأن الإقبال على دراسة الطبيعة في نظره يجب أن تكون بطريقة مباشرة ، أي التحرر واستبعاد كل ما من شأنه أن يلعب دور الوساطة بين الذات الباحثة والموضوع ، وتحقيق هذا المطمح يقتضي العودة إلى العقل وصقله وتحريره من الأوهام والتصورات والمعارف الكلاسيكية المنافية للعلم الحديث ، وقد حدد هاته الأوهام في مصفوفة رباعية هي " أوهام القبيلة ، أوهام الكهف ، أوهام السوق ، أوهام المسرح " .
يمكن القول أن هاته اللحظات مجتمعة تشترك في كونها تؤسس لتصورها وثورتها على العقل الفردي والعودة إلى الذات ، بمعنى أخر إن إشكالية المعرفة في العصر الحديث هي إشكالية الذات في علاقتها بموضوع المعرفة ، أي الخروج من غمر النحن إلى ساحة الأنا ، فإلى أي حد تكون المعرفة الذاتية معرفة ممكنة ؟ وبأي معنى تكون المعرفة نتاجا لذات عاقلة ؟
المعرفة بما هي نتاج للعقل " ديكارت "
لقد كان ديكارت ( 1596 ـ 1650 ) كما جل العلماء يؤمن بأن الرياضيات هي المفتاح الوحيد للفهم والمعرفة ، دونما العودة إلى وساطة معينة ، فهي تمثل ــ الرياضيات ــ نسقا وبنية أساسية مشتركة بين فروع المعرفة ، تقدم نفسها كنموذج للمعرفة اليقينية المتسمة بالوضوح والبساطة ، ولا أدل على ذلك من قوله " للرياضيات من الإختراعات ما هو غاية في الدقة (...) وكنت ألتذ خاصة بالرياضيات ليقين براهينها وجلائها "4 لذلك كان المشروع الديكارتي هو كيف يمكن تحقيق المعرفة اليقينية على غرار اليقين الرياضي ، يذهب ديكارت إلى أن العقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس ، أي أن سبيل المعرفة هو العقل وما يليه من أفعال عقلية طبيعة ـــــ الاستنباط والحدس ـــــ تمثل النور الفطري الذي ولد به الإنسان ، فالعقل حسب ديكارت هو قوة الإصابة في الحكم وملكة التمييز بين الصحيح والخطأ ، بين الحقيقة والباطل وبين اليقين والظن ، غير أن العقل كما يمثله ديكارت بمثابة سلة مملوءة بفاكهة التفاح منها ما هو معتل ومنها ما هو سليم ، أي أن العقل البشري حامل لمجموعة من المعارف والتصورات التي تلقنها في المدرسة أو المجتمع ، دون أن يقف عندها العقل وقفة نقدية ، وهذا إنما يفيد أن دور العقل لا يستقيم إلا بوجود منهج نقدي يؤطره ويوجهه صوب المعرفة واليقين ، وكأن ديكارت يقول ، إن إعادة بناء كل االقيم يجب أن يقوم على ما تعتبره الذات ذا مشروعية ، فكيف يمكن أن نبني معارفنا على أرضية صلبة دون السقوط في المعرفة الجاهزة والأحكام المسبقة والمعرفة الرخوة ؟ وكيف يمكن انطلاقا من الذات أن نؤسس لتمثلات مشروعة ؟
إن الإجابة المفترضة مع ديكارت هي أنه لا يكفي أن يمتلك الفرد عقلا فقط ، بل يجب كذلك أن نمتلك منهجا ينير طريق العقل ويوجه حكمه ، لأن في دقة المنهج وصلابته ، إعمال للعقل الإنساني وترويض له على الكيفية التي تجعله في طريق البحث ، وليس في طريق التيه والضلال ويؤكد ديكارت ذلك بقوله " أكثر ما أرضاني من ذلك المنهج ، هو ثقتي أنني بواسطته استعمل العقل في كل الأمر ، إن لم يكن على الوجه الأكمل (...) كنت اشعر في تطبيق ذلك المنهج أن عقلي كان يتعود شيئا فشيئا على تصور ما يتصوره علو وجه أشد وضوحا وأقوى تميزا "5 . ومنه فإن تنوع الآراء واختلافها بهذا المعنى الديكارتي ، راجع إلى كون الأفراد يسوقون أفكارهم على دروب مختلفة ، وهذا إنما يدل على أن تحقيق المعرفة المتسمة بالوضوح والتميز على غرار اليقين الرياضي ، رهين بطبيعة العلاقة القائمة بين العقل والمنهج المؤَطِّر له ، وبموجب ذلك ينحل هذا الأخير إلى أربعة قواعد :
ـــ قاعدة الحدس البداهة : من خلال عدم التسليم بأي فكرة على أنها حقيقة ، ما لم تكن واضحة أمام العقل ومتميزة ، تبقى صلبة أمام تجربة الشك المنهجي ، لأن الأفكار الصحيحة تستلزم الوضوح والتميز .
ـــ قاعدة التحليل : ومفادها تفكيك المشكلات والمعضلات إلى أجزاء ، حتى يتسنى للعقل أن يتعامل مع أجزاء بسيطة تسمى بالعناصر الأولية يدركها الحدس ، وبالتالي يدرس العقل المشكلة وهو متأكد من وضوح وجلاء الفكرة التي يبدأ منها ، والتي على أساسها يتم الانتقال إلى ما هو مجهول وغير واضح ، أي الانتقال مما هو أبين وأوضح ( الفكرة الحدسية ) إلى ما كان مجهولا ، وهذا الانتقال هو ما يسمى بالعملية العقلية الاستنباطية أو الإستنتاجية .
ـــ قاعدة التركيب : ومؤداها استجماع وترتيب وتنظيم وتركيب الأفكار التي تم تحليلها وتفكيكها سلفا ، بدءا بأبسطها ووصولا إلى أعقدها .
ـــ قاعدة الإحصاء والمراجعة : وتفيد ضرورة مراجعة كل الخطوات السابقة ، بحيث " ينبغي ليكتمل العلم ، أن نتصفح كل الأشياء التي تتصل بهدفنا ، واحدا تلو الآخر في حركة فكرية دؤوبة غير منقطعة البتة ، وينبغي أن نحيط بتلك الأشياء إحاطة إحصائية منهجية كافية "6
من هنا فإن المعرفة حسب ديكارت هي نتاج للذات العاقلة ، إذ يمكن بلوغ حقائق موضوعية انطلاقا من استنتاجات العقل الرياضي دونما العودة إلى التجربة أو الخبرة ، التي عادة ما تنقل لنا معارف مغلوطة ، فلو كانت الحواس تقدم الحقيقة لنقلت آذاننا موجات الصوت بدلا من سماعه ، ولما نقل نظرنا معرفة مغلوطة عن حجم الأرض ، إن الحواس تخدعنا إنها تقدم الأشياء التي تبدوا لها ، وليس الشيء في ذاته بلغة كانط ، بهذا سيصير الإنسان مع ديكارت هو العقل، والمعرفة هي العقل ، وليس الإنسان إلا ما يعرف .
الإحساس كسـبـيـل للـمـعـرفة " هـيـوم "
يذهب هيوم ( 1711 ـ 1776 ) إلى أن الأفكار التي نؤولها والأحكام التي نصدرها تعود أساسا إلى التجربة ، والتجربة بدورها تتكون إما بناء على معطيات الحواس ، وإما بناء على معطيات الشعور ، أي أن الأمر يتعلق إما بإحساس خارجي ، وإما بإحساس داخلي ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لا ندرك في آخر المطاف سوى الأجسام مادام ارتباطنا بالعالم الخارجي قائم على أساس حسي ، لأن الإحساس كما يقول هيوم هو أصل الأفكار ، فبالرجوع إلى كتابه " مبحث في الفاهمة البشرية " نجد هيوم يرد المعرفة الإنسانية إلى مصدرين أساسيين وهو ما سنجده في القسم الثاني من الكتاب والمعنون ب " أصل الأفكار " حيث يقيم تمييزا بين الإدراكات الحسية للذهن عندما نحس مثلا بالانشراح الناتج عن حرارة معتلة أو الإحساس بالألم الناتج عن حرارة مفرطة ، وبين استعدادنا لهذا الإحساس عن طريق الذاكرة أو استباقنا له من خلال التخيل أو المخيلة ، ومن خلال هذا التمييز يقسم هيوم الإدراكات الحسية إلى قسمين ـــ وإليهما تُرَدُّ المعرفة ـــ هما : الإحساس (الانطباعات) ثم الأفكار ، إذ أنه يمكن تمييز إدراكات الذهن إلى صنفين :
ــ صنف الإنطباعات : ومعناها أن الإحساس يرتبط بالتجربة الحسية (اللمس ، البصر...) ، كما يمثل تلك الآثار الحسية للحواس أو الانطباعات (الحب ، الكراهية ...) ، فهذه الانطباعات كما أشرنا هي إدراكات حسية متأججة نعيشها لحظة بلحظة ، نتيجة تدفق الإحساسات من الخارج مثل " الألوان والروائح وغيرها " .
ــ صنف الأفكار : إن الأفكار هي إدراكات أقل قوة وأقل حيوية حسب هيوم ، لأنها مجرد اسْتِدعَاء الانطباعات إلى الذاكرة ، ولذلك تكون عبارة عن إدراكات حسية ضعيفة يتصرف فيها الخَيال بحرية لأنه لا يَعْرِف حُدُودًا ومن شأنه الزِّيَادَة وَالنُّقصَان ، عكس الإحساس المقيد بالانطباعات وبالمثيرات الخارجية لأنه نتيجة لها ، ومثال ذلك فإن الإحساس بالألم أثناء الوَخزِ بالإبرة ليس هو نفسه الإحساس بألم الفقر ، لأن الإدراكات الحسية المباشرة للانطباعات كما أشرنا ، مقيدة بمثيرات خارجية ، بخلاف الإحساس بألم الفقر مثلا ، لأن الفكر في هذه الحالة يكون حرا ، ثم إن صنف الأفكار هو امتداد لصنف الإحساس ، على اعتبار أن هذا الأخير هو مصدر الأفكار وليس العكس ، أي أن جميع العناصر المُكَوِّنة للفكر هي في نفس الوقت مشتقة من الإحساس بنوعيه الداخلي والخارجي ، أما مهمة المزج بين تلك العناصر مثل "الجمع والتركيب أو الزيادة والنقصان" فهي رهينة بالذهن والإرادة ، وبهذا المنظور تكون " جميع أفكارنا ، أو إدراكاتنا الأضعف ، هي نسخ عن انطباعاتنا أو إدراكاتنا الأكثر حياة "7
أما الأفكار المجردة ، فيرى هيوم أنها مهما كانت مُوغَلَةٌ في التجريد ، فإن مصدرها حسي ، بل وحتى الأفكار التي تبدوا غريبة أو بعيدة عن الأصل التجريبي ، فمثلا عندما نتخيل صورة جبل من ذهب ، فإننا آنذاك لا نكون أمام شيء يتجاوز التجربة ، لأن هذه الصورة ليست إلا فكرة مركبة من الجبل والذهب ، وهما لا يخرجان عن إحساساتنا ، ووجود هذه الأفكار في الذهن وتداخلها لا يتم بطريقة عشوائية أو اعتباطية ، وإنما يخضع لنظام أو علاقة تقوم على بمبدأ يسميه هيوم مبدأ الترابط ، وهو مبدأ يعود في أصله إلى العادة والتكرار ، التي تقوم على ملاحظة نفس التجارب الماثلة أمام الحس أو الماثلة للذاكرة وهذا يعني أن المبادئ ليست فطرية كما عند ديكارت ، ولا هي من إبداعات العقل الخالص ، بل هي من صميم الانطباعات التي تنتج عن طريق الإدراك الحسي، ويطلق هذا الأخير على مجموعة الإحساسات أو الإدراكات ، التي تأتينا من العالم الخارجي بواسطة الحواس ، بل إن العالم الخارجي لا نعرفه إلا بواسطة الانطباعات .

تركــــــــــــــــــــــيـب
إن مقاربة إشكالية المعرفة توحي بضرورة الوقوف على الفلسفة الحديثة أساسا كونها قاربت مفهوم المعرفة من زوايا متعددة يمكن تصنيفها منهجيا إلى المذهب العقلاني ، والمذهب التجريبي الأنجلوساكسوني ، من حيث إن العقلانية بمعناها العام على خلاف مع التجريبية ، وهذا التمييز يظل مفيدا ولا غنى عنه بالنسبة لأي باحث في نظرية المعرفة بصفة عامة ، فالتجريبية هي أطروحة عن طبيعة المعرفة البشرية وأصولها، ويظل الزعم العام لها هو أن المعرفة كلها تستمد من التجربة الحسية ، والعقلانيون بخلاف ذلك ، فهم يؤكدون بالدور الحاسم الذي يقوم به العقل في اكتساب المعرفة ، وفي هذا الإطار كانت دائرة نفوذ فلسفة ديكارت وجون لوك ، و هيوم وكانط واسعة وفاعلة ، وعموما فبالرغم من الصراع الفكري والحجاجي الذي كان محتدما بين هذه الفلسفات ، فهي ظلت تشتغل مجتمعة في أرضية وحقل واحد ، هو حقل الذات ، الذي يجد مرحلته الجنينية في الثورة الكوبرنيكية ، قبل أن يولد مع ديكارت ، ويشتد عوده مع كانط .

لائـــــحـة الإحـــالات
1 . برتراند راسل ، حكمة الغرب ، الجزء الثاني ، ترجمة فؤاد زكريا ، سلسلة عالم المعرفة ـ 72 ـ الطبعة 2 ، ص21 .
2 . ذ عبد المجيد باعكريم، العنف في تاريخ الفكر النظري إشكالية العقل والإيمان نموذجا ،من مجلة وليلي ودفاتر المدرسة العليا بمكناس،ص 91.
3 . فرنسيس بيكون ، الأرجانون الجديد ، ترجمة د. عادل مصطفى ، رؤية للنشر والتوزيع ، الطبعة 1 ، 2013 ، ص 20 .
4 . رينيه ديكارت ، حديث الطريقة ، ترجمة عمر الشارني ، بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة 1 ، 2008 ، ص ص 52 ـ 57 .
5 . رينيه ديكارت ، مقال عن المنهج ، ترجمة محمود محمد الخضري ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة 3 ، 1985 ، ص 196 .
6 . رونيه ديكارت ، قواعد لنوجيه الفكر ، ترجمة سفيان سعد الله ، دار سراس للنشر ،2001 ، ص 56 .
7 . ديفيد هيوم ، مبحث في الفاهمة البشرية ، ترجمة، د. موسى وهبة، بيروت – لبنان، دار الفرابي ، ط1، 2008 ، ص 38.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة :كارثة في الأفق ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مطعم في لندن طهاته مربيّات وعاملات نظافة ومهاجرات.. يجذب الم




.. هل تمتلك السعودية سلاحًا نوويًا؟| #التاسعة


.. روسيا تحذر...العالم اقترب من الحرب النووية!| #التاسعة




.. رئيس الاستخبارات الأميركية يلتقي نتنياهو لإنقاذ المفاوضات وم