الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أربع لوحات فى القصر القديم

ماريو أنور

2005 / 12 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ايها الرسام المجهول ,
لم اتمكن من معرفة اسمك . لكننى سررت لرؤيتى لوحاتك الأربع . لقد بدت لى بسيطة فنياً اما موضوعها فكله ايحاء و مادة للتفكير .
اللوحة الأولى تمثل الطفولة . هناك مراكب شراعى يخرج من المرفأ . فى وسطه يجلس ولد وهو يتأمل بلا مبالاة حركة الامواج . قد يكون سبب جلوسه بلا مبالاة ان ملآكاً يمسك بدفة المركب ويتحكم بها . صحيح ان فى مؤخرة المركب شبحاً اسود , غير انه نائم نوماً عميقاً ولا يبدو على وشك الاستيقاظ .
اللوحة الثانية تمثل المراهقة . فالولد الذى رأيناه فى اللوحة الأولى اصبح كبيراً . انه واقف فى المركب و ينظر الى الخارج بفضول كأنه يستكشف البعيد المجهول الواعد بجمالات لا حد لها . ان دفة المركب لا تزال فى يد الملاك غير ان الأمواج اصبحت متوجة بالزبد و الشبح الأسود استيقظ من نومه وعيناهالحادتان لا توحيان بالخير , بل أنهما تطمعان بالاستيلاء على الفة و تنذران بهجمات وشيكة .
اللوحة الثالثة تمثل سن النضج . فى المركب الآن رجل يناضل بكل قواه ضد الأمواج الثائرة , السماء مغبرة و الرجل متجهم و الشبح الأسود يمسك بالدفة بينما الملاك منزو فى مؤخرة المركب .
انى اشاركك , ايها الرسام العزيز , الفكرة القائلة ان حياتنا رحلة لها بداية و نهاية , و ما سن العشرين أو الخمسين أو الستين سوى مراحل بين هذين الحدين . فبينما نعلم بدقة المسافة التى اجتزناها حتى الآن , فاننا نجهل تماماً المسافة المتبقية . كم يبقى لنا من السنين ؟ فبينما نقدر ان نعرف الرسم و الميكانيك و اللة الانجليزية و الحساب , فهذا الأمر الصغير لا أحد يعرفه . ازاء هذا الواقع يرتعد الانسان و حينئذ يأخذ هذا القصد : (( قد تكون سنوات عمرى قليلة جداً . وربما كان هناك فقط أشهر و ايام . فيا ربى . لن اضيع دقيقة واحدة .))
هناك مشكلة مقلقة للغاية , وهى انه يوجد مرفآن فى نهاية الرحلة . الجنة والجحيم . فالانسان يشتهى الجنة فقط , فهل سنحظى بها ؟ هذا هو السؤال ! اما الباقى فلا يهم كثيراً : (( حظيت بالغنى و الشهرة و كل الامجاد التى توفرها وظيفة كبيرة . فاذا لم ابلغ المرفأ الأول , الميناء الامين , فكل ذلك لن يكون سوى كارثة كبرى
انى اشاركك الرأى بأن البلوغ الى الصلاح يقتضى النضال خاصة فى الأوقات العصيبة , و بأن القداسة هى ثمرة معارك و انتصارات نحوزها بحد السيف يوماً بعد يوم . هذا صحيح .
انى اشاركك الرأى القائل باننا نعيش صدام مع الاهواء البشرية . وقد وصف ذلك الشاعر دانتى عندما قال انه اصطدم فى بداية رحلته بثلاثة حيوانات مفترسة سدت طريقه : الفهد و السد و الذئبة . الفهد المعروف بالخفة و الليونة و بعدم مهادنة عدوه هو الشهوة . فهذه تستعمل كل شىء لتطفى فينا حاسة ذوق اللذات العقلية و لتشعل نار الرغبات الدنيئة . انها تلاحقنا باستمرار . ولولا حماية الله لنا لكانت حملتنا على اليأس و الاستسلام . و الأسد (( برأسه الشامخ )) يمثل الكبرياء , كبرياء الذين يمشون شامخى الرأس منتصبى القامة و منتفخى البطن . بالطبع لا داعى لهذا الشكل من الابتهاج . فى عصر الشاعر جيوستى كان هناك رئيس مغتبط للغاية بوظيفته يلبس (( طربوشاً )) , و كان اثناء الجلسات يضع طربوشه على مقعد بقربه . وحدث ان جلس يوماً احدهم عليه بدون انتباه , , مما اوحى للشاعر هذه الأبيات الاذعة :
(( لقد حطوا طربوش الرئيس لكن , لحسن الحظ , كان الطربوش فارغاً )) .
هناك من الناس من يعتمر الطربوش فى حضرة الله اى انهم يدعون انهم كل شىء و انهم يعرفون كل شىء و انهم احرار و مستقلون و معترضون ! لكن بالنتيجة الى أين يقودهم تبجحهم ؟.
أما الذئبة النحيلة الجسم وذات الشهية الكبيرة فقد تمثل روح العالم التى تفترسنا بالتزاماتها المستمرة : الزيارات , الامتحانات , المسابقات , الأعمال التجارية , المباريات الرياضية , المسرحيات , ونحن ندع هذه الأشياء تبتلعنا كالهوة . وماذا عن الله ؟ و عن نفسنا ؟ انهما فى المرتبة الثانية من اهتماماتنا ! من وقت لآخر نختلس النظر اليهما فى الضباب و نكرس لهما لحظات قليلة انما نادراً و سريعاً , وذلك بفعل انقلاب للقيم مفاجىء و غير معقول .
انى اشاطرك الرأى بأن قوى الخير ترد بهجوم مضاد حسب استرتيجية مناقضة لاستراتيجية الحيوانات المفترسة , والحمد لله على ذلك !
بالنسبة للشهوة , الفراغ . نعم يوجد اوقات يصنع فيها الله الفراغ فينا . نشعر بأن بعض الأشياء لا تليق بنا , لا تكفينا ولا تملأ فراغنا , (( هوذا النحلة تحط على براعم الورود تمتص رحيقها ثم تطير . فالسعادة , وحق الله , يست فى الوجود سوى هباء و شىء يسير . ))
أغلب الحيان ليس هناك سعادة بل لذة عابرة و بل انزعاج . نشعر بألم فى الأسنان فنسمع صوتاً ينادينا : (( اذهب الى طبيب الأسنان )) . فى كلامه عن السنين السبع عشرة التى قضاها فى الفساد اعترف أغوسطينوس قائلاً (( كان ضميرى يعذبنى فى ذلك الوقت . فتلك لم تكن حياة , يارب ! )) و كميل يقول : (( عمل الشر يسبب لنا اللذة , غير ان اللذة تمضى سريعاً و الشر يبقى لنا . عمل الخير يتبعنا , غير ان التعب يزول سريعاً و الخير يبقى ! )) .
يا صديقى الرسام . لقد تمكنت بواسطة رسومك ان تلمس فى وتراً حساساً , فشكراً لك . اما بعد فانى أخشى ان اكون سبب الازعاج للآخرين .
قد تشألنى : اىازعاج تعنى ؟
فأقول لك سراً : انا خائف ان اكون خيبت امل بعض قرائى برومنطيقيتى الساذجة و بكلامى عن قصور الأجيال , وبعضهم الآخر بالوعظ الاخلاقى الذى حفل به مقالى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جودي سكيت.. يكشف عن أشياء مستحيل أن يفعلها ومفاجأة عن علاقته


.. تساؤلات حول تقرير واشنطن بشأن استخدام الأسلحة الأمريكية في غ




.. بعد الوصول إلى -طريق مسدود- الهدنة لا تزال ممكنة في غزة.. «ج


.. المستشفى الإماراتي العائم في العريش.. جهود متواصلة لدعم الجر




.. تحرك دولي لإطلاق تحقيق مستقل بشأن مقابر جماعية في قطاع غزة