الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الأمل الهيجلي .. ورهاناته

عبد الناصر حنفي

2016 / 8 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في إحدى فقرات المقدمة الشهيرة لكتاب "فينومينولوجيا الروح" يذكر هيجل أن تقدم العقل/التاريخ هو أمر يمكن تمثيله على نحو استعاري عبر ثنائية الحمل/الميلاد، فكما أن الحمل بالوليد هو نمو كامن وخفي وغير ملحوظ ينقطع فجأة بالميلاد وظهور الطفل في العالم، فكذلك الفكرة، وعالمها، ينموان ببطء عبر زعزعة ما هو قائم، وفك ترابطاته وإذابتها من الداخل، إلى أن يحل تجلي العالم الجديد فجأة! ...
ولكن إلى اي مدى تصمد هذه الاستعارة التي تتضمن لب الأمل الهيجلي في التقدم والتغيير، مثلما ينطوي داخلها رهانه الروحي على أن ذلك الحراك العقلي الذي لا يهدأ قط سيمضي بنا دائما إلى تجاوز ما هو واقعي وقائم وبغيض ومفتت تجاه ما هو تاريخي وجليل ومستقر؟
والواضح أن موضوعة "الحمل" هنا تجد نفسها أكثر في إطار سياقات لا تستطيع تلك الاستعارة تحملها، فالحمل يظل برغم تكراره حدثا فريدا وطارئا، واسير مراوحة هشة ودائمة بين الموت والحياة، وفضلا عن أن "جنينه" هو بالفعل كيان طفيلي يتغذى على ما يأتيه من كيان آخر، ولكنه لا يفعل ذلك على حسابه، فهو لا يفتته، ولا يقوضه، ولا حتى ينفيه أو يسلبه بالمعنى الهيجلي. وموضوعة "الميلاد" أيضا ليست حلول لجسد أو كيان محل آخر، ولا استبدال عالم بعالم، بقدر ما هي تجديد للنوع، أو تكثير ومضاعفة لما هو قائم بالفعل، بل إن اكتمال هذا المسار يقتضي رعاية فائقة من ذلك الكيان الذي أصبح قديما للكيان/الذات الجديدة. وبالتالي فالاستعارة لا تعمل هنا سوى بصورة سطحية فقط، وستتبدد تماما إذا ما تقدمنا بها خطوة أخرى.
ما الذي يعزز هذا الأمل الهيجلي إذا؟ ..... إنه التاريخ بالطبع.
فمجمل تحليلات، بل وقراءات هيجل يمكن تلخيصها في معادلة بسيطة وأولية للغاية:
هذا ما كان يحدث = هذا ما سيحدث
ولكن إذا ما كان لدينا معادلة على هذا القدر من البساطة والوضوح فما حاجتنا إلى مثل هذه الاستعارات المتهاوية (وغيرها كثير)؟ ... والإجابة على هذا السؤال تستلزم أن نخطو إلى مدى ابعد داخل ما يمكن تسميته بالعماء الهيجلي. فالمعادلة على هذا النحو تعني أن ماضي ما هو تاريخي يتطابق مع مستقبله دائما، أي أن جوهر ما هو تاريخي يكرر حركته بلا توقف، وبلا أدنى تغيير، وفضلا عن أن هذا المفهوم أقرب للعود الأبدي النيتشوي منه إلى حركية هيجل النظامية والتي تكاد تستغرق مجمل عمله، إلا أننا هنا أمام تناقض لا يمكن رفعه عبر آلة الجدل الهيجلي، إلا إذا سلمنا أولا بصحة هذه المعادلة التي مهما توغلنا في أحد طرفيها فلن يفضي هذا بنا قط إلى طرفها الثاني، وذلك بغض النظر عن الكثير من التحليلات التي قدمت ما يشبه صيغة تلك المعادلة بوصفها ما يجري إثباته عبر منهج هيجل، والتي كان بعضها من الجراءة بحيث قدم لنفسه ما يعتقد أنه يستحقه من تقريظ.
ومن الواضح أن بإمكاننا مقاربة معادلة التاريخ هذه بوصفها أحد اشتقاقات فرضية اقليدس، ولكنها في الواقع تتعدى كونها مجرد فرضية تستعمل كماكينة لبناء الأفكار، فتحليلات هيجل المبتكرة تماما حول نهاية التاريخ، أو نهاية ما هو تاريخي، تلقي به بعيدا خارج مثل هذه التجريدات المحايدة، وتعلن عن رغبته في تقديم هذه المعادلة بوصفها ذات اتجاه واحد ووحيد، يندفع دائما إلى الأمام، ولا يعود إلى ما كان عليه قط، فما يصبح "كليا" يصير كذلك مرة واحدة وإلى الأبد، ولا يوجد سبيل أمامه للحركة أو التغير إلا عبر تجاوز ذاته إلى كيان "كلي" آخر أكثر تركيبا وتقدما، أما عودته إلى ماضيه الأكثر بساطة فهي ممتنعة ومستحيلة طبقا لهيجل، وهنا يتبدى الموقف الهيجلي من التاريخ بوصفه يتأسس بالمقام الأول على "أمل" إنساني عميق وموغل في القدم والذي تم منحه شكله شبه الكامل مع هيجل عبر دسه ودمجه في بنية أفكار جردته من طابعه الساذج والبسيط، وقدمته كمبدأ متعالي على نحو يجعله عصيا اكثر فأكثر على المساءلة والمحاكمة.
وخلافا للحلم، يرتبط الأمل بحكم طبيعته برهان متعين، أي رهان مع العالم أو ضده، ولا يوجد رهان بلا ثمن، أو بلا حسابات مكسب وخسارة قائمة أو متوقعة. وهكذا فالأمل الهيجلي عقب تبلوره وانتشاره صنع رهاناته الواقعية الخاصة، وعزز إطلاق موجة هائلة وغير مسبوقة من الراديكالية التاريخية والاجتماعية، التي نطلق عليها "الحداثة"، حيث أصبح هدف "المحافظة" على ما هو قائم ليس فقط موصوما بالرجعية، ولكنه بات أيضا جريمة ضد التاريخ، ومحاولة لعرقلته، ونزع قضبان قطاره الذي نقف جميعا في انتظاره، إنه عنف ضد ما هو إنساني، ويجب مواجهته بعنف مماثل، وبالمقابل، تلاشى الفارق على نحو شبه تام بين تدمير العالم، أو تدمير وتفتيت وتقويض وسلب ونفي وتفكيك ما هو قائم في أي مجال من المجالات، وبين إعادة بناءه، فكلاهما يجد موضعه على نفس الخط الزمني الذي يصل الماضي بالمستقبل، بل اصبح تحقيق أولهما شرط تجلي الأخير.
وهكذا، يتبدى بوضوح أن لا حداثة دون هيجل، ودون الانضواء داخل فضاء أمله التاريخي وتبني رهاناته، وبالطبع فمن السهل استدراج هذا الأمل داخل برنامج ينهض بتفكيكه وخلخلته وكشف المسافات المهترئة داخله، فمثل هذه البرامج قد باتت التدريب الأكثر انتشارا في السنوات الأخيرة، خاصة مع نزعة ما بعد الحداثة، ولكن يبقى تساؤل: انطلاقا من أي رغبة، وطبقا لأي رهان، وتحت أي أفق سنقوم بتطبيق هذا البرنامج؟ فهل سنفعل ذلك من منطلق أن تدمير هذا السياق الهيجلي يعني تجاوزه، وفتح البوابات أمام ما هو قادم؟ لأنه حينها سنكون قد استبدلنا موقعنا من حافة هذا الرهان إلى حيث يتم ابتلاعنا داخله!، أم أننا قادرين على أداء هذه المهمة عبر رهان آخر يقبل بحفظ هذا العالم "النزق والممل والمتضعضع" كما هو، واستئصال ذلك "الإحساس الغامض بمجهول يقترب" (كما يقول هيجل)، وهل نحن مؤهلين أصلا للتعاطي مع عالم لا نرغب في نفيه؟
--------------------------
نص الفقرة موضع التحليل:
----
"والحق أن العقل لا يجمد قط بل هو مدفوع دائما بحركة مطردة، سوى أن الأمر معه كشأنه في التمخض: فبعد التغذية الطويلة الصامتة إذا الزيادة المتصلة في النمو ازديادا كميا تنقطع فجأة مع الشهيق الأول انقطاعا كيفيا ويخرج المولود إلى الضوء.
كذلك العقل الذي يتهيأ لشكله الجديد بعد نضوج صامت طويل: فهو يفت بنيان عالمه القديم كسرا كسرا دون أن تنم عن هذا التقوض إلا عوارض متفرقة، فالنزق والملل اللذان يغزوان ما يتبقى من القديم ثم الاحساس الغامض بمجهول يقترب، تلك هي العلائم المؤذنة بأن جديدا في الطريق.
ولكن هذا التفتيت الذي استمر حقبة دون أن يغير من صورة الكل لا يلبث أن يطلع عليه الفجر فإذا قسمات العالم الجديد تتبين في نوره دفعة واحدة."
هيجل: "علم ظهور العقل" - ترجمة مصطفى صفوان - ص 17
----------------------------
الفقرة من "الترجمة!" التونسية للعونلي:
"والآكد أن الروح لا يحصل قط في سكون بل في حركة رابية، ولكن الحال هاهنا كالتي في الطفل بعد تغذية طويلة وصامتة، يقطع أول نفس فجأة هذا الاتصال الذي لمسار النماء، وهو ليس ألا مسار تزيد -وتلك نقلة نوعية- فها إن الطفل قد ولد،
كذلك الروح المتكون يشتد عوده ببطء وبصمت قبل الشكل الجديد، ويفت بنيان عالمه الفائت قسطا بعد قسط، فلا يستعلن تهافت هذا العالم إلا بحسب بعض الآيات المفردات، فالاستخفاف كما الملل اللذان يجتاحان ما ظل قائما وتوجس المجهول، أمارات تنذر بحلول ما لا عهد لنا به.
وذلك التفتت المتعاظم الذي لا يغير من وجه الكل شيئا، إنما ينقطع بفجر فلق يلوح فجأة بوضع وجه عالم جديد."
فينومينولوجيا الروح: ترجمة ناجي العونلي - ص 124، 125
------------------------
الفقرة من الترجمة الانجليزية لميلر:
"Spirit is indeed never at rest but always engaged in moving forward But just as the first breath drawn
by a child after its long, quiet nourishment breaks the gradualness of merely quantitative growth-there is a qualitative leap, and the child is born-so likewise the Spirit in its formation matures slowly and quietly into its new shape, dissolving bit by bit the structure of its previous world, whose tottering state is only hinted at by isolated symptoms. The frivolity and boredom which unsettle the established order, the vague foreboding of something unknown, these are the heralds of approaching change.
The gradual crumbling that left unaltered the face of the whole is cut short by a sunburst which, in one flash, illuminates the features of the new world."
HEGEL- PHENOMENOLOGY OF SPIRIT - Translated by A. V. Miller - ©Oxford University Press 1977- pp 6, 7








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل