الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أترانا شعبا أصيب بالانفصام الثقافي والديني؟

طوني سماحة

2016 / 8 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جبيل اللبنانية مدينة عريقة تتكلم تاريخا وثقافة وحضارة. اسمها باليونانية هو بيبلوس ويعني الكتاب ومنه تم اشتقاق كلمة Bible أي الكتاب المقدس. من شواطئها وشواطئ شقيقاتها صور وصيدا وارواد انطلقت الابجدية على متن السفن لتغير وجه العالم ثقافيا وحضاريا. في أزمنة الانحطاط، قامت جبيل بنهضة ثقافية من خلال مهرجاناتها التي تستقدم كل عام فنانين من كل أرجاء الأرض يؤدون رقصا وغناء وشعرا وفنا.

في مهرجانات هذا الصيف في جبيل، تم استقدام فرقة غريس جونز لتقدم عرضا فنيا. أعترف أنني جاهل فنيا وأني لست من عباد المشاهير. لكن ذلك لا يعني أني أرفض الفن بالمطلق. فأنا من محبي الموسيقى الهادئة والحالمة التي تخاطب الروح قبل الجسد. لطالما شعرت بقوة الحب وأنا استمع لزكي نصيف يصدح " نقي لي أحلى وردة، يا فراشة نقيلي" ولطالما نفذت موسيقى أغنية "كلمات" لماجدة الرومي الى قلبي حين صدورها للمرة الأولى، خاصة وانا اختبر مشاعر الحب مع زوجتي التي كانت خطيبتي آنذاك. في سنين المراهقة، كنت أردد مع المغني جو داسين "Mais si tu n’existais pas… "، أغنية يكلم فيها العاشق حبيبته التي افترض في لحظة عدم وجودها وما يترتب على انعدام هذا الوجود من ضياع الهدف والمعنى للحياة. لكن ما علاقة هذه المقدمة بفرقة غريس جونز؟

هي المرة الأولى التي أسمع بها بوجود هذه الفنانة. سمعت سابقا بالليدي غاغا ومايلي سايروس اللتين تعتبران من رموز الاغراء والجنس والتعري. لكن ها هي غريس جونز تأتي الى جبيل وقرأت عنها أنها تتفوق على السيدتين أعلاه. قرأت أن أفراد الفرقة أدوا مقاطع ظهر فيها الصليب على مناطق حساسة من أجسادهم. سكر الحضور على أنغام الموسيقى، شربوا وغنوا ورقصوا وذهبوا فجرا الى بيوتهم ليغطوا في نوم عميق.

ليس في المسألة من غرابة فيما لو حصل هذا الحفل في لوس أنجيلوس أو باريس. فالغرب فصل بين الدين والدولة ولا وجود في الغرب لما يسمى بمدينة ذات طابع ديني باستثناء الفاتيكان. فمدينة تورنتو الكندية لا تعبر عن نفسها كمدينة مسيحية بل مدينة علمانية تحتوي كل أطياف ساكنيها. لكن الامر مختلف في لبنان حيث المدن تأخذ هوية طوائفها. الانسان الغربي يشكل الدين جزأ من هويته الوطنية، بل هو جزء من هويته الفردية، أما الانسان الشرق اوسطي، فالدين يشكل جزأ من هويته الوطنية. فإذا مس دينه شعر بطعنة في داخله وأحس بالخطر الداهم على وجوده. في ظل هذه الأجواء فشل الشعب اللبناني المسيحي مرة أخرى، فالاعتداء على هويته لم يتم في لندن او شيكاغو، بل في جبيل اللبنانية، فيما هو ساكن لم ينبس ببنت شفة.

هل كان من المفترض أن ينزل المسيحي الى الشارع ويكسر ويدمر؟ هل كان عليه حرق الإطارات للتعبير عن استيائه؟ هل كان عليه تدمير المحلات واستهداف الأبرياء؟ هل كان عليه الهجوم على المغنية وفرقتها طلبا للثأر؟ هل كان عليه المطالبة بالموت لمن كان خلف هذه الإهانة لصليبه؟ هل كان عليه الظهور على شاشات التلفزة مطلقا عبارات التهديد والشتائم؟ إطلاقا! فالإنسان الذي يعبر عن نفسه في ثقافة الحاضر بهذه الاساليب هو انسان همجي وغوغائي. لكن كان بالمفترض على الشعب اللبناني أن يعبر عن غضبه، هذا فيما لو كان قد شعر بالغضب، بطريقة حضارية. كان من المفروض أن يتم مساءلة القيمين على هذا المهرجان ومتعهديه. كان من المفروض مقاطعته. كان من المفروض ان يطل رجال الدين والمؤمنين على شاشات التلفزة لمناقشة أبعاد استقدام مثل هذه الفرق. كان من المفروض على علماء الاجتماع تحليل هذه الظاهرة. لكن مرة أخرى، تطربنا الموسيقى، يثملنا الخمر، تتخمنا الطيبات ونحن في غيبوبة.

عندما تقام مثل هذه المهرجانات في الغرب يقاطعها المسيحي ويعترض عليها حضاريا من خلال إعلامه الثقافي والديني، أما عندما تقام عندنا نتهافت عليها مع أنها تشكل تهديدا لقيمنا الأخلاقية ولهويتنا الوطنية والدينية. أترانا شعبا أصيب بالانفصام الثقافي والديني؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انه السعي وراء الملذات الحسية
nasha ( 2016 / 8 / 5 - 03:16 )
لا عليك يا استاذ توني الفكر الاصيل المتماسك اللا متناقض لا يضره الاستهزاء به وبرموزه ولا يؤثر فيه .
بالتأكيد انت لست الوحيد الذي انزعج من هذه الممارسات ولكن كثيرين ايضا وهذا دليل على ان الكثيرين يعتزون بثقافتهم وفكرهم وهذه الممارسات ستؤدي حتما الى التمسك بالهوية الثقافية اكثر.
اما المستهزء والمشارك فهو اصلا خاوي ولا يملك العقلية القادرة على التمييز ما بين الغث والسمين وهو اصلا عبد لشهواته لا اكثر ولا اقل.
دائما يوجد فئة بين البشر همها الوحيد هو الملذات الحسية وفئة اخرى تستغلها من اجل المال وكلا الفئتين غير معنية بالقيم والثقافة العامة.
تحياتي


2 - السعي ورا ء المذات الحسية
طوني سماحة ( 2016 / 8 / 5 - 14:51 )
لا شك عزيزي ناشا انه السعي ورائ الملذات الحسية وهذا ما يحصل عندما يتحول الدين الى مجرد هوية وطنية او حتى دينية ضاربا بعرض الحائط العلاقة بين الله والانسان بين الفادي والمفدي
تحياتي

اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا