الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل العائلة وإرادة الخلود6

محمد سرتي

2016 / 8 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أصل العائلة وإرادة الخلود (الجزء السادس)
قال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ "خالدين" فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك "حزب الله". ألا إن "حزب الله" هم المفلحون). لذلك أستميحكم العذر على جرأة هذا الطرح، أو ربما فظاظته إن أحببتم، فالحقيقة -كما تعرفون- لا تملك الكثير من ترف التواضع.
في البادية يكاد يختفي الشعور بالزمن، فجميع الأيام تشبه بعضها. وحتى الحوادث الجزئية التفصيلية متكررة ودوريه بحيث يمكن التنبؤ تقريباً بكل شيء. أدوات ووسائل المعيشة هي نفسها التي توارثوها منذ آلاف السنين، أو هكذا يعتقدون. وكذلك العادات والتقاليد والأفكار والتصورات والمباديء والسلوكيات، فليس هنالك حراك اجتماعي أو أنساق وظيفية، لأن الجميع متشابهون، فكل فرد منهم نسخة كربونية من الآخر، حتى في اللباس، فضلاً عن الأفكار والقناعات والميول والرغبات والطموحات والتصرفات. حياتهم شبه عدمية، ليس لها هدف واضح سوى الحفاظ على الوضع القائم. لا يوجد وفرة في الممكنات، فالبراكسيس السارتري يكاد يختفي من المشهد. ومع ذلك يصعب إسقاط توصيفات غوستاف لوبون وتحليلات سيغموند فرويد حول سيكولوجيا الحشود على القبيلة البدوية في حال اعتبار شيخ القبيلة قائداً للحشد، فشيخ القبيلة ليس قائداً بمعنى القائد، ولكن مهمته تكاد تتمحور فقط حول الحفاظ على "الأصالة". ماهي الأصالة في مفهومهم؟
باختصار؛ يمكن تلخيص التصور العشائري لمفهوم الأصالة، مجازاً، بعبارة: "عقدة سفينة نوح". ما معنى ذلك؟
بصرف النظر عن التعبير الأسطوري البنيوي، الموازي لأسطورة نوح، لدى الثقافات المختلفة، ستظل النتيجة نفسها من منظور إرادة الخلود. فأركيتايب "سفينة نوح" أكثر قدرة على تفسير ظاهرة الطوطمية من عقدة أوديب، أو حتى من بنية الطبيعة/الثقافة في أنثروبولوجيا ليفي شتراوس، وذلك من جهة تجاوزها (سفينة نوح) لبنية الطبيعة/الثقافة إلى مرتبة ميتابنيوية عليا، أو لنقل: نسق بنيوي سيميائي يحكمه التقابل بين الخلود والفناء. فلسفينة نوح دلالة رمزية، لاشعورية، على الحقبة ما قبل الأرضية، أو حقبة ما قبل الحياة. أي –حسب أسطورة نوح- المرحلة التي كانت فيها البشرية تطفو فوق سطح الماء، متحصنة داخل سفينة الله، أي محمية بحماية القدرة الإلهية، قبل أن ترسو السفينة على اليابسة، ليجد الإنسان نفسه مضطراً لمغادرتها، واضعاً قدمه على الأرض، لتنتهي بذلك مرحلة الحماية الإلهية المطلقة، وتبدأ مرحلة الاعتماد على النفس. بإمكاننا هنا القول أن رهاب الخروج من السفينة وملامسة سطح الأرض يوازي سيكولوجياً رهاب الانفصال كما وصفه روهايم. إلا أن دلالية سفينة نوح أكثر عمقاً من رحم الأم. فالمقابلة بين سفينة نوح قبل الرسو وبعده مقابلة بين الخلود والفناء: الخلود المتمثل بالحماية الإلهية المطلقة من الغرق، والفناء المتمثل بانتفاء تلك الحماية بعد زوال مبرراتها. هنا تلعب إرادة الخلود دورها في وضع الإنسان على مفترق طرق: خيار شجاع بالبحث عن الخلود على الأرض، وخيار آخر بالعودة إلى أحضان السفينة. جدلية الحضارة/البداوة، فبينما اختارت الحضارة الخيار الأول، اختارت البداوة الثاني. فنحن إذاً لا نتحدث عن مجرد حد سيميوطيقي يفصل الحضارة عن البداوة، بل عن هوة سيكولوجية وأنثروبولوجية شاسعة يكاد ردمها يكون مستحيلاً. لذلك عجز الأنثروبولوجيون عن إثبات نشوئية الثقافة العشائرية أو قابليتها للتطور.
في البادية يكادون يحتفظون لكل شيء بمشجرة نسب متصل بسفينة نوح، ولكن لماذا سفينة نوح وليس نوح نفسه؟
نوح هو آدم الثاني. والانتساب إليه كالانتساب إلى آدم، وهذه كارثة بالنسبة للبدوي، لأنها تقضي تماماً على مفهومه للأصالة كخط عودة إلى السفينة. لذلك اختار البدوي الانتساب إلى ذلك الجزء من السفينة، وهو سام بن نوح، كي يظل يشعر بتميزه عن بقية الأجزاء التي فقدت أصالتها وانقطعت بها السبل فوق أرض الجزيرة، فاضطرت للتعايش مع الواقع الأرضي بكل ما يمثله من مخاطر وتهديدات الموت والفناء. ولعل هذا ما يفسر قوله تعالى: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً). فرسالة الإسلام هي الخيار الأول.
جدلية الزمن التي تتجلى في التناول الحضاري لمفهوم الأصالة مقابل نقيضه البدوي تختلف عن تلك التي يطرحها باشلار وبرجسون، فنحن هنا نتجاوز الممكنات الإيقاعية لنتحدث عن مسارين متعاكسين تماماً، يلغي أحدهما الآخر: مسار نحو الماضي، وآخر نحو المستقبل. فالأصالة في المدينة ترتبط بالمكان وتتمحور حوله، بمعنى أن المدينة الأكثر أصالة هي التي تختزن أكبر قدر من الذكريات الزمنية في بقعة جغرافية محددة. بمعنى آخر: لا قيمة للزمن ما لم يترك لنفسه بصمة مادية في المكان. فالمدينة إذاً، بآثارها ومعالمها التاريخية وتعدديتها وتنوعها الثقافي والفكري وحراكها الاجتماعي ودينامية أنساقها الوظيفية.......، إرشيف حي لتراكم الحدث عبر الزمن، أو دالة زمكانية لصيرورة الحياة نحو المستقبل. وذلك يعود لفقدان إنسان المدينة ارتباطه بالماضي، بسفينة نوح تحديداً، فبات يبحث عن الخلود في المستقبل، على عكس إنسان البادية تماماً، الذي يشكل له ارتباطه الرومانسي بسفينة نوح نوعاً من التجاوز السيكولوجي للقلق الوجودي تجاه الفناء.
إن الطابع اللامكاني للصحراء يشبه، إن لم يتطابق مع مرحلة ما قبل الرسو على اليابسة. فالحياة في الصحراء غير قابلة للاستقرار، ترحال دائم، تماماً كالسفينة في عرض البحر، تحيط بها امواج الرمال التي لا تفتأ تطمس معالم المكان، حتى العشب والكلأ موسمي، لا يلبث يظهر حتى يختفي. هنا يصبح الزمن مجرداً عن المكان، أو منفصلاً عنه، فلا يدل أحدهما على الآخر، وبالتالي: لا حراك، لا صيرورة، لا أحداث، ولا تاريخ. فعقارب الساعة متوقفة في حقبة ما قبل العالم، ما قبل الحياة، ما قبل القلق الوجودي تجاه الفناء. هذا الشعور بالخلود الوهمي في الماضي هو ما لا يود البدوي فقدانه، لذلك يقاتل بشراسة ضد التغيير، ويصيبه الرعب والهلع من كل ما يتهدد نسبه المتصل بذلك الأب الأسطوري القابع في سفينة نوح.
قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) اختلف المفسرون كثيراً في هذه الآية، وذلك يرجع لغموضها من ناحية، ولتعارضها الصارخ مع النسق التوحيدي للإثنوغرافيا الإسلامية من ناحية أخرى، بل ولاصطدامها العنيف مع عبارة "لا إله إلا الله" التي تمثل بوصلة التوجيه والتحكم في هذا النسق. فهل يوجد ما هو أكثر بديهية من دلالة هذه الآية على تساهل القرآن مع عبادة الآباء في المجتمع العشائري؟! لدرجة أن الله لم يطالبهم بالتوقف عن عبادة آبائهم دفعة واحدة، لعلمه بمدى صعوبة ذلك على نفوسهم. ولكنه فقط اكتفى –بداية- بالطلب منهم أن يشركوه مع آبائهم في العبادة (كذكركم آباءكم)! وحبذا لو فضلوه قليلاً على آبائهم، إن استطاعوا (أو أشد ذكراً).
نحن هنا خياراتنا محدودة: فإما أن نعتبر هذه الآية محرفة، أو مدسوسة في القرآن. وإما أن نتعامل مع الخطاب القرآني كخطاب دينامي يعتمد التدرج الدعوي من جهة، والهيرارشية العرفانية من جهة أخرى، والتي تقسم البشر إيمانياً وعرفانياً إلى خمسة مراتب هرمية: أدناها الربوبية، ثم الرحمانية، ثم الألوهة، ثم الأحدية، وأخيراً مرتبة العرفان الكامل والتلاشي الروحي المطلق في الذات الإلهية، وهي مرتبة النبوة والإمامة والقطبية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وبذلك تخاطب هذه الآية فقط الفئة التي لا تمتلك –فطرياً- أي قدرة روحانية على تجاوز المرتبة الإيمانية الدنيا (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً، فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب). وهذه المرتبة (الربوبية) في الحقيقة ليست إيمانية بمعنى الإيمان، بل هي أقرب إلى الكفر منها إلى الإيمان (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً) لذلك لم يكلفهم الله بأكثر من طاقة نفوسهم (كذكركم آباءكم، أو أشد ذكراً) ولذلك أيضاً فرق الله في القرآن بين مجرد الانتماء إلى الإسلام، وبين الإيمان الحقيقي برسالته (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).
طوطمية عبادة الآباء هي ضرب من التمظهر السيكوباثي لكوامن خوفهم ورعبهم من مواجهة اليابسة، من مواجهة الحياة والموت. فهرعوا للبحث عن حضن يحميهم، ينقذهم، ويعيدهم إلى دفء السفينة الخالدة. وبالطبع؛ ليس حضن الأم الضعيفة ما يفي بالغرض، بل حضن أب خارق القدرة، قدمه على اليابسة، والأخرى لاتزال في السفينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا


.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني




.. مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح