الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما نحاور إرنست غلنر: الانقسامية أساس السلطة والدين في المجتمع المغربي

محمد قروق كركيش

2016 / 8 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات العربية الإسلامية شكل نموذجا مهما لبعض الدراسات التي حاولت أن تفسر بنياته الاجتماعية اعتمادا على عدة مناهج، فمنذ الدراسات الإستشراقية التي شكلت المنبع الأول في دراسة المجتمعات الإسلامية إلى تلك الدراسات التي اعتمدت النموذج الكولونيالي أو ما يسمى بالإرث الكولونيالي الفرنسي الذي مثله روبير مونتاني أحسن تمثيل في المجتمع المغربي.
كل تلك الدراسات بوصفها عملا بحثيا ونموذجا تحليليا جديدا سيدشن لسوسيوأنثروبولوجيا أنكلوساكسونية حول المجتمع المغربي الذي أصبح بلدا يستقطب اهتمام باحثين من نفس الطينة منذ سنة 1960، ففي الفترة نفسها سوف تبدأ الأنثروبولوجيا الأنكلوساكسونية في اكتشاف المجتمع المغربي من خلال استخدام فرضيات وأطر تحليلية تنتمي إلى ما سيعرف بالأطروحة الانقسامية التي قادها واعتمدها مجموعة من الباحثين الأنكلوسكسون وعلى رأسهم دافيد هارت و جون واثر بوري و كليفورد غيرتز و إرنست غلنر الذي يهمنا في هذا السياق، فما المقصود هنا بالنظرية الانقسامية؟ وما هي خصائصها الرئيسية التي تنبني عليها؟ وما هي المرجعيات التي اعتمد عليها غلنر في تبنيه لهذه النظرية؟ وكيف قارب من خلالها المجتمع المغربي؟
في البداية يمكن القول بأن النظرية الانقسامية ارتبطت بشكل أساسي بالدراسات الأنثروبولوجية والأبحاث الأنكلوسكسونية، إلا أن هذه النظرية ترجع جذورها إلى عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم وعلى وجه الخصوص في كتابه المعنون بــ"في تقسيم العمل الاجتماعي" حيث يميز بين نوعين من التضامن؛ الأول تضامن عضوي ينبني بشكل ملموس على تقسيم العمل الذي نجد فيه نوع من الاختلاف والتباين، أما الثاني فهو تضامن آلي ينتابه نوع من التشابه على مستوى التقسيم الحرفي، إلا أن إيفان بريتشارد يعد أهم من صاغ هذه النظرية بشكل عملي حينما قدم دراسته الرئيسية عن المجتمعات البدائية التقليدية وخصوصا عند دراسته لقبائل "النوير بجنوب السودان"، وبالتالي أسس لنظرية متكاملة تجمع ما بين الفلسفة النظرية والعملية لما سيعرف بالنظرية الانقسامية التجزيئية فيما بعد.
وحري بنا القول أن أول من حاول تطبيق هذه النظرية في المجتمع المغربي هم زمرة من الباحثين والعلماء في هذا الميدان من بينهم؛ دافيد هارت الذي قدم دراسة وافية عن قبائل بني ورياغل و جون واثر بوري الذي قدم دراسات بعينها تهم نسق السلطة والمجال السياسي المغربي، وأيضا إرنست غلنر في مونوغرافيته الشهيرة "صلحاء الأطلس" وغيرهم كثير.
إن المجتمع الانقسامي حسب ما تبديه هذه النظرية ينقسم بشكل دائم إلى عدد من الأجزاء المتشابكة فيما بينها تشكل هندسة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، ما يربط بينها هو عامل الانتساب إلى نفس الأب أو الجد أو المؤسس الأول؛ وهو ما يصطلح في الأدبيات الأنثروبولوجية على تسميته بـ الجد المشترك ، ومن طبيعة هذه الأجزاء أنها تكون متصارعة أحيانا، وفي أحيان أخرى تكون متوحدة، وهو مبدأ ناظم يحكم المجتمع الانقسامي تحت مسمى لعبة الانصهار والانشطار التي تلعب دورا مهما في الحفاظ على بقاء النظام من عدمه، فهي تمنع الانفجار وبالتالي تبقي هذه الأجزاء متكاملة في العمق. زد على ذلك أنه من خصائص المجتمع الانقسامي أيضا أنه يجهل تقسم العمل وبالتالي تنعدم فيه الإستراتيجية الاجتماعية المبنية على تقاسم الأدوار، وبالتالي يبقى المجتمع الانقسامي محافظا على أكبر قدر من المساواة. أما الخاصية الأخرى فتتمثل في أن الزعيم الديني يظل هو محور عملية التحكيم في كل تلك الأجزاء، فهو يمنع حدوث الانفجار، وبالتالي يلعب دور الوساطة بين الأطراف ولا يتدخل في الصراعات.
إذن كل هذه الخصائص رأى فيها غلنر نموذجا يمكن تطبيقه في المجتمع المغربي، وبالتالي برز التحليل الانقسامي في الإرث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي مع المدرسة الأنكلوسكسونية بالأساس، كما تزامن هذا الاهتمام مع بداية تفكك القبائل وتصاعد سيطرة الحكم المركزي.
وقبل أن نبدأ بوضع ملامح التحليل الذي وضعه غلنر وقدمه حول المجتمع المغربي ينبغي أن نبين المرجعيات الأساسية التي اعتمد عليها في دراسته لمجتمعنا المغربي وكذا لتبنيه النموذج الانقسامي، حيث أنه في هذا المستوى يمكن القول أن غلنر يعد من المساهمين البارزين في تطور نظريات العلوم الاجتماعية حول الإسلام والعالم الإسلامي أو ما سيعرف لاحقا بأنثروبولوجيا الإسلام؛ غير أن المغرب شكل حقل اختبار تلك النظريات والفرضيات التي اشتغل عليها غلنر، فهو يقارب بأبحاثه الكيفيات التي يتعايش بها المجتمع مع الدين؛ معتمدا في ذلك على سلوك المجتمع وحياته اليومية وروابطه الداخلية وتحديدا على الدورة اليومية للحياة الدينية أكثر من الاعتماد على النصوص مستنتجا الفروق الكبيرة لتلك الحياة الدينية بالمقارنة مع بيئة وجوده سواء في القبيلة أو في المدينة.
إن كل ما قدمه إرنست غلنر في نموذجه نجد ملامحه عند كل من ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن المجتمع المغاربي، ومن إيميل دوركهايم والنظرية الانقسامية التي ألَّفَ صرحها البريطاني إيفان برتشارد ، كما عَد البعض أن غلنر استلهم بعض الأفكار من بعض الدراسات التي قدمها كل من هانوتو و لوتورنو حول القبائل البربرية المسماة بدائية/تقليدية الملمح والنظام، وكذلك أيضا من روبير مونتاني الذي سبق أن قدم بحثا ضخما حول بنيات الأطلس الكبير الذي استنتج من خلاله أن القبائل البربرية في المغرب تتصف بالانقسامية والهامشية. لذلك يمكن القول مباشرة بأن النموذج النظري الذي صاغه غلنر لدراسة المجتمع المغربي يستند على عدة مرجعيات كان أساسها الأول ينبني على النموذج النظري لإبن خلدون والفلسفة العامة لإميل دوركهايم، فما هي خصائص وطبيعة المقاربة التي قارب بها غلنر المجتمع المغربي في ظل النظرية الإطار-الانقسامية- التي اعتمدها لتفكيك بنيات المجتمع المغربي؟
على غرار ذلك نقول بصريح العبارة أن إرنست غلنر طبق النظرية الانقسامية على المجتمع المغربي من خلال بحثه المعنون بـ"صلحاء الأطلس"؛ حيث يظهر جليا أنه اتخذ من الأطلس المتوسط مجالا خصبا لبحثه، وبالضبط محور قبائل أحنصال ، فقد نشر البحث أول الأمر سنة 1969 بجامعة شيكاغو، وهو هنا يحاول الإجابة على سؤال مركزي مفاده:كيف تنتظم الحياة الاجتماعية في قبائل الأطلس في غياب سلطة مركزية؟ أو بعبارة أخرى كيف يتم الحفاظ على الاستقرار والأمن في غياب جهاز الدولة؟
يبدو إذن أن السؤال الذي طرحه غلنر ذو طبيعة سياسية وهو في العمق سؤال يريد الكشف عن طبيعة البناء الذي يحكم نسق السلطة في الأطلس المتوسط الذي هو نسق متشابك يكاد السياسي فيه لا ينجلي أمام الديني، والاجتماعي أمام الثقافي؛ أي أنه سؤال هندسي المراد منه تفكيك البنية العامة لقبائل أحنصال، حيث أنه لفهم النموذج الذي قدمه غلنر ينبغي أن نقدم العناصر التي تحكمه وهي كالتالي:
1- دور النسب الأبوي والقرابة؛
2- هيمنة مبدأ الانصهار والانشطار؛
3- التداخل والتعارض في طريقة اشتغال النظام القبلي؛
4- المساواة الاجتماعية؛
5- دور الصلحاء حسب موقفهم الرمزي والديني في استمرارية التنظيم الاجتماعي؛
إن كل تلك العناصر المقدمة أخذها غلنر بعين الاعتبار في دراسته للقبائل المغربية، فهو يرى أن المجتمع في هذه القبائل ينتظم بشكل تلقائي في ظل غياب السلطة المركزية، بل يعتبر أن الأجزاء التي يتكون منها المجتمع هي دائما في تعارض مستمر، هذا التعارض هو الذي يسمح في نفس الوقت بالتلاحم بين العناصر المشكلة للنسق، إن أساس هذا التعارض والتناقض يقول غلنر يستند على التساوي مما يحقق النظام، كما أن سلطة الزعماء السياسيين تكون ضعيفة في مثل هذه المجتمعات التقليدية، بل إن السلطة كأداة عملية تكون موزعة بالتساوي وبالتالي تتميز بنوع من المساواة الأمر الذي يمنع تمركز السلطة في يد واحدة؛ وهذا العامل أيضا يسمح بضمان النظام والانسجام في المجتمع، مما جعله يقول بأن سلطة الولي أو الصالح/الشريف مصدرها من الله، وبالتالي فهي تتميز بنوع من اللامساواة؛ أي اعتبارها موهوبة من السماء نحو الأرض وعلى هذا الأساس يتسم دوره بطابع الحياد، فهو يشغل دور الوسيط بين كل الأجزاء المتناقضة، لذلك فمهمته هي حل النزاعات ولا يتدخل في أي صراعات ممكنة الحصول دون أيضا أن يكون ميالا لأي طرف أو قسم أو طبقة من أقسام المجتمع القبلي، لذلك فهو يعود ليميز بين بنية المجتمع التي تتميز بالمساواة بين الأجزاء وبنية القداسة التي تتميز بنوع من اللامساواة باعتبارها وراثية، الأمر الذي يجعل الزعماء الحقيقيون هم الصلحاء والرعايا هم القبائل، في حين يخلص غلنر أيضا إلى أن الدين الإسلامي في هذه القبائل يتميز بطابعه المشخصن/الواقعية في غياب الطهورية/النسكية الأمر الذي يجعله يقول بأن القبائل المغربية تستجيب فعلا للنموذج الانقسامي في طبيعتها النمطية.
فإذا كانت القبائل حسب غلنر تنعدم فيها آليات تمركز السلطة في ظل غياب جهاز الدولة في الحياة التنظيمية فإنها إذن تعيش في حالة من السيبة ذلك أن هذه القبائل لا تعترف بسلطة المخزن الزمنية، كما أنها ترفض أداء الضرائب، وبالتالي فالمجتمع المغربي ليس إلا عبارة عن قبائل مستقلة سياسيا متوحدة دينيا. إن هذه النقطة هي بالذات ما يشير إليها روبير مونتاني في كتابه "البربر والمخزن" حيث ميز بين بلاد الشرع؛ أي تلك التي تعترف بالجهاز الأمني، وبلاد السيبة التي لا تعترف بهذه السلطة وذلك استنادا إلى الظهير البربري الذي صدر سنة 1930 لتفرقة المجتمع المغربي وتفكيكه من أجل اختراقه أمنيا إبان الحماية.
إن إرنست غلنر في دراسته هذه يلتقي مع روبير مونتاني في هذه النقطة وهي خلاصته إزاء طبيعة القبائل الحنصالية، إلا أن الدراسات السوسيولوجية والتاريخية البعدية أكدت على أن علاقة القبائل المغربية بالمخزن لم تكن علاقة قطيعة إلا في فترات كانت تتزايد فيها شدة الحروب بين المستعمر حيث كانت بعض القبائل ترفض تسليم السلاح دفاعا وحفاظا على حدود ترابها، بل إن القبائل كلها في الأصل كانت تعترف بالشرعية الدينية للمخزن عن طريق البيعة التي تمنحها للسلطان لتجدد ولاءها له على مر العصور، مما يعني أن الروابط الروحية كانت متينة بينهم، ناهيك عن تلك الفترات التي كانت فيها القبائل المغربية في حالات تمرد وحرب ضد العدو الخارجي والتي كانت تظهر على أن القبائل المغربية كما لو أنها منشطرة عن نظام الحكم في طبيعته السياسية، والحق أنه في هذه الفترة كان النظام السياسي منشطر أصلا وفي يد المستعمرين من الفرنسيين والإسبان الأمر الذي لعب عليه بعض السوسيولوجيين الذين كان غرضهم استعماري بالضرورة.
إن ما قدمه إذن غلنر كان مبنيا في الأصل على نموذج جاهز ومسبق هو في طبيعته النظرية الانقسامية التي اعتمدها كثيرون في إطار بحثهم المستمر عن ملامح وطبيعة البنيات التي تحكم مجتمعا صاعدا اسمه المغرب، حيث ستأتي فيما بعد أطروحات لسوسيولوجيين وأنثروبولوجيون آخرون ينتمون إلى بلدان مختلفة سوف يرون في النظرية الانقسامية ضعفا لا يمكن أن يؤدي بنا إلى فهم عميق لبنيات المجتمع المغربي وطبيعته الأصيلة، بل سيرون أنها حكم مسبقا وغير مجدي بحثا عن نموذج جديد ربما يكون من صميم هذا المجتمع نفسه قصد فهم ملامحه وأنماطه وطبيعته دون أن يؤتى به مسبقا لينزل كقالب يعقد طبيعة المجتمع أكثر ما يوضحها.

بعض المراجع حول الموضوع:
1- عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق (ترجمة): الأنتروبولوجيا والتاريخ، دار توبقال، 2007.
2- أحمد ويحمان: إضاءة على النظرية الانقسامية، مجلة وجهة نظر، عدد 29، 2009.
3- Gellner (E) : Saints of the Atlas, London,1969.
4- Gellner (E) : Pouvoir politique et fonction religieuse dance l’Islam marocain, A.E.S.C, Mai-Juin, 1970.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس